كانت الساعة الثامنة مساء الأربعاء 8 يوليو، مثل هذا اليوم، 1970، حين بدأ توافدت الجماهير على مدينة بعلبك بلبنان لحضور حفل سيدة الغناء العربى أم كلثوم، ووصل أولا موكب الوزير اللبنانى فؤاد غصن ممثلا عن رئيس الجمهورية اللبنانية، وسفير مصر إبراهيم صبرى، ومحافظ البقاع جورج ساروفيم، وبسبب الاجتماع الطارئ للحكومة اللبنانية فى تلك الليلة، تخلف بعض الوزراء عن الحضور منذ بداية الحفل، بينما تركتهم زوجاتهم فى الاجتماع وذهبن إلى الحفل على أن يلحق بهن الوزراء مع بداية الوصلة الثانية، حسبما يذكر الكاتب والباحث كريم جمال فى كتابه «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى».
كان الحفل فى افتتاح دورة مهرجان بعلبك الدولى الخامسة عشرة، وضمن حفلات أم كلثوم بعد هزيمة 5 يونيو 1967 لدعم المجهود الحربى، ويذكر «جمال» أن لجنة المهرجان فكرت فى طريقة لزيادة الإيرادات رغم نفاد التذاكر قبل الحفل بأسبوعين، وذلك لزيادة قيمة التبرعات التى ستذهب إلى المجهود الحربى، فصكت ميداليات ذهبية تحمل صورة أم كلثوم، تباع الواحدة منها بخمس وعشرين ليرة لبنانية، على أن تطرحها فى شباك التذاكر ليلة الافتتاح، وما إن بدأ بيع تلك الميداليات حتى نفذت خلال ساعة واحدة، وبيعت أكثر من عشرة آلاف ميدالية، ليزيد إيراد تلك الليلة مائتين وخمسن ألف ليرة لبنانية على دخل الحفل الأصلى.
امتلأت مقاعد قاعة الحفل بالخمسة آلاف متفرج، ووقف ألف آخر فى الممرات الداخلية للهياكل التاريخية للمعبد، ويذكر «جمال» أنه فى الساعة التاسعة والربع رفع الستار عن أم كلثوم، ووقف «ظريف لبنان» نجيب حنكش ليقدمها إلى الجمهور، قائلا: «شرف كبير منحتنى إياه لجنة مهرجان بعلبك، عندما كلفتنى بتقديم أم كلثوم، وماذا أقول بأم كلثوم، ماذا أقول بمعجزة الغناء؟ إن الكلمة تسجد اليوم أمام ضيفتنا الكبيرة التى تعود إلينا لتغدق علينا خيرات ليلتين من ليالى العمر»، وغادر «حنكش» المسرح لينزل إلى مقعده فى القاعة.
شهد الحفل غياب قائد الفرقة الموسيقية لأم كلثوم عازف القانون محمد عبده صالح لوفاته يوم 30 يونيو 1970، ووفقا لجمال: « لم تلجأ أم كلثوم إلى تعويض مقعد عبده صالح بعازف آخر إلا بعدما أجبرتها الدعوات الموسيقية على ذلك فى سنواتها الأخيرة»، يضيف: «أرادت أم كلثوم أن تحيى لبنان فى الليلة الأولى، فاستهلت الحفلة بقصيدة الشاعر اللبنانى جورج جرداق «هذه ليلتى» للمرة العاشرة والأخيرة، وغنتها فى81 دقيقة».
أبدعت أم كلثوم، ويذكر «جمال»، أن كل دقيقة من تسجيل الأغنية فى هذه الحفلة لم تخل من تصرف وتلاعب بالنغمات، لدرجة أن الفرقة الموسيقية مع بداية المقطع الأخير من القصيدة لم تتمالك نفسها ونسيت الميكروفونات الموزعة على المسرح، وراح أعضاؤها يرددون كلمات الاستحسان لأم كلثوم، وانتفضت الجماهير فى القلعة يصفقون ويرقصون على نغمات القصيدة الراقصة.
ينقل «جمال» عن مجلة «الشبكة» اللبنانية عدد 13 يوليو 1970 بعضا من شطحات الجماهير أثناء غناء «هذه ليلتى»، فتذكر أن شخصا استبد به الطرب فراح ينتف شعره على مرأى من زوجته التى تشاغلت عنه وصارت تلوح بمنديلها للسيدة أم كلثوم لعلها تراها فى وسط عتمة المدرجات، وشخص آخر جاء من حلب السورية، وظل يهتف بعلو صوته «ثومة.. ثومة، تقبرى قلبى»، ولما بح صوته من شدة الصياح طلب من جاره فى المقعد أن يطلب من ثومة أن «تقبر» قلبه، وفى الصفوف الأولى جلست أميرة خليجية، وفى منتصف الوصلة الأولى تقريبا أصيبت بهستيريا طرب، فلم تعد تعرف كيف تتصرف، تارة تصرخ، وتارة تترجى أم كلثوم بالإعادة «كمان يا ست»، ومرة ثالثة تهتف بعلو صوتها «برافو»، وفى كل المرات كانت تقوم وتقعد وتلوح بالفرو الثمين الذى تضعه على كتفيها.
شهدت الوصلة الثانية مفاجأة، فبعد أن كانت أم كلثوم ستغنى «ودارت الأيام»، تعطل الجيتار الكهربائى عن العمل أثناء البروفة السريعة استعدادا للأغنية، ولم يتمكن عازفه عمر خورشيد من إصلاحه، وبسرعة جرت بروفة سريعة على أغنية «اسأل روحك» كلمات عبدالوهاب محمد، وتلحين محمد الموجى، ويذكر «جمال» أن الصحافة اللبنانية رصدت ظاهرة أسمتها «الجيل الجديد» خلال الوصلة الثانية، فقد انتشر الشباب فى مدرجات القلعة وجلسوا متساوين فى الطرب مع المخضرمين من كبار سميعة أم كلثوم، حتى أن أحد الشباب خلع سترته رغم موجة البرد وقذف بها فى الهواء تعبيرا عن نشوته وطربه، وشاب إصابته تصرفات أم كلثوم الغنائية فى «اسأل روحك» بحالة غريبة، فقد ظل يدور فى القلعة التاريخية ويمر أمام المسرح، ليقف قليلا، ويقول لأم كلثوم «الله يطول بعمرك»، ثم يكمل الدوران.
استمرت أم كلثوم 88 دقيقة فى وصلتها الثانية، وانتهت منها فى الساعة الواحدة صباحا، وكانت تلك آخر مرة تغنى فيها «اسأل روحك» التى غنتها خمس مرات تقريبا على مدار خمسة أشهر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة