حين استقبل محمد محمود كمال حسنى مولودته الجديدة التى أسماها نجاة، يوم 11 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1938، كانت السادسة بين أطفاله الذين صاروا فيما بعد ثمانية، تميزوا بمواهب متعددة من بينها موهبة نجاة، التى أصبحت إحدى أجمل أصوات الغناء العربى، وعرفت باسم نجاة الصغيرة، للتمييز بينها وبين المطربة نجاة على التى كانت إحدى كبار المطربات وقتئذ.
كان الأب من مشاهير الخطاطين وقتئذ، أما إخوتها وأخواتها فكانوا من الموهوبين فى فنون عدة، مثل الرسم والنحت والغناء والعزف على بعض الآلات الموسيقية، فشقيقها عزالدين كان عازفا على آلتى الكمان والعود وملحنا معروفا، وبرع شقيقها فاروق فى العزف على القانون، بينما أجاد كل من شقيقها سامى وأختها سعاد فى مجال الغناء والتمثيل، وفقا للدكتور نبيل حنفى محمود فى كتابه «الغناء المصرى أصوات وقضايا ».
تذكر «نجاة» فى مذكراتها المنشورة بمجلة الكواكب من العدد 339، 28 يناير 1958: «كنا ثمانية، أربعة أولاد وأربع بنات، وكنت الثالثة بين البنات والسادسة بين أطفال الأسرة الثمانية، ولأمر ما كان أبى لا يسمح لنا نحن البنات بالذهاب إلى المدارس، ويستقدم لنا معلمة هى الست سكينة التى كانت تأتى إلى بيتنا كل يوم لتعليم شقيقتين اثنتين تكبرانى القراءة والكتابة، وعندما بلغت الرابعة من عمرى كان على أن أنضم إلى فصل الست سكينة، لأتلقى مبادئ القراءة فى الكتابة وبعض الحساب والقصص الدينية، لأن أبى على ما يبدو كان يريد إعدادنا لنصبح زوجات صالحات فى بيوت أولاد الحلال، عندما يدفع بهم الحظ إلى أبوابنا».
يذكر حنفى محمود أنه عندما لفتت الصغيرة نجاة أسماع الأسرة لجمال صوتها، تكفل شقيقها عزالدين بتلقينها أصول الغناء والعزف على العود، كما قام أيضا بتدريبها على أداء التراث الغنائى ممثلا فى أدوار شيوخ الغناء من أمثال أبوالعلا محمد وسيد درويش، وتفوقت فى كل ذلك، مما شجع عزالدين العازف بفرقة أم كلثوم على اصطحابها لحفلات أم كلثوم الشهرية، واكتملت عناصر التكوين الجيدة لنجاة بذهابها فى معية عزالدين إلى حفلات معهد الموسيقى الملكى على أيام رئيسه الذى لا يتكرر مصطفى بك رضا، كانت نجاة تؤدى أغنيات أم كلثوم الذائعة آنذاك فى سهرات الأسرة، وكان أداؤها مبهرا.
تؤكد نجاة فى الحلقة الثانية من مذكراتها فى الكواكب، 340، 4 فبراير 1958، أنه لما استمع كبار الموسيقيين بمعهد الموسيقى آداءها أغنيات أم كلثوم وهى بعد لم تتجاوز السادسة من عمرها، تقرر أن تغنى فى إحدى ندوات المعاهد الموسيقية التى تعقد شهريا، وفى الندوة التى تقرر تقديم الموهوبة الصغيرة فيها، رفضت محاولات رجال المعهد لحملها على الوقوف فوق كرسى وضع على المسرح حتى يراها الحضور، تصف نجاة ما حدث معها فى هذه الليلة: «عزفت الفرقة الموسيقية مقدمة أغنية أم كلثوم «غلبت أصالح فى روحى»، وبدأت أغنى، دخلت بصوتى فى اللحظة المناسبة، وما أن انتهيت من غناء المقطع الأول حتى ضجت قاعة الاحتفالات بالمعهد بتصفيق حاد دام لدقائق».
بعد حفلتها الأولى بمعهد الموسيقى الملكى، احترفت الغناء فى هذه السن المبكرة جدا، فتعاقد معها متعهد الحفلات صديق أحمد لإحياء حفلات بالإسكندرية صيف 1946، حسب ما تذكره فى مذكراتها، وتضيف: إنها فى إحدى تلك الحفلات تغنت بقصيدة أم كلثوم «سلوا قلبى»، وكان من بين مستمعيها الموسيقار محمد عبدالوهاب، والكاتب الشهير فكرى أباظة.
انفعل فكرى أباظة بالطفلة التى تغنى لأم كلثوم وكتب مقالا بمجلة المصور، فى 23 أغسطس 1946، قال فيه: «وحدقت بنظارتى فى المخلوق الصغير، فرأيت شيئا يرتدى فستانا سواريه كأم كلثوم تماما، وتقبض أنامل هذا الشىء على منديل أحمر كأم كلثوم، ثم بدأ التخت فأتميز غيظا، وتغنى الفتاة هذه «سلوا قلبى» وهى أقوى ما نظم شوقى وأقوى ما غنت أم كلثوم، ولم أفق من دهشتى وغيظى إلا على انطلاق صوت هذا الشىء الرزين برزانة وثبات وحلاوة وفن، فكدت أجن.. الله البنت تغنى بقوة لا نشاز ولا لعثمة، ثم تضج القاعة بالتصفيق الحاد».
تكشف نجاة فى مذكراتها، أنها غضبت من هذا المقال بالرغم من إعجاب فكرى أباظة بها، وتضيف: «طالب الحكومة بأن تتبنانى وترسل بى على نفقتها فى بعثة أدرس فيها أصول الغناء والموسيقى، وأبدى شفقته على من السهر ومن استغلال أبى لى ابتغاء المكسب المادى»، وتؤكد أن والدها غضب من نقد فكرى أباظة له، وغضبت هى أيضا، وتكشف: «أمسكت بيدى نسخة من المصور، ورحت أشكو فكرى أباظة لكل من أقابله، ولكن الناس كانوا يضحكون من الطريقة التى أبدى بها غضبى»، وأثار مقال فكرى أباظة ضجة فى الصحف كلها، وتؤكد نجاة: «اندفع الكتاب يعقبون عليه، وكان إخوانى جميعا فرحين بهذا الجدل الذى أثرته».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة