الناقد أحمد حسن عوض يكتب: مقابلة المرايا المتقابلة

الأربعاء، 17 يوليو 2024 03:46 م
الناقد أحمد حسن عوض يكتب: مقابلة المرايا المتقابلة أحمد حسن عوض

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

سمير مندي، أحد أبرز نقادنا المتحققين في مشهدنا  النقدي المعاصر، وله كتاباته العميقة ذات النزعة العلمية الأصيلة واللغة الأدبية الممتعة والمنضبطة في آن يعمل بدأب على تنمية مشروعه النقدي لاسيما في مجال السرد الذي أبدع فيه عددا من الكتب الجديرة بالتوقف والتأمل.

والحق أن إحدى أزمات جيلنا النقدي تكمن في أن أغلبنا لا يهتم بقراءة ما يكتبه الآخر وإن قرأ فهي قراءة سريعة عابرة  تكتفي بالتحية أو التعليق العابر على صفحات التواصل الاجتماعي.
وفي تقديري أننا في تلك اللحظة الثقافية المرتبكة نحتاج إلى "الحوار" و"التأمل" ونحتاج إلى "المحبة" والتحرك نحو الآخر والانعتاق من دوائر الأنا المتعالية والخروج من نزعات "الإقصاء" أو "التهميش" أو "الاستهانة"، والتفكير مرة أخرى في جدوى العمل الجماعي والتفكير في المشروعات الأدبية والنقدية الكبرى فربما ننهض من كبوتنا الثقافية ونسهم ولو بدور ضئيل في صنع معنى ما أو تجسير فجوة ما.

المرايا المتقابلة
المرايا المتقابلة

أعرف أننى ربما أطلت في المقدمة وخرجت عن السياق لكننى في الآن ذاته أجدني قد اقتربت من هدفي محاولا إلقاء بعض الأضواء القليلة على "كتاب المرايا المتقابلة" قراءة في أوراق السرد، للناقد الدكتور سمير مندى إذ استرعى انتباهي منذ البدء  في مطالعة الكتاب ذلك السعي المنهجى اللافت  في محاولته تثمين فكرة دور "النص" فلسفيا  وسرديا  ونقديا باعتباره رسالة ذات مغزى، بالإضافة إلى تأكيده اتساع معنى "النصية" بظلالها الأدبية التقنية التي تجاوز المكتوب إلى رمزيات واستعارات المرئي والمحسوس والمسموع؛ مما يعكس رغبة حقيقية في الخروج من "سجن النسق" إلى "فضاء العالم" في معناه السردي الأشمل، إذ أضحى السرد الآن يصل بين كل وجوه النشاط الإنساني ويتغلغل فيها. وقد اعتمد سمير مندي في رؤيته على ثنائية الموروث والوافد الغربي فضلا عن ثنائية النقد والسرد الحديث عبر التأمل في بعض آراء جابر عصفور وبعض أعمال نجيب محفوظ.
حيث يتمثل حضور  الموروث عند سمير مندى في العودة إلى الجذر الفلسفي لدى الفارابي في رؤيته الفلسفية ذات المرجعية الإسلامية وتفعيله دور الخيال إلى جانب العقل مرورا بتوضيح دلالة مصطلح الأقاويل الشعرية الذي يجاوز انحصاره في جنس الشعر ويلتقي بمفهوم الشعرية لدى أرسطو  في مقارباته للملحمة والمأساة والملهاة ثم الإشارة إلى منعطفات التحول من الفلسفة إلى التصوف مرورا بتمثيل الفلاسفة والمتصوفة لأفكارهم من خلال القص والرمز،  كما نرى في قصة حي بن يقظان عبر معالجاتها الثلاثة لدى ابن سينا  ثم ابن طفيل ثم السهروردي الذي تناول القصة تحت عنوان "الغربة الغريبة"،  ثم الإشارة إلى دور ابن عربي في تحرير مفهوم الخيال وإكسابه ظلالا معرفية فارقة (في إطار تحول الفلسفة إلى التصوف بباعث من أسباب متعددة كان أهمها كتابا أبي حامد الغزالي : تهافت الفلاسفة والمنقذ من الضلال).
ويتجلى وعي سمير مندي بالوافد الغربي عبر تعامله وتمثله العميق لتجربة بول ريكور في تطوير مفهوم السرد  وتوسيع مجالاته وحقوله المعرفية لاسيما أن ناقدنا له باع طويل وتمرس لافت في التعامل مع ريكور، وقراءته بلغته الفرنسية التي يتقنها ويترجم منها،  يتجلى ذلك في  كتابيه: "الذاكرة والسرد حوارات بول ريكور" و"دوائر التأويل لدى بول ريكور"  بالإضافة إلى تمثله جهود عدد كبير من النقاد وفلاسفة التأويل مثل هانز جورج جدامر ورولان بارت  وجاستون باشلار  وجيل دولوز  وغيرهم، فضلا عن إلمامه بالمشهد النقدي العربي المعاصر -مؤلفا ومترجما-عبر جناحي: علم السرد من ناحية والقراءة والتأويل من ناحية أخرى.

غلاف المرايا
غلاف المرايا


وأخيرا تأمله اللافت في بعض تجارب نجيب محفوظ المفصلية : الشحاذ والطريق والتنظيم السري في ضوء علاقته بموروثه الفلسفي الإسلامي باعتباره المهيمن بمحدداته البنيوية الكبرى بالإضافة إلى توقفه أمام تجربة جابر عصفور سواء في رؤيته الكلية للتراث باعتباره "مجالا معرفيا كبيرا تتبادل تحت مظلته مجالات معرفية أصغر" أم في رؤيته  الخاصة للصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب واعتماده على ظاهرة "الخيال المتعقل" لدى الشعراء القدامى، متجاهلا الموروث الصوفي، ومتأثرا بالمدرسة البنيوية التي تميل إلى التخلص من الهوامش الخارجة على الأنساق.
بالإضافة إلى تأويله الذكي  في سياق التعامل مع النقاد الفلاسفة معلقا على مشروع زكي نجيب محمود كله بحسبانه حوارا حضاريا مع قصة حي بن يقظان، رافدا تأويله بالإشارة إلى القرائن النصية المتمثلة في استشهادات زكي نجيب محمود الكثيرة بقصة حي بن يقظان.
والكتاب يعيد في عمقه المعرفي التأكيد على أهمية العلاقة بين النقد والفلسفة من ناحية، والخطاب الأدبي والخطاب الفلسفي من ناحية أخرى مثمنا النظريات الفلسفية التي قدمت نقله نوعية  للنقد الأدبي أبعدته عن الانطباعات والتخمينات، مشيرا في ذلك السياق إلى دراسات سارتر ولوسيان جولدمان وتشارلز مارون للأدباء والظواهر الأدبية على حد سواء، وهو -عند التحليل الأخير- رحلة منهجية تدفع القارئ المثقف الجاد إلى إعادة التأمل في مفاهيم ومصطلحات عديدة كالسرد، والنص، والتأويل، والفلسفة والتصوف، والتاريخ والذاكرة، والنسيان، والحقيقة، واللحظة الحرجة، والتنافر والائتلاف، والحضور والخفاء، والكوجيتو التائه، والزمن التاريخي والزمن الكوني عبر تحرك الناقد بين حقول معرفية متعددة تسعي إلى توسيع رقعة المقاربات النقدية المنهجية، وتؤمن في الآن ذاته بأن كل عمل أدبي عظيم ينطوى على رسالة تأملية على  الناقد الحصيف أن يسعى  للكشف عنها.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة