على أبواب ورشة صغيرة لا تتعدى بضعة أمتار بمنطقة الدرب الأحمر في محافظة القاهرة، يقف عم جمال، وقفته المعتادة طيلة 54 عامًا مضت من عمره في تصنيع أحذية مقاساتها محددة بالمليمتر، ومن حوله أشكالًا وتصميمات مختلفة، وجلود طبيعية يعتمد عليها في التصنيع، دون أن يكترث لكبر سنه والتطورات الحديثة التي طرأت على مجال صناعة الأحذية، فلا يزال يحافظ على أصول مهنته القديمة، التي تعلمها واحترفها منذ الصغر، يحيك الأحذية يدويًا بمهارة وإتقان وحرفية، معتمدًا على أدوات بسيطة وخبرة اكتسبها على مدار سنوات من أجداده.
وبينما كان منهمكًا في تصنيع فردة حذاء من الجلد الطبيعي باحترافية شديدة، وبجانبه أحذية مختلفة المقاسات والتصميمات ومجموعة من قوالب النعال، تحدث جمال محمد طنطاوى صاحب الـ66 عامًا، عن بداياته مع صناعة الأحذية، مشيرًا إلى أنه ورث المهنة عن أبيه وأجداده وتعلمها منذ أن كان في الـ12 من عمره، وسعى منذ طفولته أن يحافظ عليها ويواصل عمله بها، وظل فيها حتى الآن لحبه الشديد لها، لافتًا إلى أنه يعتمد في تصنيع الأحذية يدويًا على خامة الجلد الطبيعي.
عم جمال أقدم صانع أحذية بالدرب الأحمر
صناعة الأحذية يدويًا
بابتسامة خجولة، تذكر عم جمال فترة الصبا، وبداية عمله في المهنة، قائلًا: "والدي وأعمامي وخيلاني كانوا كلهم شغالين في المهنة، كان زمان أي حد بيتعلم مهنة والده.. اللي علمني صنايعي كان شغال عندنا، علمني المهنة في سنة واحدة من غير ما والدي يعرف لإن زمان كان الصنايعي يخاف من الأسطى ويحترمه ويخاف يغلط في الشغل معاه، كان يقولي كمل ورايا وأول ما تشوف والدك سيب الفردة من إيدك، لحد ما جت فترة قالي فيها لو جه والدك ما تسبسش الفردة من إيدك وكمل، وهنا عرفت إني خلاص اتعلمت المهنة، وكان أول راتب أخده 150 قرش يومية أسبوع".
رغم كبر سنه الذي قارب الـ70 عامًا، إلا أنه لا يزال يكافح ويعمل من أجل لقمة العيش، لم يترك مهنته يومًا، أو يستسلم لمشقتها، مكتفيًا بذاته ومهارته وحبه وشغفه الشديد لها، فصناعة الأحذية لم تعد كما كانت إلا أن عشقه للمهنة كان يحول دون انشغاله بمهنة أخرى، فقال عم جمال إنه لم يتوقف عن العمل يومًا، ربى وعلم وزوًج أولاده الأربعة من صناعة الأحذية، مشيرًا إلى أنه يقف وحده في ورشة والده التي يعود تأسيسها لسنة 67 يوميًا من الساعة السابعة صباحًا وحتى الساعة السابعة مساءً وينفذ مراحل التفصيل والتصنيع حتى يخرج الحذاء في شكله النهائي.
جمال محمد طنطاوى صانع الأحذية
منتجات عم جمال من الأحذية
تطورات عديدة طرأت على المهنة، التي أضحى مزاولوها ينقرضون يومًا بعد آخر، وما زال عم جمال يصنع يدويًا، مقاومًا تقلبات الزمن والمعدات الحديثة، فأشار إلى أن المهنة تغيرت عن السابق، في نوع النعل المستخدم، إذ كانوا يعتمدون على النعل الجلد قبل دخول النعل البروتان: "من وقت ما نعل البروتان دخل مصر المهنة اتغيرت، كان زمان النعل جلد طبيعي، وكان بياخد وقت ومجهود كبير في التصنيع، كان الـ6 اجواز يتصنعوا في 4 أيام، ورغم التطور والحداثة لسه حريص على التصنيع اليدوي، واللي ما تعلمش يعمل الجزمة النعل الجلد بتاعة زمان ما يعتبرش صنايعي".
لا يكترث عم جمال بالتطورات الحديثة التي طرأت على المهنة، ففي الوقت الذي يحافظ فيه على أصول مهنته يصنع أحذية ذات جودة عالية، مطابقة تمامًا للماركات العالمية حسب ما يطلبه الزبائن، فالتفصيل هو أول مراحل التصنيع، يقص القماش إلى مقاسات حسب شكل تصميم الحذاء وبعدها تأتي مرحلة تصنيع "الوشوش" وإتمام مرحلة "التقفيل" وتركيب الوشوش على القوالب لتكون جاهزة لتصبح حذاء، مشيرًا إلى أن التصنيع يمر بمراحل عديدة، منها التفصيل وقص الجلد لمقاسات مختلفة وتجميعه وشده على القالب ليأخذ فى النهاية شكله: "أولادي حبوا المهنة وكانوا بيساعدوني في الخياطة والتجميع لحد الجواز، ودلوقتي أنا في الورشة لواحدي".
جمال محمد طنطاوى
تصنيع الأحذية يدويا
زبائن عم جمال من كل مكان، ومنتجاته "على أد الإيد"، معروفة بالجودة العالية والتصميم ولا يتوقف الطلب عليها أبدًا: "شغلي بيتوزع في محافظات كتير زي بني سويف والمنيا والأسكندرية وأسيوط وبورسعيد، وناس كتير بتجيلي تطلب مني موديلات محددة بعملها، الشغل اليدوي خامته وجودته عالية وعمره الافتراضي أطول، ممكن أصنع في اليوم الواحد عشرة اجواز، حسب التصميم والشكل المطلوب"، مشيرًا إلى أن أسعار الأحذية تبدأ من 100 جنيه وتصل إلى 400 جنيه، حسب التصميم وخامة النعل.
فنى عم جمال عمره في تصنيع الأحذية، مكرسًا وقته لورشته والحفاظ على مهنته والتطوير منها دون كلل أو ملل، فخورًا بعمله وسعيدًا بمحبة الناس وثقة زبائنه، مؤكدًا أنه سيظل محبًا لمهنته ويعمل بها حتى آخر يوم فى حياته ويطور من الموديلات التي يصنعها ليواكب الحداثة والتغيير، إذ أن المهنة سيظل لها بريقها وسوقها التي تباع فيه، مختتمًا حديثه: "المكسب الحقيقي فرحة الناس بشغلي وكلامهم ليا.. راحتي في الشغل.. المهنة مصدر رزقي الوحيد وماليش غيرها".
أحذية مصنوعة يدويا
جمال محمد صانع الأحذية بالدرب الأحمر
