الناقد أحمد حسن عوض يكتب: حسام جايل من تماسك القيمة إلى تماسك النص

الإثنين، 29 يوليو 2024 05:35 م
الناقد أحمد حسن عوض يكتب: حسام جايل من تماسك القيمة إلى تماسك النص أحمد حسن عوض

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

حسام جايل شاعر وناقد وأكاديمي متخصص في علم اللغة ونحو النص وتحليل الخطاب، تربطني به صداقة تمتد إلى ربع قرن، حيث كان يجمعنا حبنا الأول للشعر وكتابته والكتابة عنه والشغف بالقراءات المشتركة والنقاشات المستمرة مع أصدقائنا الشعراء في صباحات جامعة القاهرة والمكتبة المركزية ومؤتمرات المجلس الأعلى للثقافة وندوات جمعية النقد الأدبي وأمسيات نادي دار العلوم ومقاهي وسط البلد.

وأذكر أنه أهدانا بحثه الأول- وكان بعنوان آليات السرد في شعر صلاح عبدالصبور-  قائلا في الإهداء: إلى أصدقائي الممتلئين طموحا وأحزانا؛ لتشى تلك الثنائية اللافتة مبكرا جدا بما سيؤول إليه  "الناقد" الطموح والأستاذ المساعد  الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية عام ٢٠١٥ في مجال تخصصه النحوي وعدد من الجوائز الشعرية الأخرى،  و"الشاعر" صاحب المزاج الحزين الذي تفيض قصائده بالأسى لما يعتري واقعنا المعيش من مفارقات مؤلمة لا تمكن الأفراد المتميزين من تحقيق ذواتهم في ظل وجود اجتماعي قامع لا يحتفي بالتفرد بقدر ما يكرس للتكرار والرتابة وغياب المعنى.

التماسك النصى
 

 

وإذا كان "الشاعر" حسام جايل  في ديوانيه  "كأنك أنت" و"كما يليق بمي" قد قدم رؤيته الرومانسية المغتربة في القالب التفعيلي مثمنا عنصري الصدق النفسي والعاطفة الذاتية فإن "الناقد" حسام جايل قد صاغ توجهه النقدي  معتمدا على عنصري اللغة والأسلوب في مقارباته النقدية ودراساته المتعددة  التي آثر فيها أن يقتفي أثر أستاذه الدكتور محمد حماسة عبداللطيف متحركا من "نحو الجملة" إلى "نحو النص" في أطروحتي الماجستير "التماسك النصي في شعر أحمد عبدالمعطي حجازي" والدكتوراه "أشعار الهذليين  في ضوء علم النص وتحليل الخطاب" ليستثمر ذلك التأسيس المنهجي اللافت في كتابه الفائز هذا العام ٢٠٢٤م بجائزة معرض القاهرة  الدولي للكتاب "التماسك النصي في الشعر العربي.. دراسة في البنية والوسائل" وهو كتاب منهجي متماسك كعنوانه، يتألف من أربعة فصول تسبقها مقدمة يتحدث فيها حسام جايل عن علم النص باعتباره علما يبحث في النص كاشفا عن آليات انسجامه ووسائل تماسكه، معتمدا على الإجراءات والوسائل المساعدة التي تتوزع ما بين النحوي واللغوي والبلاغي والمعجمي والفلسفي والاجتماعي، والسياسي.

وقد جاء الفصل الأول نظريا خالصا يتعرض فيه جايل لمفهوم علم النص ونشأته الغربية ومعايير النصية مع الإشارة في الآن ذاته إلى إرهاصاته العربية لدي البلاغيين والنقاد القدامى كالجاحظ والقاضي عبدالجبار وعبد القاهر الجرجاني وابن جني وابن طباطبا العلوي وابن رشيق وأبي هلال العسكري وحازم القرطاجني والسكاكي، وهي إرهاصات تؤكد وعيهم بأهمية الروابط النصية ودور النحو في النظم،  لكن أغلبها جاء على هيئة إشارات جزئية عابرة موزعه بين ثنايا كتاباتهم مما أفقدها قدرتها على التأثير الكلي الذي يمكننا من الزعم بوجود نظرية عربية قديمة متكاملة  تؤكد وعيهم بالمعايير النصية على النهج الذي أوضحه علماء نحو النص في العصر الحديث كما نرى في تأصيلات فان دايك   وكما نري لدى روبرت دي بوجراند في إشارته إلى المعايير السبعة التي تجعل النص كلا موحدا متماسكا دالا، وهي: السبك، والحبك، والقصدية، والمقبولية، والإعلامية، والمقامية، والتناص. وكما نرى أيضا في تأصيلهم لأشكال الترابط النصي الرصفي والمفهومي، في سياقات تعبر عن وعيهم الكلي بفكرة التماسك بمعناه النصي الأشمل.

