تجول الكاتب الكبير لويس جريس فى جنوب مصر لاكتشاف المواهب لتقديمها فى مجلة «صباح الخير» تحت عنوان «المعذبون بالفن»، وعثر على كنز من المواهب قدمته المجلة، هذا الكنز كان الشاعر عبدالرحيم منصور، الذى يكتب بالعامية، وأمل دنقل الذى يكتب بالفصحى، والقاص يحيى الطاهر عبدالله، والشاعر عبدالرحمن الأبنودى، الذى كان اكتشافه مبكرا عن الثلاثة، وبالفعل تفجر الكنز حيث نزح الجميع إلى القاهرة وظهرت مواهبهم، حسبما يذكر الشاعر مجدى نجيب، فى كتابه «من صندوق الموسيقى، زمن الغناء الجميل».
نزح هؤلاء إلى القاهرة فى مطلع ستينيات القرن الماضى، كان الزمن يفتح صدره لشعر العامية ويقفز به قفزة وراء أخرى، وكان فرسانه الجدد، عبدالرحيم منصور المولود فى «دندرة» بمحافظة قنا بوم 1 يونيو 1941، والأبنودى وسيد حجاب ومجدى نجيب، يؤكد «نجيب»: «كنا أكثر الشعراء الذين ظهر إنتاجهم من نافذة الإذاعة، وكان الناس يعشقون هذا الشعر الذى أصبح على كل لسان، وخصوصا البسطاء».
فى القاهرة أصبح مجدى نجيب من أقرب أصدقاء عبدالرحيم منصور»، يصفه: «كان إحساسه باليتم يسيطر عليه، ولذلك رغم صغر سنه عندما جاء إلى القاهرة أطلق على نفسه لقب «الأب»، وكانت تجتاحه أحاسيس الأبوة لتعويض أصدقائه اليتامى عن الحب المفقود، ولكن معى كان الحال مختلفا، كنت أنا أباه وأخاه الأكبر لأننى دائما كنت أخشى على ضياعه فى القاهرة التى لا ترحم النازحين».
عن تفرده الشعرى، يذكر «نجيب»: «كان أقربنا تعمقا فى جذور الأرض التى شكلت الوجدان الشعبى واقترابه من سخونة الجنوب فى مشاعر أهله المليئة بالمواويل الحزينة، كان أحد الذين أضافوا إلى العامية الكثير من المفردات الخاصة، سواء فى القصيدة أو غنائياته، كان كالمجنون بالكلمات، دائم الغناء لنفسه، ووسط الأصدقاء يعرف جيدا كيف يخطف نفسه من وسط الناس والزحام ويناجيها مثل الصوفى فى خلوته، وكان فى نفس الوقت مثل العصفور الصغير الصامت الذى تعلم لغة التمرد، يكره النهار والنوم، ولا يحب المنازل، ويفضل الشوارع والسير على الأقدام مسافات طويلة، يكتب أشعاره وأغانيه على المقاهى».
عبأته أمه بكنز من بيئته فيه شجن، وصور، ومفردات، وحين أصدر ديوانه الأول «الرقص ع الحصا» وشمل قصائد متفرقة كتبها من 1961 إلى 1967، أهداه إليها قائلا: «إلى أمى، أمى بنت الشيخ «إسماعيل الخلاوى» من «دندرة»، «نجع الرد»، «بندر قنا»، تعلمت على يديها الشعر، فحينما كنت صغيرا، كنت أجلس بجواريها أمام «الفرن» وهى تخبز أرغفة الخبز على نيران شجر السنط، وأشعر أن الإنشادات التى تقولها أمام النار كأنها نقش الفراعنة على المعابد القديمة، وهذه الإنشادات هى التى تطيب الخبز وليس شجر السنط».
من مخزونه تفرد فى الشعر الغنائى، أعطاه نكهة خاصة بشجن كلماته فى عشرات الأغانى التى كتبها، أشهرها «سكة العاشقين» و «با عشق البحر» و«سلم على» لنجاة الصغيرة، و «لو سألوك» و«بكرة يا حبيبى» و«اشترونى» لوردة الجزائرية، و«بياع القناديل» و«بحراوية» و«ما على العاشق ملامة» و «لو عديت» و«يسلم ترابها الأسمرانى» و«تغريبة» لمحمد رشدى، و«جرحتنى عيونه السودا» و«عطاشَى» و«قضينا الليالى» لعفاف راضى، و«حبيبى يا متغرب» و«فين حبيبى» لفايزة أحمد.
ساهم فى الغناء الوطنى بأغنيات عظيمة، يذكر «نجيب»: «ظل يكتب طوال فترة حرب الاستنزاف حتى نصر أكتوبر 1973، كانت غنائياته المميزة فى «أم الصابرين» و«عبرنا الهزيمة» لشادية، و«أنا على الربابة باغنى» لوردة، وغنى عبدالحليم حافظ له «قومى عليكى السلام يا أرض أجدادى» وغنت المجموعة «بسم الله» لحن بليغ حمدى التى وثقت عبور الجيش المصرى فى أكتوبر 1973.
يؤكد مجدى نجيب، ان عبدالرحيم منصور كان أول المكتشفين للمطرب محمد منير، قائلا: «كان يعتبره مثل ولده يجوب به أماكن الصعلكة فى جلسات المثقفين والصحفيين، وتنبأنا جميعا بأنه الجديد القادم من جنوب مصر لتجديد دماء الأغنية وخروجها من مأزق التكرار لتكون أكثر ارتباطا وتعبيرا عن الناس وحياتهم»، بدأ معه بأغنية «شجر اللمون دبلان على أرضه» عام 1974 ألحان أحمد منيب، ثم أول ألبوم غنائى «علمونى» وتوالت أغنياته لمنير وتبقى أيقونته «حدوتة مصرية» فى فيلم يحمل نفس الاسم.
توفى يوم 28 يوليو، مثل هذا اليوم، 1984، وعمره 43 عاما، ورغم ثراء إبداعه فى رحلة عمره القصيرة إلا أن جريدة الأهرام كتبت خبرا صغيرا بصفحتها الأخيرة يوم 30 يوليو 1984 قالت فيه: «بدأت نجاة الصغيرة الأسبوع الماضى تسجيل آخر ما كتب الشاعر الغنائى عبدالرحيم منصور الذى رحل أول أمس، الغريب أن الأغنية الأولى يقول مطلعها: حلوة حلوة الدنيا، أيامى الحلوة معاك»، أما الأغنية الثانية فعنوانها وحيد يا قلبى وحيد، الأغنيتان من تلحين هانى شنودة، وأقيمت جنازة الفقيد ظهر أمس وحضرها عدد من الفنانين وبعد أن كان مقررا دفن الجثمان بالقاهرة، أصرت أسرة الراحل على دفنه بمسقط رأسه بمدينة قنا حيث حملته الطائرة إلى هناك».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة