تمر اليوم ذكرى استشهاد سيد الشهداء الحسين بن على بن أبى طالب، حفيد النبى عليه الصلاة والسلام، على يد قتلته بنى أمية فى كربلاء يوم عاشوراء.
يقول عباس محمود العقاد فى كتاب "أبو الشهداء.. الحسين بن على"..
كان مقتل مسلم بن عقيل في التاسع من ذي الحجة ليلة العيد، وكان خروج الحسين من مكة قبل ذلك بيوم واحد، فلم يسمع بمقتله إلا وهو فى آخر الطريق.
ولما شارف العراق أحب أن يستوثق مرة أخرى قبل دخوله، فكتب إلى أهل الكوفة كتابًا مع قيس بن سهر الصيداوى يخبرهم بمقدمه ويحضهم على الجد والتساند، فوافى قيس القادسية وقد رصد فيها شرط عبيد الله فاعتقلوه وأشخصوه إليه، فأمره عبيد الله أن يصعد القصر فيسب الحسين بن عليّ وينهى الناس أن يطيعوه.
فصعد قيس وقال: "أيها الناس، إن هذا الحسين بن عليٍّ خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم! وقد فارقته بالحاجز فأجيبوه، والعنوا عبيد الله بن زياد وأباه".
فما كان منهم إلا أن قذفوا به من حالق، فمات.
وحدث مثل هذا مع عبد الله بن يقطر، فأبى أن يلعن الحسين، ولعن عبيد الله بن زياد، فألقوا به من شرفات القصر إلى الأرض فاندكت عظامه ولم يمت، فذبحوه.
وجعل الحسين كلما سأل قادمًا من العراق أنبأه بمقتل رسول من رسله أو داعية من دعاته، فأشار عليه بعض صحبه بالرجوع، وقال له غيرهم: "ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع".
ووثب بنو عقيل فأقسموا لا يبرحون حتى يدركوا ثأرهم أو يذوقوا ما ذاق مسلم.
ولم ير الحسين بعد ذلك أن يصحب معه أحدًا إلا على بصيرة من أمره وما هو لاقيه إن تقدم ولم ينصرف لشأنه، فخطب الرهط الذين صحبوه وقال لهم: "وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحب منكم أن ينصرف فلينصرف، ليس عليه منا ذمام".
فتفرقوا إلا أهل بيته وقليلًا ممن تبعوه في الطريق.
الحسين والحر بن يزيد
والتقى الركب عند جبل ذي حسم بطلائع جيش عبيد الله يقودها الحر بن يزيد التميمي اليَرْبوعيُّ في ألف فارس، أمروا بأن لا يدعوا الحسين حتى يقدموا به على عبيد الله في الكوفة.
فأمر الحسين مؤذنه بالأذان لصلاة الظهر، وخطب أصحابه وأصحاب الحر بن يزيد فقال:
أيها الناس، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ورسلكم أن أقْدِم علينا فليس لنا إمام؛ لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق. فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا أو كنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه.
فلم يجبه أحد.
فقال للمؤذن: أقم الصلاة!
وسأل الحر: أتريد أن تصلي أنت بأصحابك وأصلي بأصحابي؟
فقال الحر: بل نصلي جميعًا بصلاتك.
•••
ثم تياسر الحسين إلى طريق العذيب، فبلغها وفرسان عبيد الله يلازمونه، ويصرون على أخذه إلى أميرهم، وصده عن وجهته حيثما اتجه غير وجهتهم، فأقبل عليهم يعظهم وهم يصغون إليه، فقال:
أيها الناس! إن رسول الله ﷺ قال: "من رأى سلطانًا جائرًا مستحلًّا لحرم الله مخالفًا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقًّا على الله أن يدخله مدخله". ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالغي، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غيري، وقد أتتني كتبكم ورسلكم ببيعتكم وأنكم لا تسلمونني ولا تخذلونني، فإن بقيتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن علىٍّ وابن فاطمة بنت رسول الله ﷺ، نفسي مع أنفسكم وأهلي من أهلكم، فلكم فيَّ أسوة. وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي، وخلعتم بيعتي، فلعمري ما هي لكم بنكير، والمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم. ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم، والسلام.
فأنصت الحر بن يزيد وأصحابه، ثم توجَّه إليه يحذره العاقبة، وينبئه: "لئن قاتلت لتُقتلن!"
فصاح به الحسين: أبالموت تخوفني! ما أدرى ما أقول لك، ولكني أقول كما قال أخو الأوس لابن عمر وهو يريد نصرة رسول الله، فخوَّفه ابن عمر وأنذره أنه لمقتول فأنشد:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى خيرًا وجاهد مسلمَا
وآسى الرجال الصالحين بنفسه وخالف مثبورًا وفارقَ مجرمَا
فإن عشت لم أندم، وإن مت لم أُلَم كفى بك ذلًّا أن تعيش وترغما
•••
ثم سار الرَكْبَانِ ينظر بعضهما إلى بعض كلما مال الحسين نحو البادية أسرع الحر بن يزيد فرده نحو الكوفة. حتى نزلا بنينوى، فإذا راكب مقبل عليه بالسلاح، يحيي الحر ولا يحيي الحسين، ثم أسلم الحر كتابًا من عبيد الله يقول فيه: "أما بعد؛ فَجَعْجِع بالحسين حتى يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء. وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام."
فلما بدا من الحر بن يزيد أنه يريد أن ينفذ أمر عبيد الله بن زياد ويخشى رقيبه الذي أُمِرَ ألا يفارقه حتى ينفذ أمره، قال أحد أصحاب الحسين — زهير بن القين: إنه لا يكون واللهِ بعد ما ترون إلا ما هو أشد منه، يابن رسول الله! إن قتال هؤلاء أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم، فلعمري ليأتينَّا من بعدهم ما لا قِبَل لنا به، فهلمَّ نناجز هؤلاء.
فأعرض الحسين عن مشورته وقال: إني أكره أن أبدأهم بقتال.
عمر بن سعد
وكان الديلم قد ثاروا على يزيد بن معاوية، واستولوا على دَسْتَبِي بأرض همذان، فجمع لهم عبيد الله بن زياد جيشًا عدته أربعة آلاف فارس بقيادة عمر بن سعد بن وقاص الذي يذكر الديلم اسم أبيه — سعد — فاتح بلادهم، وقد وعد بولاية الري بعد قمع الثورة الديلمية، فلما قدم الحسين إلى العراق قال عبيد الله لعمر: نفرغ من الحسين ثم تسير إلى عملك.
فاستعفاه، وعلم عبيد الله موطن هواه فقال له: نعم نعفيك على أن ترد إلينا عهدنا.
فاستمهله حتى يراجع نصحاءه، فنصح له ابن أخته حمزة بن المغيرة بن شعبة — وهو من أكبر أعوان معاوية — ألا يقبل مقاتلة الحسين، وقال له: والله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض لو كان لك، خير من أن تلقى الله بدم الحسين.
•••
وبات ليلته يقلب وجوه رأيه، حتى إذا أصبح ذهب إلى ابن زياد، فاقترح عليه أن يبعث إلى الحسين من أشراف الكوفة من ليس يغني في الحرب عنهم، فأبى ابن زياد إلا أن يسير إلى الحسين أو ينزل عن ولاية الري، فسار على مضض وجنوده متثاقلون متحرِّجون، إلا زعانف المرتزِقة الذين ليس لهم من خلاق.
وكان جنود الجيش يتسللون منه ويتخلفون بالكوفة، فندب عبيد الله رجلًا من أعوانه — هو سعد بن عبد الرحمن المنقري — ليطوف بها ويأتيه بمن تخلَّف عن المسير لقتال الحسين، وضرب عنق رجل جيء به وقيل: إنه من المتخلفين. فأسرع بقيتهم إلى المسير.
وقد أدرك الجيش الحسين وهو بكربلاء، على نحو خمسة وعشرين ميلًا إلى الشمال الغربي من الكوفة، نزل بها في الثاني من المحرم سنة إحدى وستين.
وخلا الجو في الكوفة لرجلين اثنين يسابق كلاهما صاحبه في اللؤم وسوء الطوية، وينفردان بتصريف الأمر في قضية الحسين دون مراجعة من ذي سلطان، وهما عبيد الله بن زياد، وشمر بن ذي الجوشن.
عبيد الله المغموز النسب الذي لا يشغله شيء، كما يشغله التشفي لنسبه المغموز من رجل هو — بلا مراء — أعرقُ العرب نسبًا في الجاهلية والإسلام، فليس أشهى إليه من فرصة ينزل فيها ذلك الرجل على حكمه، ويشعره فيها بذله ورغمه.
شمر بن ذي الجوشن
شمر بن ذي الجوشن الأبرص الكريه الذي يمضه من الحسين ما يمض كل لئيم مشنوء من كل كريم محبوب وسيم.
وكان كلاهما يفهم لؤم صاحبه، ويعطيه فيه حقه وعذره، فهما في هذه الخلة متناصحان متفاهمان!
ولم يكن أيسر من حل قضية الحسين على وجه يرضي يزيد، ويمهد له الولاء في قلوب المسلمين ولو إلى حين، لولا ذلك الضغن الممتزج بالخليقة الذي هو كسُكْرِ المخمور لا موضع معه لرأي مصيب، ولا لتفكير في عاقبة بعيدة أو قريبة.
فالحسين في أيديهم ليس أيسر عليهم من اعتقاله وإبقائه بأعينهم في مكان ينال فيه الكرامة ولا يتحفز لثورة.
لكنهما لم يفكرا في أيسر شيء، ولا أنفع شيء للدولة التي يخدمانها، وإنما فكرا في النسب المغموز والصورة الممسوخة، فلم يكن لهما من هَمٍّ غير إرغام الحسين وإشهاد الدنيا كلها على إرغامه.
تلقى ابن زياد من عمر بن سعد كتابًا يقول فيه إن الحسين «أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي أقبل منه أو أن نسيره إلى أي ثغر من الثغور شئنا، أو أن يأتي يزيد فيضع يده في يده».
والذي نراه نحن من مراجعة الحوادث والأسانيد أن الحسين ربما اقترح الذهاب إلى يزيد ليرى رأيه، ولكنه لم يعدهم أن يبايعه أو يضع يده في يده؛ لأنه لو قَبِلَ ذلك لبايع في مكانه، واستطاع عمر بن سعد أن يذهب به إلى وجهته، ولأن أصحاب الحسين في خروجه إلى العراق قد نَفَوْا ما جاء في ذلك الكتاب، ومنهم عقبة بن سمعان حيث كان يقول: «صحبت الحسين من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى العراق، ولم أفارقه حتى قُتِلَ، وسمعت جميع مخاطباته إلى الناس إلى يوم قتله، فوالله ما أعطاهم ما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد، ولا أن يسيروه إلى ثغر من الثغور»، ولكنه قال: «دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس.»
•••
ولعل عمر بن سعد قد تجوَّز في نقل كلام الحسين عمدًا؛ ليأذنوا له في حمله إلى يزيد فيلقي عن كاهله مقاتلته وما تجر إليه من سوء القالة ووخز الضمير، أو لعل الأعوان الأمويين قد أشاعوا عن الحسين اعتزامه للمبايعة ليلزموا بالبيعة أصحابه من بعده، ويسقطوا حجتهم في مناهضة الدولة الأموية.
وأيًّا كانت الحقيقة في هذه الدعوى فهي تكبر مأثمة عبيد الله وشمر ولا تنقص منها، ولقد كانا على العهد بمثليهما؛ كلاهما كفيل أن يحول بين صاحبه وبين خالجة من الكرم تخامره أو تغالب اللؤم الذي فُطِرَ عليه، فلا يصدر منهما إلا ما يوائم لئيمين لا يتفقان على خير.
وكأنما جنح عبيد الله إلى شيء من الهوادة حين جاءه كتاب عمر بن سعد، فابتدره شمر ينهاه، ويجنح إلى الشدة والاعتساف، فقال له: أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك! والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة، ولتكونن أولى بالضعف والعجز؛ فلا تعطه هذه المنزلة، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت كنت ولي العقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك.
ثم أراد أن يوقع بعمر ويتهمه عند عبيد الله؛ ليخلفه في القيادة، ثم يخلفه في الولاية، فذكر لعبيد الله أن الحسين وعمر يتحدثان عامة الليل بين المعسكرين.
فعدل عبيد الله إلى رأي شمر وأنفذه بأمر منه أن يضرب عنق عمر إن هو تردد في إكراه الحسين على المسير إلى الكوفة أو مقاتلته حتى يقتل. وكتب إلى عمر يقول له:
أما بعد … فإني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتطاوله ولا لتعتذر عنه ولا لتقعد له عندي شافعًا. انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على الحكم واستسلموا فابعث بهم إليَّ مسلمًا، وإن أَبَوْا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون. فإن قُتِلَ الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره فإنه عاق مشاق قاطع ظلوم. فإن أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أنت أبيت فاعتزل جندنا وخَلِّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، والسلام.
وختمت مأساة كربلاء كلها بعد أيام معدودات.
ولكنها أيام بقيت لها جريرة لم يحمدها طالب منفعة ولا طالب مروءة، ومضت مئات السنين وهي لا تمحو آثار تلك الأيام في تاريخ الشرق والإسلام.