وفي الفصل الثاني تصدى حسام جايل لدراسة البنيات العليا في ديوان "يتحدث الطمي" لمحمد عفيفي مطر مبرزا الأبنية الكبري أو البنيات العليا الحاكمة في الديوان وهي : الاسمية اللافتة، وبنيةالتكرار، وصيغ الجمع، مع إشارته إلى بنية المفارقة ودلالة حضور الألوان،  لكن حرصه على التنظير وذكر المعايير واستقصاء تفاصيل العتبات النصية والنصوص المحيطة الخارجية والداخلية والمحاذية قد حرمنا من ثراء التطبيق الذي كان بوسع الناقد الشاعر أن يمتعنا به فجاء التحليل اختزاليا مختصرا غير متوافق مع ثراء العالم الدلالي للشاعر الكبير، فضلا عن عدم استيفاء كل المعايير التي أجاد في شرحها وتبسيطها على المستوى النظري بلغة سلسة مفهومة، وإن ظلت أيضا مفتقدة للتحقق التطبيقي عبر الديوان محل الدراسة.

وفي الفصل الثالث توقف جايل إزاء البنية الإيقاعية في شعر أحمد عبدالمعطي حجازي ودورها في إنتاج الدلالة مؤصلا في مفتتح الفصل للفرق بين الوزن/الثابت والإيقاع/المتغير الذي يبدو في تنوعاته أشمل وأكثر اتساعا من هيكل الوزن المجرد، وقد أشار في هذا السياق إلى  عدد من الدراسات المهمة التي تناولت مفهوم الإيقاع وأشكال التطور والتجديد في موسيقى الشعر العربي والبناء العروضي للقصيدة العربية والشعر التفعيلي الحديث على حد سواء، وتطرق إلى محاولات الربط بين الوزن والعاطفة التي شاعت مع هيمنة شعر التفعيلة على مشهد الشعر العربي بعد منتصف القرن العشرين وكثرة الكتابات حول فلسفة موسيقى شعر التفعيلة باعتبار "القصيدة بنية إيقاعية خاصة ترتبط بحالة شعورية معينة لشاعر بذاته"؛ ليدخل بعد هذا التأسيس النظري الرصين إلى دراسة تجديد أحمد عبدالمعطي حجازي في إيقاع القصيدة التفعيلية وتطويع البحور المركبة كالبسيط والسريع والخفيف والمجتث للقالب التفعيلي منحازا -بجسارة الشاعر قبل منهجية الناقد- إلى جرأة حجازي وقدرته على توسيع دوائر إيقاع الشعر التفعيلي،  رافضا رأي نازك الملائكة التي أشارت في كتابها قضايا الشعر المعاصر إلى أن استخدام الشاعر الحديث للبحور المركبة سيجعله " يبدو لاهثا متعبا بحيث  تعسر قراءته ويخلو من ليونة الموسيقى".

وقد اتكأ جايل في مقاربة تجديدات حجازي الموسيقية على ذوق الشاعر في التحليل إلى جانب دقة الجداول  الإحصائية، مقتفيا في الوقت ذاته خطا شيخيه الكبيرين:  الدكتور حماسة عبداللطيف في ربطه بين التراكيب النحوية والتراكيب الموسيقية والدكتور أحمد كشك في وعيه الفائق بدور القافية في الشعر الحديث، ومتمثلا وعي جون كوين في تفرقته بين لغة الشعر ولغة النثر وفي تأصيله لثنائية التفاعل بين العاملين العاملين:  الصوتي/الوزن والقافية والمعنوى/ التشبيه والاستعارة في النصوص الشعرية.

وفي الفصل الرابع استقصى جايل وسائل إطالة الكلام في الجملة الشعرية لدي الشعراء الهذيليين موظفا النهج الإحصائي
في رصد تلك الوسائل المتنوعة التي استثمر فيها الشعراء الوظائف النحوية المنوطة بإطالة الكلام لتحقيق أغراض بلاغية ودلالية.

وقد جاءت  لغة هذا الفصل ميسورة منظمة في حرصها على عنصري التوصيل والإفهام  وابتعادها- مثل كل فصول الكتاب- عن الغموض والإغراب أو استعراض المعرفة التي لا يستدعيها سياق المقام كما  نري لدى بعض نقاد الحداثة.
وأتمنى أن يكون هذا الكتاب المنهجي المنضبط مفتتحا لدراسات تطبيقية أخرى توظف نحو النص في مقاربة النصوص الشعرية وتؤكد جدارته لأن يكون أحد المناهج الحداثية المؤثرة في المشهد النقدي المعاصر.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة