نواصل سلسلة مقدمات الكتب ونتوقف مع كتاب ورَثة الممالك المنسيَّة: ديانات آفلة في الشرق الأوسط لـ جيرارد راسل، فما الذي يقوله في مقدمته؟
مقدمة:
تخيَّل لو أن عبادة الإلهة أفروديت كانت لا تزال مستمرةً في جزيرة يونانية نائية، أو أنَّ عبَدة أودين وثُور قد تخلَّوا للتو عن بناء الزَّوارق الطويلة على سواحل الدول الإسكندنافية، أو أن أتباع الإله ميثرا كانوا لا يزالون يتبادلون المصافحة الشعائرية في الكنائس الرومانية المبنية تحت سطح الأرض. في الشرق الأوسط، على عكس أوروبا، نجَت دياناتٌ قديمة مماثلة؛ غالبًا في الأهوار، والبراري، والجبال، وغيرها من الأماكن النائية أو التي يتعذر الوصول إليها، وأحيانًا تحت ستار نظامٍ سرِّيٍّ صارم.
ربما كانت هذه الديانات ستُهيمن على العالم الحديث لو كان التاريخ قد اتخَذ منعطفاتٍ مختلفة. وكاد أحد أتباع الواعظ النباتي الصارم المسمَّى ماني أن يُصبح إمبراطورًا لروما. ولو كان قد فعل ذلك، فربما كانت الإمبراطورية الرومانية ستنشر تعاليمَ ماني، وليس المسيحية، في جميع أنحاء أوروبا؛ وبدلًا من الذَّهاب إلى بيت لحم، قد يتوجَّه الحُجَّاج الأوروبيون إلى أهوار العراق، حيث أولُ مكانٍ وعَظ فيه ماني. عِوَضًا عن ذلك، انقرض المانَويُّون، لكنَّ أقربَ أقربائهم، المندائيِّين، ما زالوا يعيشون في العراق. ولولا غزواتُ المغول وتيمورلنك، لربما ظلَّت بغداد مركزًا عالَميًّا للمسيحية؛ لأنه أتى عليها حينٌ من الدهر كان فيه لكنيسة المشرق، التي تتَّخذ من العراق مَقرًّا لها، أساقفةً وأدْيِرة في أقصى الشرق في بكين.
خلال أربعةَ عشر عامًا كنتُ فيها دبلوماسيًّا يتحدث العربية والفارسية، يعمل ويسافر في العراق، وإيران، ولبنان، صادفت معتقدات دينية لم أكن أعرفها من قبل: تحريم ارتداء اللون الأزرق، والشوارب الإلزامية، وتبجيل الطاووس. وقابلتُ أشخاصًا يؤمنون بكائنات خارقة للطبيعة تتَّخذ شكلًا بشَريًّا، وبقدرة الكواكب والنجوم على تسيير شئون البشر، وبتناسُخ الأرواح. كانت هذه الديانات من بقايا ثقافةِ ما قبل المسيحية في بلاد الرافدَين، لكنها استقَت أيضًا من التقاليد الهندية التي انتقلت إلى الشرق الأوسط عبر الإمبراطورية الفارسية، ومن الفلسفة اليونانية. وقد حافظَت هذه الدياناتُ أيضًا على عادات الحضارات القديمة التي كان أتباعُها آخِرَ سُلالتها الضعفاء. يُلقي هذا الكتابُ الضوء على بعضٍ، فقط بعض، من هذه المجموعات.
عندما التقيتُ بهذه المجموعات الدينية المختلفة، شعَرتُ بالإلهام والدهشة من ثباتهم على إيمانهم. فقد تمسَّكوا بالممارسات والتقاليد دون تغييرٍ أكثرَ من ألف عام، وأحيانًا حافَظوا عليها آلافَ السنين. ومع ذلك، فإن معظم هذه المجموعات الآن أكثرُ ضعفًا من أيِّ وقت مضى، ويهدف هذا الكتابُ إلى منحِهم صوتًا. وهم يستحقون الإصغاء إليهم لأسبابٍ أخرى أيضًا؛ فهم يربطون الحاضرَ بالماضي، مما يُقربنا من ثقافاتٍ اندثرَت منذ زمن طويل. فهم يربطون الشرقَ الأوسط بالثقافة الأوروبية من خلال إظهار كيفية انبثاقِ الاثنين من جذورٍ مشتركة. ويتَّبعون دياناتهم بشكل مختلف عن الأوروبيين والأمريكيين؛ فالأقباط، على سبيل المثال، يتحمَّلون عِبء صلاةٍ وصوم يفوق حتى ما يتحمَّلُه الرهبان في الغرب؛ والدروز لديهم دينٌ لا يطالبهم بشيء على الإطلاق، باستثناء عدم الزواج من خارجه. وهكذا يبدو لي أن المجموعات الواردة في هذا الكتاب تُعالج ثلاثةَ أمور أزعجَتني خلال مدةِ وجودي في الشرق الأوسط؛ وهي الجهل الجماعي للبشرية بماضيها، والتنافر المتزايدُ بين المسيحية والإسلام، والطريقة التي تزايَد بها اقتصارُ الجدَل حول الدين على المتمسِّكين بالمعنى الحرفي والملحِدين ضيِّقي الأفق.
ورثة الممالك
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة