كانت الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق مساء 24 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1970، حينما وجه الرئيس السودانى، جعفر نميرى، نداء بصوته: «الأخ المناضل ياسر عرفات، باسمى شخصيا ونيابة عن الوفد الذى وصل إلى عمان هذه الليلة، نرجو منكم أن تقترحوا علينا كيف يمكن الاتصال بكم ومكان وموعد الاجتماع وبأى وسيلة متاحة، وبما أن الأمر مهم وعاجل، فأرجو تحقيق ذلك حالا، نكرر حالا.. وشكرا».
كرر راديو عمان النداء، وفقا للفريق محمد أحمد صادق رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية فى مذكراته على موقع «البديل - 28 مارس 2015»، وكان ضمن الوفد المرافق لنميرى، الذى عاد إلى عمان بقرار القمة العربية الطارئة المنعقدة فى القاهرة لوقف المعارك بين الجيش الأردنى والفدائيين الفلسطينيين، وعاد بعد ساعات من مغادرته عمان، وفشل اتفاقه على وقف القتال يوم 23 سبتمبر، وكان يرافقه، حسين الشافعى «مصر»، رشاد فرعون «السعودية»، سعد العبدالله الصباح «الكويت»، والباهى الأدغم «تونس»، فاروق أبوعيسى «السودان»، الفريق محمد أحمد صادق.
يذكر عبدالمجيد فريد، أحد كبار مساعدى عبدالناصر وأمين عام رئاسة الجمهورية فى كتابه الوثائقى «من محاضر اجتماعات عبدالناصر الدولية والعربية 1967 - 1970»: «فى 17 سبتمبر 1970 بدأ الهجوم الوحشى لقوات البادية «أردنية» على معسكرات الفلسطينيين ومراكز تدريبهم، وتدهور الموقف بسرعة، ورأيت عبدالناصر عابسا حزينا تكاد تطفر الدموع من عينيه، خاصة كلما سلمته برقية من سفارتنا فى عمان تشرح المآسى وعدد الضحايا والشهداء الأبرياء، ورغب فى أول الأمر أن يسافر إلى عمان لوقف هذه المجزرة، ولكن الموقف المتأزم مع إسرائيل كان له بالمرصاد، فأرسل الفريق صادق نيابة عنه».
يكشف الفريق صادق، أنه بعد أكثر من ساعة على نداء «نميرى» رد «عرفات» ببيان من راديو اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية بدمشق، قال فيه: «سمعت نداءكم الموجه إلينا من إذاعة عمان من أجل لقاء عاجل وفورى يجمعنا، وتلبية لندائك أقول: ليكن الاجتماع الليلة وفى حدود الساعة الواحدة، ونقترح أن تصلوا سيادتكم عبر الطريق الموصل من فندق الكرمان إلى مدرسة عالية إلى مقر سفارة الجمهورية العربية المتحدة «مصر» فى جبل اللوبيدة، ويصلكم مندوب من طرفنا ليرافقكم إلى مقر الاجتماع».
التقى الوفد بعرفات، وفيما كان النقاش يدور حول وقف إطلاق النار، كان «صادق» يخطط لتهريب «عرفات» إلى القاهرة، حسب تعليمات عبدالناصر السرية له، فى الوقت نفسه كانت القاهرة تشهد حدثا مهما، وهو استقالة رئيس الحكومة الأردنية الزعيم «محمد أبوداود» الذى كان فى القاهرة رئيسا لوفد الأردن بالقمة العربية، وكان رئيسا لأول حكومة عسكرية فى تاريخ الأردن، وتشكلت يوم 15 سبتمبر 1970».
كتب «داود» فى استقالته إلى الملك حسين: «مع أن جلالتكم والدنيا تعلم أن حكومتى جاءت لهدف واحد، هو إصلاح وتنفيذ الاتفاقات والتعاون مع الفداء الغالى وجمع القوى لصد العدو الغاشم، إلا أننى أشعر بأننا ضحينا بوطننا فى خطانا الأولى، ويجب علينا بل للوطن علينا الحق بالتضحية وباستمرار حتى آخر نفس فى جسمنا، وما زالت هذه المخاوف التى لا مبرر لها، وأنا ابن الفداء وابن فلسطين وجرح فلسطين أحمل جراحى ليومنا هذا، أرجو يا سيدى أن نرفع لجلالتكم استقالتى لتتمكنوا من تأليف حكومة مدنية حسما للمخاوف واعتبارا من هذا اليوم.. عاش الحسين وعاش فدائيو فلسطين أبناؤكم الأبرار».
يرى الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل أن هذه الاستقالة تكاد تكون سقطت من كتاب التاريخ بالرغم من تأثيرها القوى فى وقف القتال، ويقول فى برنامج بعنوان «طريق أكتوبر ونذر حرب جديدة- قناة الجزيرة 26 أغسطس 2010»: «جاء رئيس الوزراء إلى القاهرة ورأى وسمع ما يكفيه، كان فى قاهرة تقود، وعارفة بتعمل إيه، قاهرة بشكل أو بآخر لها مكانتها فى العالم العربى، ومكانتها مش كلام جرايد».
يكشف «هيكل» تفاصيل الاستقالة فى كتابه «الطريق إلى رمضان» قائلا: «إنه كان لداود ابنة تتلقى العلم فى بيروت، وحين سمعت أن والدها فى مؤتمر القمة، جاءت إلى القاهرة، وناشدته ألا ينضم إلى جانب الملك فى إجراءاته ضد المقاومة، كذلك فإن «القذافى» شدد عليه فى هذا الطلب، وقال له: إنه يخون القضية العربية، وانهمرت الدموع من عينى الجنرال، وقال متسائلا: وماذا فى مقدورى أن أفعل؟ فقال له «القذافى» مشجعا: «اترك الخدمة، ابق هنا وابعث باستقالتك»، يضيف «هيكل»: «اقتنع الجنرال وسارع القذافى يبلغ عبدالناصر بما حدث، ورأى عبدالناصر أن ذلك تطور مفيد يساعد فى الضغط على الملك حسين».
يؤكد «هيكل»، أنه كوزير للإرشاد القومى اقترح على القذافى أن يعقد الجنرال داود مؤتمرا صحافيا يشرح فيه أسباب الاستقالة، وسأله عن مكانه فأبلغه بأنه موجود فى مكان سرى وأستطيع أن آخذك إليه»، ويكشف «هيكل»: «ذهبنا فى سرية شديدة، ولدهشتى الكبيرة كان المكان هو قصر القبة فى الجناح المخصص لإقامة القذافى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة