لا يخلو يوم من الحديث عن الجرائم، التي انتشرت في كل مكان، وصارت لفظ "جريمة" تتردد في كل مكان، لذا من الطبيعى أن نسأل "ما الجريمة"؟
يقول كتاب " علم الجريمة: مقدمة قصيرة جدًا" لـ تيم نيوبرن، تحت عنوان: ما هي الجريمة؟
التركيز على "الجريمة" بالنسبة إلى بعض الباحثين النقديين، هو الإشكالية الكبرى في علم الجريمة، قد تتساءل: لماذا يعتبر ذلك مشكلة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تستحق قدْرًا من الاستكشاف المفصَّل بعض الشيء؛ لأنه لن يؤدِّي فقط إلى تحسين فهمنا لموضوع علم الجريمة، بل سيجعلنا نطرح السؤال المهم، وهو: ما الهدف من "علم الجريمة"؟
في الواقع، عند التفكير في هذا الأمر، ذهبَ البعض إلى أن علينا ببساطة التخلِّيَ عن فكرة علم الجريمة تمامًا وتركيز انتباهنا بدلًا من ذلك على مجموعة من الأمور الأخرى، مثل الانحراف بجميع أشكاله، التي قد يتناسب بعضها مع أحد المفاهيم التقليدية لعلم الجريمة، والبعض الآخَر لن يتناسب تمامًا بلا شك.
بادئَ ذي بَدْء، كيف يمكننا تعريفُ الجريمة؟ ماذا يقول القاموس؟ يعرِّفها قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية بأشكال مختلفة على النحو التالي:
(1)فعلٌ شرير أو مُؤذٍ، إساءة، إثم، لا سيَّما ذو طابع خطير.
(2)فعلٌ أو سَهْو يشكِّل إساءةً (عادةً ما تكون خطيرة) ضد أحد الأفراد أو الدولة ويُعاقِب عليها القانون.
إن النظر إلى «الجريمة» باعتبارها انتهاكًا للقانون الجنائي، كما في التعريف الثاني أعلاه، ربما تكون أبسطَ طريقةٍ لتعريف الجريمة. إذَن، خلاصة وجهة النظر هذه أن تلك الأمور التي نسمِّيها جرائمَ هي ببساطةٍ الأشياءُ التي نعتبرها وفقًا للقانون الجنائي أفعالًا قد تؤدِّي إلى فَرْض عقوبة. لكن القانون والأخلاق يتقاطعان في بعض النقاط. ففي القانون الجنائي غالبًا ما يتم التمييز بين الجرائم المُشار إليها باستخدام المصطلح اللاتيني mala in se، أو جرائم تُعتبر خاطئة في حد ذاتها، وتلك التي يُشار إليها بالمصطلح mala prohibita، أو الجرائم التي تُعتبر خاطئة لأنها محظورة. إيجازًا، هناك بعض السلوكيات — من بينها القتل، والاغتصاب، والسطو، والسرقة — محظورةٌ، وتُعتبر «خاطئة»، في كل مكان تقريبًا، ومجموعةٌ أوسع من الجرائم قد تختلف اختلافًا كبيرًا من ولاية قضائية إلى أخرى ومع مرور الوقت.
بالطبع هناك أيضًا مسائلُ مدنية يمكن أن تؤدِّي إلى فَرْض عقوبات — في إنجلترا، على سبيل المثال، توجد مجموعة كبيرة من الجرائم المتعلِّقة بنقل المهاجرين وتوظيفهم — لكن لا تندرج جميعها تحت مُسمَّى «جرائم». ومن ثَم سيكون النهج الضيِّق القائم على القانون الجنائي المتَّبع في علم الجريمة مقيِّدًا إلى حدٍّ استثنائي. والنظر إلى الجريمة بهذه الطريقة سيقودنا أيضًا إلى تجاهُل بعض التساؤلات الاجتماعية، والسياسية، والفلسفية ذات الأهمية البالغة، أبرزها: لماذا تخضع بعضُ الأمور لعقوبات جنائية دون البعض الآخَر؟ سوف نستكشف هذا لاحقًا فيما يتعلَّق بمخالفات الموظَّفين الإداريين. وأخيرًا، وفي هذا الإطار، فإن التأويل الدقيق والصارم يتعامل مع تطبيق القانون الجنائي بظاهره. فهو لا يتساءل، على سبيل المثال، عن كيفية تطبيق القانون الجنائي وسبب تطبيقه بالطرق التي يُطبَّق بها. فالطريقة التي يُطبَّق بها القانون لها عواقبُ حقيقية جدًّا على الأفراد والجماعات، وقد تؤثِّر أيضًا، بدورها، على طريقة فهْمنا للجريمة والتفكير فيها. لذا، فإن حقيقةَ أن بعض الجرائم يُعاقب عليها، دائمًا، أكثر من غيرها — مثل الاحتيال للحصول على مزايا غير مُستحَقة وسرقة المتاجر مقارنةً بتنزيل محتوًى من الإنترنت بشكل غير قانوني — قد تؤثِّر على طريقة تفكيرنا بشأن هذه الأفعال (هل هناك جريمة أسوأ من الأخرى؟) بل قد تؤثِّر حتى على احتمالية تورُّط الناس في مثل هذه الأعمال.
ماذا لو وسَّعنا نظرتنا، كما حثَّ البعضُ على ضرورة ذلك، وجعَلْنا تركيزَنا على انتهاكات القواعد الأخلاقية والاجتماعية، وليس مجرَّد الانتهاكات القانونية فحسب؟ هذا هو النهج الذي يتبعه أولئك الذين يَصِفون أنفسهم بأنهم «علماء اجتماع متخصِّصون في دراسة الانحراف»، في كثير من النواحي، وربما كان هذا هو النهج الذي كان مُتَّبعًا في علم الجريمة السائد في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والذي لا يزال له تأثير كبير. يسمح هذا النهج لخبير علم الجريمة على الأقل بفحصِ أشكالٍ من السلوك قد تُعتبر غيرَ ملتزمة أو منحرفة، حتى لو لم تكُن دائمًا إجراميةً من الناحية القانونية. وإذا كان اهتمامنا يتمحور حول النظام الاجتماعي والرقابة المجتمعية، فمن المؤكَّد أننا لا نريد أن ننحصر فيما يعرفه المشرِّعون بأنه إجرامي. ولنأخذ «الكتابة على الجدران» (الجرافيتي) مثالًا على ذلك.
نظرًا لارتباط الكتابة على الجدران ارتباطًا خاصًّا بمجموعة متنوِّعة من أنماط الثقافة الفرعية للشباب، وبخاصة الهيب هوب، فقد أصبحَت شكلًا من أشكال الفن الحضري أو مشكلةً اجتماعية (اختَر ما تشاء) على قَدْر كبير من الأهمية، وصار له حضور بارز في العقود الأخيرة. وبالرغم من صعوبةِ تتبُّع أصولها الحديثة، فقد أصبحَت بالتأكيد نشاطًا شائعًا وملحوظًا في مدينة نيويورك في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. في البداية كانت هذه الكتابات تُنفَّذ عن طريقِ مجهولِين، ثم بدأ المشاركون تدريجيًّا في تعريف أنفسهم عَبْر «وسوم»، وعندما أصبح الجرافيتي أكثرَ تعقيدًا وذا أنماط خاصة، زادت إشكالية مجهولية هُوية منفِّذيه. كان الجرافيتي آنذاك بالنسبة إلى الكثيرين عرْضًا عامًّا، بل وشكلًا من أشكال الفن، وبالتدريج اكتسب عددٌ من ممارسيه شُهرة. فالرسَّام جان-ميشيل باسكيا بدأ فنانًا جرافيتيًّا بالوسم SAMO©. وفي عام ٢٠١٠، اختارت مجلة «تايم» فنانَ الشارع البريطاني «بانكسي» ضمن قائمتها لأكثر مائة شخصية مؤثِّرة. وبطريقةٍ ما، أصبح الجرافيتي من الفنون السائدة المألوفة. ولكن بالرغم من هذه الشخصيات العامة المشهورة وفنونها الباهظة الثمن، فلا يزال كثيرٌ من أعمال الجرافيتي يُعَد لا شيء سوى مجرَّد آفةٍ تُشوِّه وسائلَ النقل العام والممتلكات الخاصة. فكيف ينبغي أن نَعُدَّها إذَن؟ هل هي جريمة/عمل إجرامي؟ هل يجب أن تكون محور دراسة لخبراء علم الجريمة؟ والإجابة القاطعة على هذا السؤال الأخير هي: «نعم». وتعود هذه الإجابة إلى عدة أسباب.
يكمُن السبب الأول وربما الأكثر وضوحًا في الإجابة عن السؤال الأول: بالفعل في بعض الظروف تُعامَل الكتابة على الجدران على أنها عمل إجرامي. في الواقع، يمكن أن يخبرنا تصدِّي السلطات للجرافيتي بالكثير عن الرقابة الاجتماعية المفروضة على الأماكن العامة والممتلكات العامة، وحول أفكار الشباب والنشاط الشبابي. السبب الثاني: هو أنه بالنسبة إلى بعض خبراء علم الجريمة، هناك أسئلة مثيرة للاهتمام يُثيرها ردُّ الفعل المجتمعي تجاه أعمال الجرافيتي فيما يتعلَّق بتقنيات مَنْع الجريمة وتأثيرها، وسنعود لمناقشة هذه النقطة بمزيدٍ من التفاصيل في الفصل الثامن. ولكنْ ثمَّة سببٌ آخَر وراء اعتبار الكتابة على الجدران موضوعًا وثيقَ الصِّلة بعلم الجريمة، وهو أنها تُساعدنا على التفكير في حدود السلوك، وبالأخص ما نعتبره سلوكًا «منحرفًا» أو «إشكاليًّا» بطريقةٍ ما. ومن خلال التركيز على حياة أولئك المنخرطين في مثل هذه الأنشطة، نواجه بعض التحديات التي تعترض النظامَ الاجتماعي المعاصر، وربما يدعونا ذلك إلى التفكير مجددًا في الطرُق المختلفة التي يمكن من خلالها ترتيب نظامنا الاجتماعي ومجتمعنا.