يعد الموسيقار محمد القصبجى أحد المجددين العظام فى تاريخ الموسيقى العربية، إن لم يكن مجددها الأعظم، بوصف الموسيقار الكبير كمال الطويل فى لقائى به بمنزله عام 1997، والمعروف أن «القصبجى» عاش حياته حتى وفاته يوم 25 مارس 1966 عزوفا عن المجتمعات، وقليلا فى حواراته الصحفية، وفى 22 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1953، نشرت مجلة الكواكب، فى عددها رقم 112، حوارا نادرا معه، كشفت فيه عن بعض أسرار بداياته ورحلته مع منيرة المهدية وأم كلثوم.
قال «القصبجى»: إنه ولد فى 15 إبريل 1898، وأضاف: «معروف أن مواليد إبريل هم من الفنانين تقريبا، إذن ولدت لأكون فنانا، وأبى كان فقيها يقرأ القرآن، ومنشدا وفنانا وموسيقيا، يعزف على العود سرا وعلانية، وكان ملحنا هاويا يتبرع بالألحان لأصدقائه من أهل الطرب والغناء، وفتحت عينى لأسمعه يرتل القرآن بصوت جميل، ويعزف العود، ويترنم بألحان رائعة فى زمانه».
يضيف: «أعدنى أبى لأكون فقيها مثله، وأبعدنى عن أن أكون موسيقيا، ولكننى أخذت بالاثنين أصبحت فقيها وموسيقيا فى آن واحد، حفظت القرآن كله وأنا فى التاسعة من عمرى، وكان هذا مبعث دهشة أبى وأقاربى، وقالوا عنى إننى نابغة، وسمعت أبى يعزف العود، وكان يحرم على أن أقرب عوده، ولكننى كنت أغافله وأمسك به أثناء غيابه عن المنزل، وأعزف بالسليقة ما كنت أسمعه يعزفه عليه».
يكشف: «كان إلى جوار منزلنا دكان نجار، فأحضرت من عنده قطعة خشب وأصلحتها على هيئة العود، وثبت فيها أربعة مسامير، وكنت كلما ألقى أبى بوتر مقطوع ثبته فى خشبتى وعزفت عليه، كنت أعزف عليه «تعاليلى يا بطة»، وكنت أجيد عزف هذا اللحن وسواه، وبدأت أقلد الباعة السريحة، الذين كانوا يزعجوننا بأصواتهم، خاصة باعة الحلاوة، وسمعنى أبى فقال: ابعد عن هذه الشقاوة وانتبه لدروسك، فإننى أعدك لتكون مدرسا، وكنت فعلا أشطر تلميذا بمدرسة المعلمين، كنت أحصل على النهاية الكبرى فى الحساب ورسم الخرائط، ولكن لم أجد فى نفسى منذ صغرى ميالا إلى مهنة التدريس، وامتهنتها فترة طويلة من حياتى، ممتزجة بدراساتى الفنية وتلحينى الأغانى».
يذكر بدايته مع الألحان بحادث غريب، قائلا: «حدث أننى غفوت وأنا طفل، وفيما أنا نائم إذ شعرت بأن شيئا قد دخل فى عقلى وأذنى، موسيقى، لحن غريب، وأنا بعد لا أعرف فى الألحان أو التلحين شيئا، وقمت من نومى فى منتصف الليل، وأمسكت بعود أبى وعزفت اللحن الذى جاء فى المنام دون أن أعرف شيئا فى الموسيقى، وكان لحنا رائعا، سمعه أبى والأصدقاء، فأوصونى بأن أمتهن التلحين والموسيقى».
وعن ملهماته فى التلحين، قال: «ملهماتى من نوع مغاير لملهمات الآخرين، من ملهماتى الرعد والبرق، أحس وأنا أستمع إلى الرعد وأنا أنظر إلى البرق بروحى تنساب إلى عالم جديد، فيه ألحان سماوية، والجسم الجميل يلهمنى بالروائع، كل ما هو غير طبيعى يلهمنى، الجمال الزائد أو القبح الزائد أو الجريمة المنكرة، وغضب الطبيعة من زلزال مخيف ورعد مروع».
وعن احترفه للتلحين، قال: «تخرجت فى معهد المعلمين وجاءنى أمر التعيين مدرسا، وأردت أن أفر من هذه الوظيفة، ووجدت فى الكشف الطبى فرصة للزوغان، فعندما بدأوا فى الكشف على نظرى وكان قويا، تعمدت ألا أميز العلامات، ولكن باشكاتب القومسيون كان جارنا، فأوصى بى الطبيب، فأعاد الكشف ونجحت مرغما وأصبحت مدرسا، وكنت قد أتقنت عزف العود فمارست تدريبه للراغبين، وكان أجر الحصة خمسة قروش، وأصبحت أبرز مدرس لأننى كنت أتكسب كثيرا من مهنة تدريس العود، علاوة على مهنتى كمدرس فى المدارس حتى لحنت، وكنت أكره أن أدرس العود وأنا بالعمامة، فأترك المدرسة لكى أخلعها وأرتدى طربوشا».
يضيف: «فى عام 1921 احترفت رسميا مهنة العزف، إذ طلبت للعمل فى تخت المرحوم مصطفى رضا ومحمد العقاد، وكنت أتقاضى جنيهين فى الليلة الواحدة، ثم تقاضيت ستة جنيهات أجرا من شركة الأسطوانات مقابل تلحين دور «بعد العشا»، وعرفت منيرة المهدية، وكانت سيدة زمانها فى دنيا الطرب، فلحنت لها «شيل الحمام، ويا قلبى أصبر على الآسية، ومن بعد 12 سنة»، ثم لحنت لها روايات «المظلومة، والمفتش، وكيد النسا، وحياة النفوس».
وأوضح أنه تعرف على أم كلثوم عام 1924، ويكشف: «عرفتنى دون أن ترانى، كانت تغنى لى لحنا كان شائعا «آل إيه حلف ما يكلمنيش»، فعرفنى بها مدير شركة أوديون، ثم بدأت معرفتى بها تزداد توثقا عندما حولت لها أغنية لأحمد رامى من قصيدة إلى مونولوج، هى «إن حالى فى هواه عجب»، ولحنت لها إحدى عشرة أغنية على نظام التخت القديم، ثم لحنت أول قطعة لها بعد ظهور التخت الجديد وهى «إن كنت أسامح وأنسى الأسية »، وبدأ اسمى يظهر فى دنيا الملحنين، وكان من أظهر الأسماء بلا منازع».