مقدمات الكتب.. ما قاله نصر حامد أبو زيد فى كتابه "هكذا تكلم ابن عربي"

الجمعة، 05 يوليو 2024 07:00 ص
مقدمات الكتب.. ما قاله نصر حامد أبو زيد فى كتابه "هكذا تكلم ابن عربي" غلاف الكتاب
أحمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

نواصل سلسلة مقدمات الكتب، ونتوقف اليوم مع كتاب "هكذا تكلم ابن عربي" لـ الدكتور نصر حامد أبو زيد، فما الذي يقوله في مقدمة الكتاب؟

 

مقدمة:

من الصعب على المسلم أن يفصل في خبرته الدينية بين التجرِبة الروحية وبين الأسس العقلانية التي تتبلور في وعيه تدريجيًّا عن عقيدته ودينه. وفي نسيج الحياة الدينية اليومية في القرية المصرية، حيث كانت نشأتي في أسرة ريفية متواضعة، يُعَدُّ التصوف العملي من أبرز السمات التي يمكن ملاحظتها في هذا النسيج.

فقصص الأنبياء وكرامات الأولياء وأحاديث الصالحين من أسلاف القرية والقرى المجاورة تُعَد من أهم المعارف التي ترتبط بالطفولة وذكرياتها. وبمجرد تعلم الكلام يبدأ التعليم بحفظ القرآن والتردد على المسجد لإقامة الصلاة. وفي المسجد تُعْقَد حلقات الذكر بعد صلاة العشاء، آخر الصلوات الخمس المفروضة، كل يوم «خميس» — ليلة الجمعة — وهي التي يُطلَق عليها اسم «الحضرات»، حيث ينتظم «الكبار» في شكل «دائرة»، ويتحركون حركاتٍ موقَّعةً ذاتَ اليمين وذات الشِّمال، مع ترديد بعض الأناشيد بقيادة شيخ «الحضرة». وتدريجيًّا يتسارع إيقاع الحركة حتى يصبح اهتزازًا عنيفًا أقرب إلى الرقص، ويتسارع إيقاع الإنشاد بنفس الدرجة، حتى يصبح التمييز بين الكلمات مستحيلًا. ثم يتركز الإنشاد في ترديد الاسم «الله»، ومع ازدياد حدة السرعة في الرقص والإنشاد يتم اختصار الاسم في الحرفين الأول والأخير — «أه» — فقط من كلمة «الله». ويبدأ بعض المشاركين في الصياح والخروج عن نسق الإيقاع، فيصرخون، وبعضهم يسقط على الأرض في شبه إغماء، وهي حالة «الجذب» و«الفناء».

كنا نحن الأطفال يُسمح لنا أحيانًا بالمشاركة ولكن خارج «الحلقة»، وكان بعضنا يريد أن يثبت وصوله إلى حالة «الجذب» كالكبار.

نَكبَر ونقرأ ونتزود بالمعرفة، لكن تظل جذور تجرِبة الطفولة كامنة في أعماق كلٍّ منا. في حالتي أخذتني الحياة مآخذ شتى وسلكت بي طرُقًا عديدة، حتى قررت أن أتخصص في دراستي العليا في مجال «الدراسات الإسلامية». كانت تجرِبتي في الحياة والتعليم قد أخذتني بعيدًا عن «التصوف» إلا من خلال علاقة خاصة بأحد أصدقاء والدي المقربين.

مات والدي لكن علاقتي بعم حسن — اسم هذا الصديق — اتخذت مسار علاقة صداقة وثيقة. كان هذا الصديق فلاحًا بسيطًا، لكنه كان شاعرًا، وقارئًا لشعر التصوف بصفة خاصة. كان كثير التَّرحال لزيارة الأضرحة والتبرك بمجاورة «أهل البيت» بالقاهرة لفترات تطول أو تقصر. كان يعتبرني محلًّا لثقته، فيكاشفني بأسرار لا يكاشف بها أحدًا من أولاده وخاصة أسرته. كنت أحترم كثيرًا شاعريته وأقدِّرها، وكنت حريصًا على التعبير عن هذا التقدير وذلك الإعجاب.

زارني عم حسن ذات يومٍ بدا فيه مضطربًا أشد الاضطراب، كأنه كان يحمل فوق كاهله همًّا تنوء بحمله الجبال. ظللت أسأله: ما الخبر؟ ماذا حدث حتى يبدو الاضطراب باديًا على وجهك، والإعياء يكاد ينبئ بأنك مريض؟ لكنه ظل صامتًا ذلك الصمت المعذَّب. وأخيرًا قرر الإفصاح. قال: إنه سرٌّ لا أستطيع احتماله أكثر من ذلك. أعلم أنني سأعاقَب لإفشاء السر، لكنني لا أحتمل الكتمان. تزايد قلقي وخمَّنت أن الرجل يعاني من كارثة. قلت له: يا عم «حسن» فرِّج عن نفسك وأخبرني، ألستُ محلًّا لثقتك، وفي مقام «الابن» منك؟ قال: والله يا نصر أنت أكثر من ابنٍ وأعز من أولادي جميعًا، أنت الحبيب ابن الحبيب رحمه الله — يقصد والدي — لذلك سأفضي لك بالسر الذي يعذبني كتمانه. كانت دموعٌ صامتةٌ قد بدأت تسيل من عينيه، يحاول منعها فلا يستطيع. ثم استجمع قوته وانفجر قائلًا: يا نصر يا ولدي لقد رأيت رسول الله ﷺ في المنام. وأجهش في بكاء سمعته أختي رحمها الله، فجاءت تسأل ما الخبر؟ لكني صرفتها واقتربت من عم حسن، لكنه لم يتوقف عن الحكي، ونشيجه يتصاعد: «رأيته والله العظيم، فقلت له: أحبك يا رسول الله، فرد عليَّ: وأنا أحبك يا حسن.»

لم أدر ماذا أقول سوى أن أتمتم ببعض عبارات لا معنى لها. كان الأمر بالنسبة لي غير مفهوم آنذاك، رغم تعاطفي قلبًا وقالبًا مع عم «حسن». بدأ يهدأ تدريجيًّا بعد أن أزاح السر الضاغط، السر الذي يمثل إفشاؤه خطرًا يترتب عليه العقاب. سألت عم حسن: أي نوع من العقاب يترتب على إفشائك أمر هذه الرؤيا لي؟ قال: يا ولدي أخشى أن يهجرني الرسول عليه السلام فلا يظهر لي مرة أخرى، وهل هناك عقاب أشد من هجر الحبيب؟! حاولت بقدر استيعابي لموقف جديد عليَّ تمامًا أن أطمئن عم حسن أن رسول الله لن يهجره. في العام نفسه تقريبًا قرر عم حسن الحج، ولكي يدبر نفقة السفر إلى الديار المقدسة باع قطعة الأرض التي كان يزرعها رغم معارضة أبنائه ومحاولتهم منعه بالقوة.

لم أفهم كثيرًا من الجوانب العاطفية والروحية لرؤيا عم حسن إلا بعد أن بدأت في دراسة «فلسفة التأويل» عند ابن عربي بعد ذلك بأعوام، فهمت معنى «السر» ودلالة «الكتمان» وأهميته في التجرِبة الروحية، وكيف يكون «البوح» ومتى ولمن. فهمت أكثر المعنى الروحي العميق للحج، وأهميته للتجرِبة الروحية، هذا بالإضافة بالطبع إلى أهميته الشعائرية الرمزية بالنسبة لكل مسلم. وبدراستي للتصوف أدركت معنى «الذكر» وأهميته، وفهمت لماذا يكون الذكر في شكل «دائرة»، وما معنى تكرار الاسم «الله»، ولماذا يتم اختصار الاسم في دلالة حرفيه الأول والأخير. أهم من ذلك صرت قادرًا على شرح معنى «الجذب» و«الفناء» و«الشطح» … إلخ.

لم يكن الحافز على دراستي للتصوف، ولفكر ابن عربي خاصة، هو فقط ذلك الشوق النابع من تجارِب الطفولة الدينية في قريتي، تلك التجارِب التي ساهمت تجرِبة عم حسن في تعميقها، بل كان الحافز بالإضافة إلى ذلك هو رغبتي في استكمال معرفتي بقطبي التراث الإسلامي الأساسيين: العقلانية والروحانية. كنت قد انتهيت من دراستي للماجستير عن «قضية المجاز في القرآن عند المعتزِلة» — نُشرَت فيما بعد بعنوان «الاتجاه العقلي في التفسير» — وهم اللاهوتيون المسلمون الذين حاولوا تقديم تأويلٍ عقلاني للعقيدة الإسلامية، كان من نتيجته أن طوروا مفهومًا لُغويًّا بلاغيًّا — هو مفهوم «المجاز» — كأداة لإزالة أي تعارضٍ محتَمل بين «الوحي» و«العقل». وقد أثارت النتائج التي توصلت إليها في تلك الدراسة الكثير من الأسئلة، وتلك الأسئلة كانت — إلى جانب الحافز الديني الشخصي الذي عمقته علاقتي بعم حسن — هي التي حفزتني على محاولة اكتشاف مجال «التجرِبة الروحية» — كما تُمثلها التجرِبة الصوفية عند ممثلها الأكبر «محيي الدين ابن عربي» — وأثرِها في بلورة إطارٍ تأويلي للوحي.

وحين انتهيت من الدراسة، وقبل طبعها وتوزيعها على أعضاء اللجنة العلمية للحصول على درجة «الدكتوراه»، أدركت أنني يمكن أن أعيد كتابتها وَفق مخطط مغاير، تتبادل فيه المتون والهوامش مكانها. فقد اعتمدت في ترتيبي لأبواب الرسالة وفصولها على التقسيم الفكري الفلسفي؛ فخصصت الباب الأول لقضية «التأويل والوجود»، والثاني لقضية «التأويل والإنسان»، بينما تركزت قضية «القرآن والتأويل» في الباب الثالث. أدركت بعد أن انتهيت من كتابة الرسالة وفق الترتيب والتنظيم المذكورَين أني يجب أن أعيد كتابتها بطريقة أخرى تُبرز قضايا التأويل لتحتل «متن» الرسالة، في حين يكفي «الهامش» للتعامل مع القضايا ذات الطابع الفلسفي البحت.

حين أخبرت أستاذي المشرف بنيتي تلك واعتزامي تغيير مخطط الرسالة، وإعادة كتابتها بالتالي من جديد، رفض الفكرة رفضًا قاطعًا. حاولت أن أشرح له مبرراتي، لكنه رفض مجرد الاستماع إليَّ. كان منطقه أن فكر ابن عربي ومؤلفاته مثل محيط بلا سواحل ولا شطآن، وأنه لن يسمح لي بالعودة للسباحة في هذا المحيط بعد أن تمكنت أخيرًا من «الخروج» منه، ولو إلى «حين». كانت عبارة أستاذي دالَّةً أكثر مما أدركت آنذاك رغم أنني كنت في عامي الثامن والثلاثين.

منذ ذلك الحين وأنا أتوق للعودة للسباحة في محيط فكر ابن عربي مجدَّدًا، ولكن يبدو أن خوف «الغرق» ظل ماثلًا في وعيي؛ فكنت أعود أحيانًا لقراءة بعض أشعاره، أو لمراجعة فكرةٍ ما، أو للتأكد من صدق استنتاجٍ ما سبق أن وصلت إليه، لكن العودة للسباحة في المحيط الهادر لابن عربي ظل حُلُمًا يراودني دون أن أخاطر بالمغامرة مرة أخرى. ومع ذلك فإن علاقتي بالشيخ الأكبر لم تنقطع أبدًا؛ فجزء لا يستهان به أبدًا من تكويني الأكاديمي، ومن تجرِبتي الدينية الروحية في الحياة، أَدين به للخبرات التي اكتسبتها من خلال اللقاء الأول بالشيخ الأكبر، والذي دام خمس سنوات هي الفترة التي أنجزت فيها أطروحتي.

أذكر هنا أنه لولا الفرصة التي أتاحت لي السفر — لأول مرة — إلى بلاد الغرب، حيث قضيت عامين دراسيين في الولايات المتحدة الأمريكية (١٩٧٨–١٩٨٠م)، لما تمكنت من إنجاز أطروحتي عن «فلسفة التأويل» عند الشيخ. أذكر هذا الآن لأؤكد حقيقتين: الحقيقة الأولى أن قراءة الشيخ تتطلب تفرغًا كاملًا، وهذا لم يكن متاحًا لي في مصر، حيث قضيت عامًا كاملًا لا أكاد أتجاوز قراءة «خطبة كتاب الفتوحات المكية». كان من المستحيل الاندماج في عالم الشيخ من خلال تخصيص «ساعتين» فقط من ساعات اليوم الأربع والعشرين للجلوس إلى الشيخ ومسامرته. ليس أقل من أن تكون مع الشيخ يومَك وليلَك، صباحك ومساءك، يقظتك ونومك، أن تكون باختصارٍ واحدًا من «المريدين»، لا مجرد «زائر» عابر لبعض الوقت. لم تكن حياتي في مصر عمومًا، وفي مدينة «القاهرة» على وجه الخصوص، قادرةً على منحي نعمة الجلوس إلى الشيخ والإنصات لفكره. ما لم تتحه لي القاهرة أتاحته لي مدينة «فيلادلفيا» ومكتبة جامعة «بنسلفانيا». في سنتين أنجزت قراءة «الفتوحات»، وفي الوقت نفسه قرأت عن «فلسفة التأويل» hermeneutics عند فلاسفة الغرب بدءًا من «أوريجن» حتى «جادامر»، وكان ذلك مثمرًا في تعميق وعيي بالقضايا التي يمكن أن تُفصح عنها كتابات الشيخ من منظورٍ معاصر.
وكما قلت لم يتوقف اهتمامي بابن عربي منذ أنجزت رسالتي لدرجة الدكتوراه عن تأويله للقرآن منذ أكثر من عشرين عامًا. كنت أعود إلى قراءة بعض أعماله مجدَّدًا بين الحين والآخر آملًا أن يتاح لي من الوقت في المستقبل ما يسمح لي بتجديد دراستي له من خلال الخبرات التي تراكمت في وعيي في تلك السنوات الطوال. وأظن أن هذا ليس شأني وحدي مع مفكر في قامة ابن عربي، إذ أعتقد أن كل من مسَّه طائف من فكر ابن عربي يظل يحلم دائمًا بتجديد صلته به سعيًا للتدقيق المعرفي من جهة، ولاستيعاب التجرِبة الروحية الثرية التي تتجلى في كتاباته من جهة أخرى.

وكان السؤال الذي يتردد دائمًا في ذهني: هل ما زال ابن عربي قادرًا على المساهمة في مخاطبة قضايا عالمنا المعاصر؟ «نعم» كانت الإجابة في داخلي، ولكنها كانت في حاجة لحافز يحرضني على البَدء مجدَّدًا في مغامرة السباحة الثانية في محيط الشيخ. منذ عشرين عامًا وأنا أنتظر الظروف التي تسمح لي بلقاءٍ طويلٍ آخر مع الشيخ الذي لم تنقطع صلتي به منذ بدأَت. لكن أحداثًا توالت ووقائع تتالت لم تمكِّني من الفوز بالمراد. وكلما تعقدت المسالك — مسالك الأنا ومسالك العالم — كان مجرد وجود كتب الشيخ ورسائله قريبًا مني وفي متناول يدي يقوِّي الإحساس عندي بأنه ما زال قادرًا على مخاطبة عالمنا، فقط لو أحسنَّا الإنصات لما يقول.

كانت أبياته الشعرية عن «دين الحب» الذي يتسع لكل العقائد — من الوثنية إلى الإسلام محتضنًا اليهودية والمسيحية معًا على وجه الخصوص — تتردد دائمًا في سمعي:

لقد صار قلبي قابلًا كلَّ صورة فمَرعًى لغِزلانٍ ودَيرٌ لرُهبان
وبيتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائف وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآن
أَدين بِدين الحب أنَّى توجهَت ركائبُه فالحب دِيني وإيماني١
وكم سعدت وأنا أستمع لهذه الأبيات ملحَّنةً مغنَّاةً على شرائط كاسيت وCDs، وكم غمرني الفرح حين علمت بتأسيس جمعيات في بلدان غربية باسم «ابن عربي».٢ هذا المشروع الذي صاغه ابن عربي صياغة شعرية باسم «دين الحب» يجمع بين «الدَّير» و«الكعبة» و«بيت الأوثان» و«مرعَى الغِزلان»، فقلب العارف يتسع لكل هذه الصور من العبادات والشعائر، ويؤمن بكل هذه المعتقدات، لأنه يعرف الأصل الوجودي الذي تستند إليه جميعها.
إن الأصل الذي تستند إليه كل الأديان والمعتقدات هو أصل العلاقة بين «الحق» الخالق و«الخلق» المخلوق، وهي علاقة «الحب». في البدء كان «الحب»، هكذا يتصور ابن عربي «الحقيقة»؛ كان الله ولا شيء معه، كان كنزًا مخفيًّا فأَحَبَّ أن يُعرَف فخلق العالم ليعرفه. هكذا تتحدد الحقيقة استنادًا إلى التراث الإسلامي مشروحًا شرحًا عرفانيًّا، يسمح لابن عربي أن يميز فلسفيًّا بين مفهوم «الدين الإلهي» الواحد، وبين «أديان المعتقدات» الكثيرة، وذلك في كتابه «فصوص الحِكم»، حيث يخصصه كاملًا للتوسع في عرض نظريته في «الكلمة».

عاودني الحنين لابن عربي حين أبلغني السيد «هِردر» الابن — صاحب دار النشر الألمانية المعروفة بهذا الاسم، والتي طبعت سيرتي الذاتية عام ١٩٩٩م بعنوان Ein Leben met dem Islam — بِنِية الدار العريقة إصدارَ كُتيبات، تخاطب القارئ الأوروبي العادي، عن أعلام «الروحانية» في الشرق والغرب. كان ذلك أثناء عشائنا في مدينة Freiburg في شهر ديسمبر ١٩٩٩م في سياق الاحتفال بصدور سيرتي الذاتية؛ فاقترح الدكتور «والتر»، مسئول النشر في الدار، أن أكتب كتابًا جديدًا عن «ابن عربي» مساهمة مني في هذه السلسلة، وخاصة لأن كتابي المنشور في طبعته الأولى سنة ١٩٨٣م كتاب أكاديمي لا يلائم القارئ غير المتخصص. اتفقت مبدئيًّا على كتابة الكتاب باللغة الإنجليزية لتكون ترجمته للغة الألمانية أيسر وأسرع، لكني أدركت أنني سأواجه صعوبات جمة لأكتب عن ابن عربي بلغة ليست لغتي الأم، وأوشكت على الاعتذار للناشر الألماني، لكن الناشر لم يسمح لي بالاعتذار ووافق أن يتحمل تكاليف الترجمة من العربية إلى الألمانية.
ثم كانت أجمل المفاجآت أن الأستاذة «آن ماري شيمل»، وهي من هي في ريادة الدراسات الصوفية، قد تفضلت مشكورة بالموافقة على أن تترجم ما أكتب من اللغة العربية إلى اللغة الألمانية. ومن المتوقع أن تصدر الترجمة الألمانية لهذا الكتاب بقلم الأستاذة الجليلة في غضون شهرين ليُعرض في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب في أكتوبر هذا العام. هذا الاستعداد من جانب الأستاذة الجليلة لترجمة الكتاب هو في ذاته شرف عظيم تطوِّق به عنقي. أما المعنى الأعظم لهذا الاستعداد من جانبها فيكمن في إيمان الأستاذة الجليلة بوحدة الحضارة الإنسانية إذا نظرنا إليها من منظور «التجارِب الروحية»، بصرف النظر عن اختلاف الأديان واللغات والثقافات في التاريخ الإنساني، وهو إيمان عميق يتجلى في كتاباتها كلها، خاصة تلك التي أتيح لي قراءة ما نُشر منها باللغة الإنجليزية. أيُّ شرف أن تقبل الأستاذة آن ماري شيمل أن نتشارك — وأنا في مقام التلميذ منها — في كتاب واحد؛ لنؤكد معًا من خلال ابن عربي وحدة الحضارة ووحدة التراث الروحي للإنسانية.

لقد انتهيت من كتابة الكتاب في يونيو من العام ٢٠٠١م، وذلك قبل زلزال الحادي عشر من سبتمبر بعدة شهور. والقارئ للتمهيد الذي يلي هذه المقدمة يدرك أن توابع زلزال الحادي عشر من سبتمبر فيما يخص العلاقة بين العالم العربي/ الإسلامي والعالم الغربي لم تأت بجديد. لقد بلورت المشكل في صيغة لا تحتمل التأويل؛ إنها علاقة «عدوان» متواصل على المستويات السياسية والاقتصادية، لكن هذا العدوان يحتاج دائمًا لحامل ثقافي أيديولوجي يخفي عنه صفة العدوان ويزيف مظهره تحت مسمى «اختلاف الحضارات». «هكذا تكلم ابن عربي» عن الحضارات والثقافات والأديان، هذا هو موضوع الكتاب الذي يشرفني أن أقدمه للقارئ العربي.

ولكن واجب الوفاء يقتضي مني شكر الصديق والزميل الدكتور «سمير سرحان» لإصراره المغلف بكثير من الحب والتقدير، ولرغبته المخلصة في أن يقدم بعض كتاباتي للقارئ المصري. ولولا إلحاح ابنتي العزيزة الدكتورة «شرين أبو النجا» بالتذكير المستمر بوعدي للدكتور سمير حين التقينا في «دمَشق» في أسبوع المدى الثقافي السنوي الثالث عام ٢٠٠٢م لكانت مشاغلي عاقتني عن الوفاء بالوعد. ولقد أسعدني غاية السعادة الأخ والصديق العزيز الأستاذ حسن ياغي حين عبر عن موافقته بإعادة طبع الكتاب بالمركز الثقافي العربي — ناشري الأصلي ومحل ثقتي المطلقة — مع اقتراح بعض التعديلات في ترتيب الفصول من جهة وإضافة بعض التوضيحات في متن الكتاب وحواشيه من جهة أخرى.


 







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة