الموسيقار الراحل عمار الشريعى صاحب الموهبة الفذة التى لم ولن تتكرر فى أى عصر كان، فجميعنا يعرف معظم أعماله الفنية سواء من تترات المسلسلات أو موسيقاه التصويرية أو الأغانى التى حققت نجاحًا كبيرًا، لكن كونك تعيش داخل هذا الشخص بمعنى أنك تكون على دراية بكل كبيرة وصغيرة فى حياته أو كيف كانت بدايته وحياته اليومية وطريقة تعامله مع الآخرين وبمن تأثر وقصة صعوده سلم المجد وأزماته وغيرها من سيرة «غواص الموسيقى» فهذا ما تحويه سطور وصفحات كتاب «عمار الشريعى.. سيرة ملهمة» للكاتب الكبير سعيد الشحات.
كتاب «عمار الشريعى.. سيرة ملهمة» لا يعد مجرد كتاب يتحدث عمّن هو عمار الشريعى بشكل سطحى، أو كما نقول بالعامية «من على الوش»، بل يخوض فى تفاصيل كثيرة مؤكدة لكل منها شاهد على صحتها، ليصبح عملاً وثمرة لكل الباحثين والدارسين لشخصية الموسيقار الكبير عمار الشريعى.
الأمر ليس هينا عندما تكتب عن حياة شخص رحل عن عالمنا، لأنه ببساطة أمر صعب التحقق منه، فكون الشخصية راحلة من عالمنا الصغير يحتاج الأمر منك إلى موهبة متعمقة فى ذلك لنقل الحكاية والتفاصيل بصدق لقراء يكتسبون تلك المعرفة عبر القلم الذى دوّن تلك الحروب، وهو ما فعله الأستاذ الكبير سعيد الشحات، فعند قراءتك لكتاب «عمار الشريعى.. سيرة ملهمة» ستجد أن كل معلومة لها مصدر موثوق، ما يعطى الكتاب ثِقلا بين كتب السيّر الذاتية.
إلى جانب هذا، يخرج القارئ بكمية معلومات تاريخية لا حدود لها، فتجد مثلا أن أصول عمار الشريعى تعود لعائلة لها باع طويل فى العمل السياسى والحركة الوطنية المصرية، وهو الأمر الذى لم يمر مرور الكرام مع الكاتب لكنه يعطيك تفصيلة عن تلك الفترات وأحداثها، فلا يتركك للخروج من إطار صفحاته إلا وأنت مزود بمعلومة مفيدة وموثقة وهو ما يُكسِبك تنوعا معرفيا غير عادى، فتجد مثلا معلومات عن إنشاء أول برلمان مصرى باسم «مجلس شورى النواب» عام 1866، وثورة 1919.
ويكشف «الشحات» فى كتابه مجموعة من الأسرار فى حياة الموسيقار الفذ عمار الشريعى، منها حكايته مع والده وكيف تعامل الأب مع الابن الذى وُلد «كفيفًا»، وكيف أحدث ذلك زلازلا لدى أمه، وحكاية السيدة التى تسببت فى حزن شديد بداخل عمار عندما قالت: يا عينى عليك يا ابنى.. يا قلب أمك.. يا ترى أمك عاملة إيه؟
كما سيكون القارئ على مع موعد مع حكايات أكثر وتفاصيل جمّة، مثل تغير مساره من التحاقه بالأزهر الشريف ليدخل مدرسة المكفوفين الداخلية فى حى الزيتون بالقاهرة، والمدرس صاحب الفضل فى تعليمه الموسيقى إلى أن أصبح عازف بيانو وأكورديون بدرجة مدهشة، ثم عازفا على العود بالدرجة نفسها.
كما يروى كتاب «عمار الشريعى.. سيرة ملهمة»، حكاية جهاز الراديو الذى لعب دورا رئيسيا فى تكوينه، إذ كان هذا الجهاز بالنسبة للمكفوفين عالما فى حد ذاته، وقصة «شلة العميان» التى كونها، وسبب العلقة من أمه التى ضربته بالخيزرانة والشبشب، ورحيل والده والذى وصفها «عمار» بأن العصا التى يتوكأ عليها كسرت، وقال عمار عن تلك اللحظة: «فجأة قال لى: أنا تعبان وعاوز هوا، وراح، وفى اللحظة بين شكوته ووفاته، ترجيت ربنا إنه ياخدنى أنا ويسيبه هو، قلت لربنا: يارب الناس مش عاوزانى ومحتاجه له هو، أنا مليش لزمة، خد عمرى وإديه له، لكنه مات»، ليعيش عمار شهرين ثلاثة فى هزة نفسية نتجت عن حدوث نوبات شلل وعجز.
وتجد داخل الكتاب الملىء بالتفاصيل المهمة فى حياة عمار الشريعى حكاية رفض أمه دخوله معهد الموسيقى العربية، وأنه من أجلها التحق بكلية الآداب جامعة عين شمس قسم اللغة الإنجليزية، ليحدث أمر غير متوقع أحدث صدمة لديه، ولكنه أخذها كسلاح وتستفز بداخله روح العناد ويقدمه أستاذه بعد ذلك ويقول «أقدم لكم عمار الشريعى.. أول الدفعة».
وفى أحداث الكلية التى يضمها كتاب «عمار الشريعى.. سيرة ملهمة»، حكاية المرافق الذى أتت به الكلية له فى الامتحانات وتسبب فى وضع كارثى جعل عمار ينفعل بصوت مرتفع أجبر رئيس القسم على الحضور للجنة، وأشياء أخرى يرويها صديقه بالجامعة الفنان سامح الصريطى.
كما يروى الكتاب حكاية للفنان على الحجار، خلال عمل عمار فى فرقة الراقصة زينات علوى، وما الأمر الذى جعل الحجار يقول حلال حديثة للكاتب سعيد الشحات عن عمار «ابن الإيه كان صايع».
وأيضا يتناول الكتاب فترة عمله فى الأفراح الشعبية وحكاية عزف الفرقة على عربة «كارو» فى أحدها وما حدث بعد ذلك، وحكاية أمه التى قاطعته بعد تخرجه وعمله والتى طردته من المنزل ومصالحتها له قبل أسبوع من وفاتها، وحكاية ابتعاده عن عمل موسيقى الأفلام السينمائية لمدة 4 سنوات بسبب جملة «ده راجل ما بيشوفش يا جماعة».
وبطبيعة الحال، تناول الكتاب قصة أول لحن مع المطربة مها صبرى، الذى لم يتقاض عنه مليما واحدا، وحقق نجاحا كبيرا، إلى جانب قصة أول موسيقى تصويرية له بأحد المسلسلات، ثم اختيار الفنانة شادية له ملحنا لأغنية وطنية عن مصر.
أما عن حكايته مع الشاعر سيد حجاب ولقاء الفنان على الحجار فيسرد كتاب «عمار الشريعى.. سيرة ملهمة»، العديد من التفاصيل التى تسمعها لأول مرة فى حياتك وسر ترابطهم سواء كأصدقاء أو من خلال العمل فى أعمال فنية عديدة، وهى الثمار التى يجنيها محبو الموسيقى حتى الآن، كما تقرأ النصيحة التى أعطاها لـ«الحجار» وامتدت فى كل أعماله اللاحقة».
ومن الحكايات التى تجذبك من عنوانها داخل الكتاب «مع الأبنودى فى النديم»، والتى تكشف بداية التعاون بين عمار الشريعى وعبدالرحمن الأبنودى بداية من مسلسل «النديم»، إذ شهدت ثنائية «عمار والشريعى» دفعة قوية فى بدايتها، ثم حدثت القطيعة بينهما أعواما طويلة، اقتربت من 20 عاما، وكواليس الصلح الذى تم على يد المخرج حسنى صالح والذى لجأ إلى «الكذب» وادعاء أمر لم يحدث فى الأساس حتى تعود المياه إلى مجاريها بين الاثنين.
ومن بين فصول الكتاب يأتى فصل بعنوان «الكفيف الذى يرى»، ويضم حكاية من أغرب الحكايات التى من الممكن أن تسمعها عن عمار الشريعى، والتى تنم أيضا على أن الكاتب الكبير سعيد الشحات يمتلك بجانب قلمه صورة تعبيرية صنعها بحروفه فتشعر وكأنك جالس معهم فى الحكاية من خلال وصف قادر على أن يجعلك جزء من الموقف ذاته، وهو أن «الشريعى» كان يقف مع فنى لضبط اتصال الريسيفر بالتليفزيون ويمسك بالريموت ويقلب قنوات التليفزيون ويبلغ الفنى عن حالتها سواء «الصورة جيدة أو سيئة» وهو ما جعل «الشحات» لا يصدق أنه أمام إنسان كفيف، ليجيب عبر طيات صفحاته: هل كان «الشريعى» يرى أم لا؟
الكتاب ملىء بالحكايات والتفاصيل التى تكشف للقراء لأول مرة عن الموسيقار الكبير عمار الشريعى، بعد عمل دؤوب ينم عن حرفية الكاتب لصنعته وإبداعه، وكما كان «الشريعى» يطوع السلم الموسيقى على هواه بأنامل ذهبية، استطاع الأستاذ سعيد الشحات، تطويع حروفه لتخرج وكأنها لحن من ألحان الموسيقار الراحل.