كان الزعيم الإيرانى محمد مصدق زعيما سياسيا من خليط غريب، كان خطيبا مفوها يجيد تحريك العواطف، ومثقلا بكل أحزان الشيعة، حسب وصف الكاتب محمد حسنين هيكل، فى كتابه «مدافع آيات الله- قصة إيران والثورة».
يتذكر «هيكل» كيف رآه شخصيا فى البرلمان الإيرانى أثناء زيارته لطهران عام 1950، قائلا: «حضرت عدة مناقشات فى المجلس، وأصبحت خصائص أسلوبه الخطابى مألوفة لدى، فعادة ما كان يبدأ بالتحدث إلى النواب عن آلام الشعب الإيرانى إلى أن يتملكه التأثر فينفجر باكيا، ثم يتحول البكاء إلى نوبة سعال، ثم ينهار تماما، فيندفع إليه النواب، يقدمون إليه أكواب الماء، والكولونيا، والمنعشات ليشمها، وبعد قليل ينجحون فى إعادته للوقوف على قدميه، ويشرع فى مواصلة خطبته، ليغلبه التأثر بنفس الطريقة مرة أخرى بعد خمس دقائق».
يضيف «هيكل»: «كان الجميع يتعجبون من صدق عواطفه، وبلا شك كان مخلصا للغاية، وبحلول عام 1950 أصبح تجسيدا لطموحات الشعب الإيرانى، لكنه كان فاشلا من وجهة النظر العملية كسياسى، إذ لم يكن لديه فكرة قط عن التنظيم والإدارة»، ويذكر الباحث البريطانى، مارك كوتيس، فى كتابه «التاريخ السرى لتآمر بريطانيا مع الأصوليين»، ترجمة، كمال السيد: «كان مصدق يحظى بتأييد شعبى هائل، واستطاع بصفته رئيسا للوزراء أن يحطم قبضة كبار ملاك الأرض والتجار الأثرياء على الشؤون الإيرانية».
كانت سياسات «مصدق» معارضة لإمبراطور إيران الشاه محمد رضا بهلوى، وكان نائبا فى البرلمان منذ عام 1906 وعمره 24 عاما «مواليد 16 يونيو 1882»، وأسس «الجبهة الوطنية» وأصبح رئيسها عام 1944 وتهدف لإرساء الديمقراطية، وإنهاء الوجود الأجنبى فى السياسة الإيرانية، ويذكر «هيكل»: «فى 19 إبريل 1951 أصبح رئيسا للوزراء، وأصدر قانون تأميم البترول فى أول مايو 1951».
كانت شركة النفط الأنجلو- إيرانية تستخرج البترول وتصدره إلى بريطانيا، وحسب مارك كوتيس: «كانت الشركة ملكية مشتركة بين الحكومة البريطانية ومواطنين بريطانيين، وأصبحت بحلول عام 1951 إمبراطورية داخل الإمبراطورية فى فارس، وكان دخلها من النفط أكبر من دخل الحكومة الإيرانية، ففى عام 1950 بلغت أرباحها 170 مليون إسترلينى، وتدفع منها إتاوة هزيلة إلى الحكومة تتراوح بين 10 و12 % من دخلها، فى حين كانت الحكومة البريطانية تحصل على 30 % كضرائب».
توقفت شركة البترول عن دفع التزاماتها للخزانة الإيرانية نتيجة للتأميم، فلم تصرف الحكومة رواتب العديد من الموظفين، ويذكر «هيكل»: «فى 26 مايو أقامت الحكومة البريطانية دعوى ضد إيران بمحكمة العدل الدولية فى لاهاى، وأوصت فى حكمها يوم 5 يوليو بالعودة إلى إنتاج البترول كما كان الحال، وفى 31 يوليو توقف تكرير البترول كلية، وفى سبتمبر عرضت بريطانيا النزاع على الأمم المتحدة، وذهب «مصدق» بنفسه إلى مجلس الأمن يعرض قضيته، وفى ربيع 1953 تدهور الموقف حيث زادت البطالة».
كان الفقيه الشيعى آية الله كاشانى حليفا قويا لـ«مصدق»، وطبقا لـ«مارك كورتيس»: «كان أهم شخصية دينية فى إيران، وفى 1944 ساعد فى تأسيس فرع إيرانى رسمى لجماعة الإخوان المسلمين هو «فدائيان إسلام»، وأصبح رئيسا لمجلس النواب، لكنه اختلف مع «مصدق» فى عام 1953، وتفاقم بإقالته من رئاسة البرلمان، ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية تهيأت الفرصة لنجاح خطة المخابرات الأمريكية فى الإطاحة بـ«مصدق» فى 19 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1953.
أعد خطة الانقلاب كيرمت روزفلت بالتنسيق مع ممثلى شركة البترول الإنجلو إيرانية، ويذكر مارك كورتيس أنها قامت على تمزيق الجبهة الواسعة التى أيدت «مصدق»، فاستعانت بـ«كاشانى» لقدرته على تنظيم المظاهرات لضخامة أتباعه، ودفعت بريطانيا عطايا لكبار التجار وقادة الجيش والشرطة ونواب البرلمان والشيوخ والملالى ومحررى الصحف وقدامى رجال الدولة وقادة الدهماء، كما حرك البريطانيون عملاء داخل حزب «توده الشيوعى» ليعتدوا على الجوامع والشخصيات العامة، بقصد إرهاب الإيرانيين لدفعهم إلى الاعتقاد بأن انتصار «مصدق» سيكون انتصارا للشيوعية.
فى أواخر يونيو 1953 أعطت أمريكا الترخيص النهائى للقيام بالانقلاب فى منتصف أغسطس، لكن الخطة تم إجهاضها باعتقال بعض المسؤولين، وأقيمت متاريس فى طهران ووقعت اشتباكات سقط فيها نحو 300، فهرب الشاه إلى العراق يوم 16 أغسطس، وفى يوم 19 أغسطس تم الهجوم على بيت «مصدق» ونهبه، وفى اليوم التالى استسلم إلى الجنرال زاهدى الذى عينه الشاه رئيسا للوزراء قبل أن يغادر البلاد.
قضت المحكمة بإعدام «مصدق» فى 21 سبتمبر 1953، وقال يوم صدور الحكم: «حكم المحكمة زاد أمجاد بلدى التاريخية، وأنا ممتن للغاية لإدانتها لى، الليلة ستعرف الأمة الإيرانية معنى الدستورية»، وتم تخفيف الحكم إلى السجن، ووفقا لـ«هيكل» نقلا عن ابن مصدق له: «وضع فى زنزانة تصل المياه فيها إلى وسطها، فأصيب بروماتيزم حاد، نتج عنه شلل كامل، وأطلق سراحه بعد خمس سنوات، ثم مات فى 5 مارس 1967».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة