يتحدّث محمود درويش عن طفولته قائلا: "إن طفولتي هي بداية مأساتي الخاصة التي ولدت مع بداية مأساة شعب كامل. لقد وضعت الطفولة في النار، في الخيمة، في المنفى، مرة واحدة" كان الطفل محمود نائما فوق سطح بيته العامر بالدفء والمحبة في إحدى ليالى صيف عام ١٩٤٨ وإذا به يستيقظ على صوت الرصاص الذي يشق سماء قريته الهادئة ويصوب من كل اتجاه ليجد نفسه يعدو مع ابن عم له في اتجاه أحراش الزيتون ثم الجبال الوعرة، وبعد ليلة مليئة بالذعر والعطش يجد نفسه في لبنان. تلك الليلة التي وصفها درويش بأنها وضعت حدا فاصلا لطفولته وأدخلته سريعا إلى عالم الرجال، وأصبح ذلك الطفل محروما من الأشياء واللغة التي تميزه عن عالم الكبار واقتحمت مفردات جديدة عالمه الصغير : "الحدود، اللاجئون، الاحتلال، العدوان، العودة، وكالة غوث، الصليب الأحمر، الجريدة، الراديو" وكأن ارتباطه المباشر بالقضية الفلسطينية بدأ بتعرفه المفاجئ على تلك الكلمات؛ ففقد موهبة اللعب وتسلق الأشجار وقطف الأزهار ومطاردة الفراشات، وركن إلى الصمت والتأمل الذي أصبح موهبته الأولى التي قادته إلى كتابة الشعر التي كانت نتاج الارتباط المرهق بهموم تلك الكلمات الجديد وسط مناخ ضاغط من الغربة والمنفى والغضب والشكوى والحرمان وكراهية العدوان، وبعد عودته إلى فلسطين باعتباره لاجئا فلسطينيا في فلسطين!! كتب قصيدته الطويلة الأولى التي احتذى فيها حذو المعلقات، وكانت عن العودة إلى الوطن، وبعدها نشرت بعض محاولته الشعرية الأولى في بعض الجرائد.
ويعلق درويش معبرا عن فرحته ببدايات نشر شعره: "كنت أحدق طويلا باسمي المطبوع في الجريدة؛ فأطمح إلى أن يطبع مرات أخرى". وقد ظل درويش يكتب الشعر بدأب متواصل حتى أن الشعر في مرحلة تعليمه الثانوي كان يشغل الحيز الأكبر من وقته، ولكنه- كما وصف نفسه في تلك الفترة- كان سريع التأثر بالشعراء الذين يقرأ لهم، وكان انسياقه وراء الموسيقى ينسيه أو يضيع عليه الفكرة. غير أن كتابة الشعر في تلك الفترة المبكرة من حياة درويش كانت- في تصوري الخاص- رد فعل عميق لأخطار "غسل الدماغ الثقافي"بتعبير درويش الذي يشرح ذلك قائلا: كانوا " يعلموننا عن تيودور هرتسل أكثر مما نتعلمه عن النبي محمد-صلى الله عليه وسلم- والنماذج التي ندرسها من شعر حاييم نحمان بياليك أكثر بكثير من نماذج المتنبي، ودراسة التوراة إجبارية أما القرآن فلا وجود له". في ذلك المناخ القامع المضلل نمت لدى الشاعر قدرات التحفز والتحدي والإيمان بأهمية ارتباط الشعر بقضية الوطن والدفاع عنه وأصبحت الكلمة قرينة العمل والكفاح والمقاومة من أجل استعادة الوطن المسلوب وصار الشاعر منتميا لكل الثورات في العالم لاسيما الثورات العربية وأفعال المقاومة الباسلة التي قد لا تنتهى بالنصر لكنها تنطوي على الإيمان بالموت في سبيل المبدأ باعتباره فعل استشهاد وطقس بعث وحياة؛ لذلك يقول درويش في ختام قصيدة "عناقيد الضياء" تحية حب إلى الجزائر من ديوانه الأول عصافير بلا أجنحة الصادر عام 1960:
يا نسورًا بعضُها قصّت جناحيها أيادٍ أجنبيه
في السماء المغربيه
فتهاوت بيد الموت تغني
بيد الموت تغني
لفظةُ الموتِ حياةٌ في الشفاه العربيه
والقلوب العربيه
خلفَها تحيا الملايين أبيه
فشهيدُ الفجرِ بعثٌ وحياه
في بلادٍ خَلقَ الموتُ بها حبَّ الحياه
وإذا كان محمود درويش قد حذف ديوانه الأول عصافير بلا أجنحة من أعماله الكاملة التي يعتدّ بها لأنه كان تعبيرًا عن محاولات غير متبلورة لا تستحق الوقوف أمامها، فإن هذا الديوان في الآن ذاته يعبّر عن انتماءاته الأولى وعمّا سيصير إليه تطوره الشعري من تأثر واضح ببقايا الصياغات الكلاسيكية بجانب التأثر بعلي محمود طه ونزار قباني إلى التحول بعد ذلك إلى التأثر بتجارب شعراء التفعيلية الذين أشار إليهم وهم عبدالرحمن الشرقاوي وبدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي ومعين بسيسو لتبدأ مرحلة ديوانه الثاني "أوراق الزيتون" الصادر عام ١٩٦٤، ويشرع الشاعر في الاهتداء إلى صوته الخاص متخلصًا من بقايا النبرات الكلاسيكية القديمة والنبرات الرومانسية الناعمة بمحمولاتها العاطفية المستهلَكة، وما تستدعيها من صياغات خليلية مقفاة تتجاور تجاورًا قلقًا مع الصياغات التفعيلية التي تحمل المضمون الثوري وبدايات شعر المقاومة. وينتقل الشاعر -على حد توصيفه لتجربته- من سمة "الثوري الحالم" إلى سمة "الثوري الأكثر وعيًا" في تغنّيه بآلام الناس وبالأرض والوطن والإصرار على رفض الأمر الواقع وتأكيد فعل الصمود الفلسطيني أمام ما يعانيه من عذاب دائم لا يتوقف؛ لذلك نراه يستهل ديوان أوراق الزيتون بتلك النبرة العاتية الغاضبة المتحدية:
الزنبقاتُ السودُ في قلبي
وفي شفتِي اللهبْ
من أي غاب جِئتِني
يا كل صلبان الغضب
بايعتُ أحزاني
وصافحتُ التشردَ والسغبْ
غَضَبٌ يدي
غضبٌ فمي
ودماء أوردتي
عصيرٌ من غضب
يا قارئي
لا ترجُ منِّي الهمسَ
لا ترجُ الطَّرَبْ
هذا عذابي
ضربةٌ في الرمل طائشة
وأخرى في السُّحُبْ
حسبي بأنّي غاضبٌ
والنار أولها غضبْ