تمر اليوم ذكرى وقوع معركة صفين، على ضفاف نهر الفرات بالعراق، بين جيش خليفة المسلمين علي بن أبي طالب، وجيش والي الشام معاوية بن أبي سفيان، وقد استمرت الاشتباكات بينهم ثلاثة أيام وانتهت دون حسم،وذلك ضمن أحداث كثيرة وقعت في الفتنة الكبري والتي انتهت بعملية التحكيم في شهر رمضان من سنة سبع وثلاثين للهجرة، حيث كان يرفض معاوية بن أبى سفيان مبايعة الإمام على بن أبى طالب خليفة للمسلمين.وكان معاوية رضى الله عنه يرى أنه ولى دم عثمان، وأنه لا بدّ من الأخذ بثأره من هؤلاء القتلة، وأنه لا يجوز له بحالٍ أن يقصر في هذا الأمر، ويرى على بن أبى طالب رضى الله عنه أن هذه الفئة هي الوحيدة الخارجة عليه من كل الدولة الإسلامية، ومن ثَم تجب محاربتها لردها إلى الحق، وإلى جماعة المسلمين.
ويقول عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في كتابه "علي وبنوه" وكان علي وأصحابه — وهم كثرة المسلمين — يرون أن معاوية وأصحابه قد بغوا، وقد أسفر علي إلى معاوية ومن معه من أهل الشام فردوا سفراءه، وأبوا أن يكون بينه وبينهم إلا السيف، ثم سبق معاوية وأصحابه إلى الماء فآثروا به أنفسهم وأرادوا تظمأ علي وأصحابه، فاقتتل الفريقان على الماء حتى خلص لعلي، ثم أُذِن لمعاوية وأصحابه أن يَرِدوا وأن يشربوا، فهاتان طائفتان من المؤمنين قد اقتتلوا.
ثم أرسل علي سفراءه إلى معاوية يعرضون عليه أن يدخل في الطاعة وألا يفرق المسلمين، فلم يجدوا عنده خيرًا، فاقتتلوا أيامًا ثم توادعوا شهر المحرم، وحاول علي وأصحابه الصلح فلم يجدوا من أهل الشام استجابة إليه، فاقتتلوا في صفر، وكان يجب أن يمضوا في القتال بحكم الآية الكريمة حتى يفيء معاوية وأهل الشام إلى أمر الله، وحينئذ تكف عنهم الحرب ويُرفَع عنهم السيف ويصبحون لخصمهم أولئك إخوانًا، ويجب الإصلاح بين الأخوين.
وقد كاد جيش علي أن يظفر بالطائفة الباغية ويضطرها إلى أن تفيء إلى أمر الله، ولكن المصاحف تُرفَع، وإذا الحرب تكف، وإذا القوم يدخلون في حكومة غامضة مبهمة لا حظ لها من وضوح أو جلاء، فلم يخطئ الذين قالوا: «لا حكم إلا لله.» إذن، وحكم الله هو أن يستمر القتال حتى يخضع معاوية وأصحابه، وليس أدل على ذلك من أن عليًّا نفسه — وهو الإمام — أبى أن ينخدع برفع المصاحف وقال: إن معاوية ورهطه الأدنين ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإنما هم يكيدون ويخادعون ويتقون حر السيف. فقد كان الإمام إذن يرى ألا حكم إلا لله، وأن السبيل إلى حكم الله هو القتال حتى يذعن أهل الشام، ولكن كثرة أصحابه لم تذهب مذهبه واستكرهته على غير ما أحب، فكانت هذه الحكومة.
وكان معاوية يرى بعد مقتل طلحة والزبير، وبعد أن استحصد أمره واشتد بأسه أن يكون أمر الخلافة شورى بين المسلمين، وكان علي يرى أنه قد بُويِع كما بُويِع الخلفاء من قبله، بايعه أهل الحرمين وهم أصحاب الحل والعقد، وبايعه أهل الأمصار إلا الشام، فقد اجتمعت له إذن بيعة الكثرة الكثيرة من المسلمين عامة، ومن المهاجرين والأنصار خاصة، ولم يبقَ لمعاوية إلا أن يدخل فيما دخل فيه الناس.
ويدخل معه أصحابه من أهل الشام، فإن لم يفعلوا فهم الفئة الباغية التي أُمر المسلمون بقتالها إن أبت الصلح وكرهت العافية حتى تفيء إلى أمر الله. وإذن فما بال الفريقين لم ينصا على ذلك في صحيفتهما؟! بل لم يذكرا الخلافة ولا الشورى في الصحيفة أصلًا! والغريب أن هذه الصحيفة التي رواها المؤرخون قد أرضت الفريقين المختصمين، لم ينكرا فيها غموضًا ولا عمومًا ولا إبهامًا، مع أنها من أشد ما كتب المسلمون غموضًا وعمومًا وإبهامًا فيما يتصل بموضوع القضية الذي كان يجب أن يُحدَّد تحديدًا لا لبس فيه!
وأكبر الظن أن الذين كتبوا الصحيفة من الفريقين لم يحفلوا بدقة ولا بتحديد، وإنما كرهوا الحرب وسئموا القتال وتعجلوا السلم، وكان أصحاب معاوية يكفيهم أن تنحسر الحرب عنهم وأن يختلف أهل العراق، وكانت عامة أهل العراق يكفيهم أن يثوبوا إلى السلم، وكان الماكرون منهم، إن استقام الفرض الذي افترضته آنفًا، يعنيهم أن تكون القضية غامضة غير بينة الحدود، يرون ذلك أنفع لمعاوية وأضر لعلي، وأحرى أن ينيلهم من السلطان ومتاع الدنيا ما يريدون.
وهذا كله يفسر لنا ما كان بعد أن كُتِبَتْ هذه الصحيفة من الاختلاف في صفوف أهل العراق، والائتلاف في صفوف أهل الشام، وأكبر الظن أن عليًّا ضاق بأصحابه حين رأى أنهم يعصونه في كل ما يأمرهم به أو يشير عليهم فيه.