دخل الفرنسيون القاهرة بقيادة نابليون بونابرت بعد هزيمة المماليك فى موقعة الأهرام يوم 21 يوليو 1798، فتفننوا فى جمع الأموال بفرض الضرائب الباهظة، ومصادرة الممتلكات بمختلف الوسائل مثل قيامهم بالإذن لنساء المماليك أن يفتدين أنفسهن بالمال ليسكن فى بيوتهن، وإن كان عندهن شىء من متاع أزواجهن يبذلنه، فإن لم يكن عندهن شىء منه يصالحن على أنفسهن ويأمن فى دورهن، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من كتابه «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر»، مؤكدا: «هذه طريقة بلغت حد الإعنات والإرهاق فى جمع الأموال من النساء تلقاء أن يأمن على أنفسهن، وهى أشد وطأة من الغرامات الحربية».
كانت السيدة «نفيسة المملوكية» أو «نفيسة المرادية» أهم من يشار إليهن فى هذا الحدث، وينقل «الرافعى» قول «الجبرتى» فى موسوعته «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»: «إن الست نفيسة زوجة مراد بك ظهرت وصالحت عن نفسها وأتباعها من نساء الأمراء والكشاف بمبلغ قدره مائة وعشرون ألف ريال فرنساوى، وأخذت فى تحصيل ذلك من نفسها وغيرها ووجهوا عليها الطلب «أى طالبوها»، وكذلك بقية النساء بالوسائط المتداخلين فى ذلك فصاروا يعملون عليهن إرهاصات وتخويفات».
ينقل الرافعى من الجزء الثالث للموسوعة الفرنسية «التاريخ العلمى والحربى للحملة الفرنسية»، قولها: «مجموع ما فرضه الفرنسيون على نساء المماليك بلغ 600 ألف فرنك»، لكنه يعلق على ذلك قائلا: «إذا رجعنا إلى نص الأمر الذى أصدره نابليون بتاريخ أول أغسطس، مثل هذا اليوم، 1798 فى شأن ما فرض على السيدة نفيسة زوجة مراد بك نجد أنه يقضى بأن تدفع هى وحدها 600 ألف فرنك عن نفسها وعن نساء المماليك من أتباع مراد بك، فيفهم من ذلك أن المبلغ الحاصل من نساء المماليك يزيد على ستمائة ألف فرنك، وأمام ذلك اضطرت لدفع حصتها فى الغرامة أن تتنازل عن حليها وجواهرها ومنها ساعة مرصعة بالجواهر أهداها لها القنصل مجالون باسم الجمهورية الفرنسية قبل مجىء الحملة الفرنسية لمصر تقديرا لخدماتها ورعايتها للتجار الفرنسيين».
يسلط الرافعى، الضوء على شخصية نفيسة، قائلا: «هى أكبر شخصية ظهرت بين سيدات مصر فى ذلك العصر، شركسية الأصل جاءت من بلاد آسيا الوسطى، تزوج بها على بك الكبير، فصارت بمثابة ملكة مصر، وبنى لها قصرا عظيما بالأزبكية بدرب عبدالخالق، ولما مات على بك تزوج بها مراد بك، فاحتفظت بمكانتها ونفوذها، وكانت على جانب كبير من التثقيف والتهذيب، إلى روعة فى الجمال وسمو فى العواطف، وتعلمت العربية قراءة وكتابة، وأقبلت على الكتب العلمية تطالعها وتدرسها فارتقت مداركها واكتسبت احترام العلماء والبكوات المماليك الذين بيدهم الحل والعقد، وكذلك اجتذبت قلوب الشعب بما اشتهرت به من البر والإحسان ورفع المظالم وحماية الضعفاء، فعظمت مكانتها بين طبقات الشعب».
يؤكد الرافعى، أن شهرتها سرت إلى الأوساط الأوروبية إذ عرف عنها الميل إلى تنشيط التجارة والصناعة، ومعارضة البكوات المماليك فى سلب أموال التجارة، وأهدتها حكومة فرنسا قبل الحملة الفرنسية ساعة مرصعة بالماس قدمها لها القنصل مجالون اعترافا لها بخدماتها للتجارة، وكانت تتبرع بإعانات شهرية لكثير من العائلات التى أحنى عليها الدهر.
يروى الجبرتى قصة وقعت بعد جلاء الفرنسيين تبين قدرها، قائلا إن خورشيد باشا والى مصر أمر بإحضارها إلى القلعة واتهمها بأن لها جارية تسعى إلى الاتفاق مع المماليك العصاة لتحريض الجند على التمرد، فأنكرت هذه التهمة، وطلبت الدليل على ما نسب إلى جاريتها وقالت: إذا ثبت أن جاريتى قالت ذلك فأنا المأخوذة به دونها، فأخرج خورشيد باشا من جيبه ورقة وتظاهر بأنها تثبت ذلك، فطلبت السيدة نفيسة الورقة فأعادها إلى جيبه، فوبخته نفيسة على عمله وقالت له: طول ما عشت بمصر وقدرى معلوم عند الأكابر وخلافهم والسلطان ورجال الدولة وحريمهم يعرفوننى أكثر من معرفتى بك، ومرت بنا دولة الفرنسيين فما رأيت منهم إلا التكريم وكذلك محمد باشا خسرو، كان يعرفنى ويعرف قدرى ولم نر منه إلا المعروف، وأما أنت فلم يوافق فعلك أهل دولتك ولا غيرهم، فقال: ونحن أيضا لا نقبل غير المناسب، فقالت له وأى مناسبة فى أخذك لى من بيتى بالوالى «رئيس الشرطة»، مثل أرباب الجرائم، فقال أنا أرسلته لكونه من أكبر أتباعى فإرساله من باب التعظيم، فاعتذر لها وأمرها بالتوجه إلى بيت الشيخ السحيمى بالقلعة وأجلسوها عنده بجماعة من العسكر «أى جعلوها تحت التحفظ»، فتدخل العلماء فى أمرها حتى توصلوا لإطلاق سراحها.
أدركت «نفيسة» عصر محمد على بعد أن فقدت أملاكها، ولم يبق لها سوى النزر اليسير منها، فعاشت فى قلة وفاقة إلى أن توفيت فى عام 1816.
سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 1 أغسطس 1798.. نابليون بونابرت يفرض على أم المماليك «نفيسة المرادية» غرامة 600 ألف فرنك فتضطر إلى التنازل عن حليها وجواهرها
الخميس، 01 أغسطس 2024 10:00 ص
نابليون بونابرت
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة