عدم الاهتمام بالتوثيق والحصول على الأوراق الرسمية مثل "قسائم الزواج" فى السودان يتحول إلى كابوس يطارد اللاجئات السودانيات
قصص للاجئات سودانيات يفشلن فى تسجيل أطفالهن بسبب غياب المستندات الرسمية.. ويحرمهن من الحصول على المساعدات
نازحو الداخل ولاجئو الخارج يلجأون للزواج كحل لمواجهة تباعات الحرب والأوضاع الاقتصادية الطارئة
الحرب تعمق قضية زواج القاصرات وتزيد من معدلاتها.. توثيق حالات زواج بالإجبار من مقاتلين خوفًا من مصير مجهول للفتيات
ميلاد من رحم المعاناة إلى المعاناة.. عنوان يليق بحياة "مزدلفة" ورضيعتها "مروة"، فما بين ويلات المعارك الدائرة في السودان والنزوح المحفوف بالمخاطر، وما بين وعود لا ضامن لتحقيقها ورهانات خاسرة على عقل غاب في ساحات الحرب الأهلية.. وما بين الخروج من أعراف القبيلة إلى حياة أكثر تنظيمًا وحداثة، لا تعترف إلا بالوثائق والمستندات كما هو الحال في مصر، توالت فصول الحكاية وتعقدت التفاصيل، فما يربط البلدان من جوار جغرافي ومصاهرة لم يكن كافيًا لأن تكون "مروة" واقعًا حقيقيًا واسمًا معترفًا به في سجلات الأمم المتحدة والجهات الرسمية أو شبه الرسمية.. وما توليه القاهرة من رعاية وأدوار تاريخية، لا مجال لاستمراره ما لم تكن اعتبارات السيادة حاضرة، ومعايير القانون قائمة.
اقرأ أيضًا
حاسة إنى سايبة روحى وماشية.. أهوال الحرب فى السودان تقتل حلم "آفاق" بالمستقبل الواعد بالطب.. لجأت إلى مصر أملاً فى الحياة.. وتروى لـ"اليوم السابع" كواليس رحلة النجاة من الخرطوم إلى أسوان.. فيديو وصور
في أيام "مزدلفة" الأولى داخل مصر، كان توفيق الأوضاع ضرورة، قبل أن تتكشف للأم وأسرتها أن الرضيعة مروة بلا شهادة ميلاد ولا تحمل ما يلزم من أوراق ثبوتية، بل أن مزدلفة نفسها، لا تحمل ما يوثق زواجها كغيرها ممن يكتفين في السودان بشروط الإشهار وعقد القران على يد أحد المشايخ، لتلجأ فيما بعد لاستخراج العقود عند الحاجة إليها.. انتظرت "مزدلفة" لأشهر كي تستكمل أوراقها المطلوبة للحصول على وثيقة اللجوء، ورغم نجاح الأم الشابة في تسجيل نفسها، إلا أن توثيق "شهادة ميلاد" الرضيعة ظل "حجر عثرة" رغم تواصلها مع العديد من الجهات الرسمية السودانية التي تكافح للبقاء قائمة في ظل استمرار الحرب.
واقرأ أيضًا..
حجم مأساة السودان منذ اندلاع الحرب حتى الآن (إنفوجراف)
بأعين امتزج في نظراتها ما وجدته من أمان مفقود داخل مصر مع إدراك بأن ما تنعم به يستلزم إجراءات لا تملك ما يكفي لضمان استمرارها، تحدثت مزدلفة لـ"اليوم السابع" قائلة: "تزوجنا على يد إمام مسجد.. في شمال السودان لا نهتم كثيرًا بتوثيق الزواج، ولا نستخرج الأوراق إلا عند الحاجة لها.. وبعد اندلاع الحرب في أبريل العام الماضي، بدأت المشكلة"، تسرد "مزدلفة" كيف باتت مسألة استخراج إفادة الزواج عملية معقدة، وكيف أصبح تسجيل طفلة مولودة في خضم المعارك، خطوة شبه مستحيلة، خاصة في ظل عدم امتلاكها إلا أوراق المستشفى المتعلقة بعملية الولادة.
مأساة السودانين
في رحلة تقنين الأوضاع خسرت "مزدلفة" ورضيعتها الكثير.. فالأم حرمتها ندرة المستندات من التسجيل في قوائم مستحقي المساعدات الغذائية للحوامل المرضعات والتي تقدمها مفوضية اللاجئين، أما الرضيعة "مروة"، فهي ـ لا تزال ـ مثالاً حيًا لميلاد من رحم المعاناة إلى المعاناة.. "اليوم السابع" طرق أبواب الهاربات من ويلات الحرب السودانية، ممن تشابهت روايتهن مع "مزدلفة" ورضيعتها، أملاً في أن يحرك السودان وما تبقى داخله من مؤسسات لم تطلها ـ حتى كتابة هذه السطور ـ نيران المدافع، ساكنًا.. حتى يتم توفيق أوضاع هؤلاء، ونجد أنفسنا أمام جيل بلا هوية، وأطفال لا يعرفون طريق العودة إلى الوطن.
قصة "مزدلفة" ورضيعتها واحدة من ضمن مئات أو آلاف القصص الأخرى التي فرضت الحرب شروطها عليها فالزواج أو الطلاق لم يعد في السودان مثلما كان فهذا الزمن ولى، وباتت قواعد جديدة تفرض نفسها على الجميع.
فى هذا التحقيق، نكشف أيضًا كيف تحول الزواج إلى وجه آخر للمأساة السودانية، خصوصًا مع ارتفاع معدلات الزواج سواء فى السودان أو بين اللاجئين السودانيين فى الخارج "مصر كنموذج"، وكيف أصبح توثيق عملية الزواج فرضًا وعدم الاكتفاء بالإجراءات العرفية، كما كان فى السابق بالنسبة للمتزوجين قبل تاريخ اندلاع الأزمة.
يكشف تحقيقنا، كيف بات الزواج نفسه وسيلة وملجأ لمواجهة متغيرات الحرب، ومدى معاناة سيدات وفتيات سودانيات من العنف الأسرى، وتفاقم ظاهرة زواج القاصرات "الطفلات"، وازدياد معدلات العنف ضد المرأة فى السودان؟
اشتعال الأزمة
في صباح يوم 15 أبريل 2023، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع، ليغير هذا الصراع وجه الحياة تمامًا فى السودان، ومع احتدام الصراع، تدفق مئات الآلاف من السودانيين على مصر.
حميدة.. ومعاناة بأثر رجعى
بعد شهر من المعاناة، نجحت حميدة في الوصول إلى القاهرة في نوفمبر 2023 إلا أنها افترقت عن زوجها ولم تصطحب معها إلا طفلتها الرضيعة "كندة".
تحكى حميدة أنها فرت من شمال السودان بعد رؤيتها أهوال الحرب، وجاءت لتحتمي بالدولة المصرية، وقد وصلت إلى القاهرة بعد أيام وليالٍ قضتها تحاول فيها الوصول إلى بر الأمان، نظرًا لوجود آلاف النازحين كل يوم من السودان إلى الدول المجاورة لا سيما مصر.
تقول حميدة إن عند وصولها إلى القاهرة قابلتها أزمة الوثائق كإثبات الهوية، لها ولابنتها التي لم تبلغ العام، فجرى توثيق أوراقها كونها لاجئة، ولكن لم تحصل على أي أوراق خاصة بطفلتها لعدم وجود زوجها، الذي لم يتمكن من الوصول إلى القاهرة معهم.
على غرار مزدلفة، تُعانى السيدة السودانية حميدة من أزمة إثبات زواجها في القاهرة، إذ أنها لم تستخرج وثيقة زواج من الأساس في السودان، وتقول عن هذه المشكلة: "تزوجنا مثل غيرنا من السودانيين، وعقدنا قراننا في المسجد ولم نستخرج إفادة بذلك، وبعد ذلك ساءت الأوضاع، ولم نستطع استخراج أي أوراق".
اقرأ أيضًا..
لو لاجئ سوداني.. اعرف الشروط والأوراق المطلوبة لإقامة اللجوء في مصر
وتضيف حميدة: "الوضع في السودان لا يساعدنا على التواصل مع أي جهات أو مسئولين أو التواصل مع مأذون المسجد لاستخراج وثائق الزواج، واستمر الوضع على ذلك منذ مارس 2024 وحتى الآن نجرى العديد من المحاولات، لكن جميعها دون جدوى".
مأزق قانوني
هنا يقول أشرف ميلاد، المحامي المصرى المتخصص في شئون اللاجئين، إن هناك العديد من الأزمات التي تواجه اللاجئين السودانيين، بعد زواجهم بعقود زواج غير موثقة أو عرفية، وخاصة في تسجيل الأطفال، وذلك لضرورة إحضار عقد الزواج أو الأب أو من ينوب عن الأب وإخطار الولادة، وهذا أمر صعب في هذه الأوضاع.
لا توجد أعداد موثقة حتى الآن حول عدد من يواجهون أزمة عدم وجود هوية أو وثيقة زواج، خاصة أن عملية اللجوء إلى مصر لا تتوقف مع تزايد وتيرة العمليات العسكرية في السودان، غير أن المحامي أشرف ميلاد قال إن عدد اللاجئين السودانيين الموثقين في مصر وصل إلى 378 ألف لاجئ تم تسجيل أوراقهم في مفوضية شئون اللاجئين.
سودانيون داخل الأراضى المصرية
لكن هناك الآلاف غير مسجلين إما بسبب طريقة دخولهم غير الشرعية أو بسبب عدم حملهم وثائق ثبوتية، بحسب ميلاد.
ويشير المحامي إلى أن مكتب المفوضية في مصر يتلقى أكثر من ألف متقدم بطلب لجوء يوميًا ويقبل منها قرابة العشر طلبات فقط، ويضيف أن المكاتب المخصصة لاستقبال طلبات اللجوء يتم الوقوف أمام أبوابها من المساء للتقدم بطلب صباح اليوم التالي، نظرًا للتزاحم الشديد في تقديم الطلبات ووجود آلاف الإخوة السودانيين الراغبين في توفيق أوضاعهم في مصر"، كما أن الخط الساخن لتسجيل اللجوء لا يمكن التسجيل من خلاله لكثرة الطلبات في ذلك.
اقرأ أيضًا..
طرق للتعايش والتأقلم
ورغم مرارة اللجوء والاغتراب، إلا أن قطاعًا كبيرًا من أبناء الشعب السوداني الذي جاء إلى مصر بعد الحرب بدأ يشق طريقه للتعايش والتأقلم على الحياة الجديدة، وتحديدًا منطقتي فيصل وعين شمس باعتبارهما أكثر الأماكن التي تأوي أبناء الجالية السودانية بالعاصمة المصرية.
ويعد الزواج جزءًا من معادلة التعايش بالنسبة للاجئين السودانيين في مصر، والملاحظة الأبرز أن معدلات الزواج أيضًا ارتفعت، بحسب ما يؤكده محمد سليمان، مأذون السفارة السودانية في القاهرة.
ويوضح مأذون السفارة السودانية في القاهرة أن ارتفاع معدلات الزواج له ما يبرره من عوامل لاسيما أن تكاليف الزواج تقلصت بشكل كبير، وكان في الماضي هناك إجراءات طويلة تم اختصارها في يوم أو اثنين على الأكثر.
عبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني
وأشار سليمان إلى أن الحرب تركت آثارها على الأسر وتسببت في ضغوط اقتصادية عليهم، لذا بات هناك تسهيل كبير على الراغبين في الزواج، موضحًا أن أغلب زيجات السودانيين في مصر كانت مرتبة سلفًا في السودان، وبدأت الأسر تُعجِّل إتمامها لكن بشروط ميسرة خاصة أن تكاليف الزواج بالسودان كانت باهظة.
وشهدت فترة ما بعد الحرب قرابة الـ300 حالة زواج بالسفارة بشكل تقريبى، وهذا "رقم كبير مقارنة بما سبق أو معتاد في فترة ما قبل الحرب" بحسب مأذون السفارة الذي أوضح أيضًا أن معدلات الزواج بين طرف سوداني وطرف أجنبي عمومًا أو "مصري" هي نفسها في معدلاتها الطبيعية.
تقاسم المسئوليات والهموم!
من بين حالات الزواج بين اللاجئين السودانيين، محمد، لاجئ سوداني متزوج حديثًا، من وجهة نظره، فمسألة الزواج بمثابة عملية لتقاسم المسئوليات والهموم خاصة أن هناك أسرًا، عدد أفرادها كبير، وتتحمل أعباء مالية، وبناءً عليه إذا كان هناك فرصة جيدة لتزويج أي فتاة من شاب على خلق، فإن العائلات ترحب بشروط ميسرة عما كان في الماضي.
وأوضح أنه وصل مصر أولاً ثم بعد ذلك جاءت عروسه إلى القاهرة، وتم عقد قرانهما بعد توفيق أوضاعهما على صعيد الأوراق الرسمية من أجل تفادى أي مشكلات أخرى مستقبلية.
اقرأ أيضًا..
أغرب عادات وتقاليد الزواج فى دول الشمال الأفريقى.. تعرف عليها
أمّا سولافة عثمان، لاجئة سودانية، توضح جزئية اختلاف شروط الزواج بسبب الحرب، بأن الزوج كان عليه العديد من الالتزامات كشراء الذهب وكل الأجهزة وأثاث المنزل وملابس العروس ومستحضرات التجميل الخاصة بها، وكانت الزوجة عليها فقط أدوات المطبخ والمفروشات البسيطة، إلا أنه بعد ذلك كان من الضروري علي الطرفين المشاركة في أغلب الأشياء حتى يتم الزواج.
وروت سولافة قصة دخولها مصر وزواجها الذي ما زال تحت إيقاف التنفيذ، لعدم العثور على شقة للزواج بها بعد، وقالت إنها وصلت برفقة أسرتها في مايو 2023 عبر فيزا سياحية، فيما تبعها خطيبها إلى القاهرة بعدها بعام في أبريل 2024، وبعد ذلك تم توفيق أوضاعه كلاجئ واستصدار بطاقة اللجوء عن طريق مفوضية اللاجئين.
في شهر يونيو 2024، تمت مراسم زواج سولافة وخطيبها بالسفارة السودانية بسهولة، ورغم ذلك، تقول إنه رغم استخراج وثيقة الزواج إلا أنه ما زال كل شخص منهما بمنزل أسرته، لحين استئجار منزل خاص بهما.
وأشارت إلى أنها تنازلت عن حقها في المهر من مشغولات ذهبية وأخرى من قبل الزوج، نظرًا لظروف الحرب وعدم تواجدهم في بلدهم.
بالنسبة للجانب القانوني والرسمي الخاص بزواج السودانيين في مصر، يعود أشرف ميلاد المحامي المتخصص في شئون اللاجئين ويوضح أن الزواج يتم من خلال ثلاث طرق، والطريقة الأفضل والأسلم عن طريق مكتب زواج الأجانب بوزارة العدل بحضور اثنين من الشهود، وعدد من الصور والإقامة وورق عدم ممانعة من الزواج يتم استخراجه من السفارة السودانية بالقاهرة.
ويضيف: "أما الحالة الثانية فيتم عقد زواج عرفي، ويتم رفع دعوى من الزوجة لإثبات صحة زواج كصحة التوقيع ويتم صدور حكم بالزواج وبه ختم النسر، ويتم تسجيل هذا العقد، ولا يعتد به في حالات قليلة جدًا، كالسفر إلى دولة لا تعترف بهذا العقد، أما الحالة الثالثة والمنتشرة مؤخرًا والمعروفة باسم الزواج بالوكالة، المحامي يحق له توكيل لأحد أقاربه كالأب أو الأخ الموجود في السودان والمحامي شاهد ويرسل للسودان في المحكمة ويتم عمل عقد زواج وتوثيقه".
أرقام عن الوجود السوداني في مصر
ووفقًا للتقارير الدورية الصادرة عن مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين، فإن عدد اللاجئين المقيدين بالمفوضية بلغ عددهم نحو 469664 لاجئًا فيما تجاوز عدد النازحين فى مصر 617 ألف طالب لجوء سودانى لم يتم الانتهاء من توثيق أوضاعهم فى مفوضية اللجوء، فمع بداية الأحداث بالسودان كان عدد اللاجئين فى شهر يونيو 2023 إلى 70 ألف وطالبى اللجوء إلى 250 ألفا، وفى التقرير الخاص بشهر سبتمبر وصلوا إلى 287 ألف طالب لجوء و115 ألف لاجئ، وفى شهر ديسمبر بلغ عددهم نحو 338374 طالب لجوء و152250 لاجئ.نظرة على السودان المنسى!
في مصر، تعددت مشاكل اللاجئين السودانيين في قصة الزواج ما بين عدم القدرة على استخراج الأوراق الرسمية أو الالتحاق ببعض برامج المساعدة، أو تسجيل الأطفال خصوصًا حديثي الولادة بسبب مشاكل متعلقة بمنظومة الزواج بالسودان وغياب مبدأ التوثيق والاعتماد على "العُرف" في كثير من الأحيان، إضافة إلى وجود مشاكل اجتماعية أخرى خاصة بالتكاليف وطبيعة مراسم الزواج، والتأقلم على الأوضاع في مكان جديد لكن هذا كله يطرح سؤالاً ماذا يحدث في السودان نفسه؟ كيف تغيرت الأحوال في هذا البلد الذى يعاني من إهمال دولي لا يتناسب مع حجم كارثته الإنسانية؟
ارتفعت معدلات كل شيء بالسودان بسبب الحرب، سواء أرقام النزوح والضحايا والفقر، حتى الزواج ازدادت نسبته بشكل ملحوظ وبشهادة جهات رسمية سودانية وغير رسمية، ووفقا لما صدر عن السلطة القضائية في السودان، فإن البلاد شهدت ارتفاعًا كبيرًا وربما غير مسبوق في معدلات الزواج منذ بداية الحرب، يقدر بـ"آلاف الحالات" التي ترد إلى المحاكم الشرعية المسئولة عن إصدار قسائم الزواج وتسليمها للمأذونين الشرعيين، هذا مع الوضع في الاعتبار حالات الزواج التي لم يتم تسجليها وتوثيقها بشكل رسمي وعقدت بالطريقة العرفية.
ووفقًا لحوارات وأحاديث جمعتنا مع عدد من لاجئين سودانيين في مصر، فإن بعض أقاربهم أتموا زواجهم في فترات قياسية منها 48 ساعة فقط، وأحيانًا دون تعارف مسبق بين العريس وعروسه، فالزواج يتم غالبًا تحت بند "الاضطرار" وما يفرضه الواقع المأساوي في السودان.
وحسبما قالت الباحثة بسمة سليمان المقيمة بالقاهرة، فإن عدد نسبة الزواج بين النازحين السودانيين أعلى بكثير من النسبة بين اللاجئين، فكشفت الدراسة التي أعدتها حول إحدى مدن شمال السودان التي وقعت بها الأحداث، عن إجراء عقد قران بشكل يومي أي حالة زواج يوميًا، وذلك للهروب من الأحداث والتغلب على صعوبتها ففي العام الماضي شهدت ما يقرب من 365 حالة زواج بواقع زيجة في اليوم، في مقابل حالتي زواج شهريًا بين اللاجئين من هذه المدينة، فشهد العام الماضي 25 حالة زواج فقط، الأمر الذي يؤكد انخفاض نسبة الزواج غير المدروس بين الموفق أوضاعهم في اللجوء.
محاولة تفسير الظاهرة
الباحثة الاجتماعية السودانية ثريا إبراهيم، تفسر ظاهرة ارتفاع معدلات الزواج بين السودانيين سواء داخل السودان أو خارجه بين اللاجئين رغم الحرب، قائلة: "كثير من الشباب والبنات قرروا الزواج بعد الحرب والنزوح، سواء كانوا مرتبطين قبل الأحداث أو بعدها، خاصة أن بداية الحرب بدأت في شهر رمضان وكان هناك عدد كبير من الشباب مخططًا للزواج بعد الأعياد، وهذه الأحداث ساعدت في اتخاذ القرارات السريعة بالزواج، أو التنازل عن الاحتياجات غير الأساسية والبدء بأشياء بسيطة، بتكلفة أقل بكثير من المتعارف عليه في السودان، وهذا عكس المتعارف عليه بطقوس الزواج في البلاد المكلفة بشكل كبير جدًا في ظل حاجة البعض لشريك حياة لتحمل ظروف الحرب القاسية".
بالنسبة للآثار المترتبة على اتخاذ قرار الزواج بشكل سريع وغير مدروس أحيانًا، تشير الباحثة الاجتماعية إلى أن حالة الإحباط الناتجة عن هجر الحياة المعتادة وترك الممتلكات خوفًا من الحرب يؤدى إلى اتخاذ قرارات مصيرية بشكل سيء، مؤكدة أن مثل هذه الزيجات تكون مهددة لأنها غير ناتجة عن قرار مدروس.
أمّا سليمى إسحاق، رئيسة الوحدة الحكومية السودانية لمكافحة العنف ضد المرأة، تقول إن "الزواج في الوقت الراهن يعتبر قرار حرب خاصة أن الأسر ليس لديها رؤية للمستقبل، فالتعليم الأساسي غير معروف وضعه، أو طالبات الجامعات معروف مصيرهن، وبالتالي الناس لا تعرف ماذا تفعل؟، وهنا يظهر الزواج كحل منطقي وسط اللامنطق الذي يصنعه الحرب".
العنف الزوجي يظهر!
وعن معدلات العنف الزوجى بعد الحرب، قالت سليمى إسحاق إنه لا يوجد بلاغات كثيرة لدى الوحدة إلا أن النساء المتواجدات في دور الإيواء بشكل عام يتعرضن حاليًا للعنف بسبب عدم وجود خدمات أو أحيانًا يتعرض لشبهة استغلال جنسي من مقدمي الخدمات أو أصحاب السلطة، مستدركة في الوقت نفسه، أن وجود الأسر في أماكن ضيقة وعدم وجود خصوصية يحد أحيانًا من تعرض الزوجات للعنف بسبب وجود أسر أخرى تتدخل من أجل حل مثل هذه المشكلات.
وتضيف رئيسة الوحدة الحكومية السودانية لمكافحة العنف ضد المرأة بأنه رغم عدم وجود أرقام دقيقة عن العنف تجاه الزوجات إلا أنه خلال جلسات التوعية التي تتم مع النساء بأشياء متعلقة بحماية أنفسهن من العنف أو الاستغلال الجنسي سواء من مقدمي الخدمات أو أصحاب السلطة، يوجد فتيات ونساء يحكين عن مواقف تعرضن لها.
وتشيرالدكتورة سليمى إسحاق إلى نقطة أخرى تجعل السيدات السودانيات النازحات عرضة للعنف الزوجي، وتقول: معظم النساء في الوقت الراهن يكون لديهن عمل سواء مراعاة الأطفال أو التطوع في المراكز أو دور الإيواء، وهذا يرجع إلى أن النساء دائمًا لديهم حلول أكثر من الراجل ويتعاملن بشكل أفضل مع الكوارث وقدرتهن على الصمود أكبر.
لكن في الوقت نفسه، فقدت العديد من السيدات مصادر دخلهن بسبب الحرب خاصة ممن يعملن في الاقتصاد الموازي سواء بائعات أو غيرها من الأعمال الأخرى ما جعلهن معرضات أكثر للعنف الزوجي لعدم قدرتهم على تدبير أمورهم المادية بمفردهن، بحسب إسحاق.
اقرأ أيضًا..
الكوليرا تزيد أوجاع السودان.. ما وضع المرض الوبائى حاليًا؟
الوجه الأسوأ وحكاية ابنة حامد!
الوجه الأسوأ لعملية الزواج بعد الحرب تتمثل في تعميق ظاهرة زواج القاصرات أو الطفلات، إضافة إلى توثيق حالات زواج بالإجبار من مقاتلين في مناطق نفوذ وسيطرة المليشيات المسلحة.
الأب حامد يحكى تفاصيل تزويج ابنته التي لم تتجاوز عمرها الثانية عشرة، قائلاً: "عقدت قران ابنتي في نهاية عام 2023 بإحدى القرى الموجودة في الخرطوم دون أي شروط من أحد، سواء أنا كوالد العروس أو الزوج وأهله للهروب من مصيره المنتظر في الحرب".
ويكشف حامد عن أن موافقته على طفلته الصغيرة بسبب عدم قدرته على حمايتها من الاغتصاب والعنف الجنسي، بسبب الصراع الدائرة بين الأطراف متحاربة، موضحًا أن عقد القران تم بعد 72 ساعة فقط من معرفة الزوج، مستدركًا بأن زواج الفتيات أقل من 15 عامًا زادت نسبته بشكل ملحوظ خصوصا بين الفارين من النزاع المسلح.
عن ظاهرة زاوج القاصرات، تعود رئيسة الوحدة الحكومية السودانية لمكافحة العنف ضد المرأة للحديث قائلة: "زاد هذا الموضوع أيضا بشكل كبير، لكن لا يوجد رصد عددي دقيق إلى الآن".
وتشير إلى أن بعض السودانيين ينظرون إلى زواج بناتهم القاصرات كآلية لمنع العنف الجنسي تجاه النساء في وقت الحرب، على سبيل المثال في ولاية الجزيرة، لجأت كثير من الأسر لتزويج بناتها اعتقادا منهم بأنها تحميهن من الاغتصاب، أو حتى يتم تزوجيهن لأعضاء من قوات الدعم السريع كنوع من الحماية، لكن لا هذا ولا ذلك يحميهن من العنف والاغتصاب، مشيرة إلى أن قصة زواج القاصرات تكررت أيضًا في أماكن بالخرطوم.
ووفقًا لبيان صادر عن منظمة إنقاذ الطفل بالسودان في 7 يوليو 2023 فإن مقاتلين مسلحين يعتدون جنسيا على فتيات في سن المراهقة ويغتصبونهن "بأعداد مقلقة" بعضهن بعمر 12 عامًا.
وتشير المسئولة السودانية، إلى جانب آخر لظاهرة زواج القاصرات، إذ يدخل أيضًا في نطاق الحلول الاقتصادية، فالأسر تزوج البنات للتخفيف من على كاهلها، إضافة إلى عدم وجود مدارس لها، أو آلية مجتمعية تمنع هذا التصرف في وقت الحرب، وبشكل عام تغيب الرؤية المحددة لمستقبل البنات لذا تفضل الأسر تزوجيهن".
كارثة الزواج بالإجبار
أما دكتور فاطمة مصطفى سمهن، رئيسة منظمة زينب لتطوير وتنمية المرأة في السودان، تقول: "زواج القاصرات هي ظاهرة موجودة في السودان سواء قبل الحرب أو بعده إلا أنها زادت بالتأكيد مع سوء الأوضاع وتحديدًا في المناطق الريفية".
وتضيف: "في الريف هناك ثقافة متأصلة بأن البنت عندما تصل إلى سن البلوغ أو حتى قبله لابد من تزويجها خصوصًا من أقاربها.. وذلك لاعتقادهم بأن البنت مكانها بيت زوجها فقط".
وتؤكد الناشطة في مجال حقوق المرأة أنه في الريف يعتقد الأهل بأن ظاهرة تزويج الأطفال أمر إيجابية ويرجع هذا لعدة أسباب على رأسها الأمية، خاصة أن السودان يعاني من ارتفاع معدلات الأمية التي تصل إلى 70% في بعض المناطق الريفية، وبالتالي فلا مستقبل للبنت سوى الزواج!
وكشفت سمهن، عن أن الحرب أفرزت نوعًا جديدًا من الزواج، هو "الزواج بالإجبار" في المناطق التي دخلتها المليشيات المتحاربة، والتى يتم ذكرها ضمن القصص الواردة من مناطق النزاعات.
وتحكى سمهن فكرة "زواج الإجبار"، قائلة: "عند دخول المقاتلين لقرى أو مناطق، وفى حالة طلبهم الزواج من أي فتاة يوافق أهلها رغمًا عنهم وعن الفتاة نفسها خاصة أن البعض يعتبر هذه الخطوة أهون من تطورات أخرى قد تلحق العار بالأسرة".
اقرأ أيضًا..
العودة للمربع صفر!
بعد ثورة 30 ديسمبر 2019 بالسودان والإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، تعالت الأصوات خاصة النسائية للمطالبة بضرورة تغيير أوضاع قانونية مُجحفة من بينها سن الزواج، وبالأخص المادة 40 من قانون الأحوال الشخصية، الصادر في عام 1991.
وتنص المادة، على أنه "لا يعقد زواج المجنون أو المعتوه أو المميز من وليه بعد ظهور مصلحة راجحة، ويكون التمييز ببلوغ سن العاشرة، ولا يعقد ولي المميز عقد زواجها إلا بإذن القاضي لمصلحة راجحة، ويشترط كفاءة الزوج ومهر المثل".
وتُعرف منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف"، زواج الأطفال على أنه أي زواج رسمي أو أي ارتباط غير رسمي بين طفل تحت سن 18 عامًا وشخص بالغ أو طفل آخر.
وبالفعل بعد الثورة، جرت محاولات لإعداد قانون جديد يجرم بشكل مباشر زواج الأطفال سواء كانوا ذكورا أم إناثا قبل سن الـ 18 عامًا، إضافة إلى حظر توثيق عقود الزواج لمن لم يبلغ 18 عامًا من الجنسين إلا أن كل هذه الجهود وغيرها ذهبت هباءً بعد اندلع الحرب، مثلما وصفت رئيسة منظمة زينب لتطوير وتنمية المرأة في السودان فاطمة سمهن.
وتقول سمهن: "للأسف الشديد كل المكتسبات التي حصل عليها الشعب السوداني وتحديدًا النساء بعد الثورة ضاعت بعد الحرب، يعني مثلاً جهود تحديد سن الزواج، وتعديلات قانون الأحوال الشخصية، لا يتم العمل به على أرض الواقع حاليًا".
وعن تأثيرات زواج الطفلات، تقول سمهن: "الطفلة تعيش معاناة كبيرة على كل الأصعدة النفسية والجسدية.. ومن أكبر السلبيات التي تم رصدها عبر عملنا على هذه القضية وقضايا أخرى مثل ختان الإناث في السنوات الماضية مشكلات الصحة الإنجابية، والمعروف أن السودان من أعلى نسب وفيات الأمهات، خاصة أن رحم الطفلة لا يكون مهيأ للعملية الحمل والولادة".
وتضيف: "زواج الطفلة قد يصيبها بالعديد من الأمراض منها الفيستولا "Fistula"، وبخلاف المضاعفات الصحية الشديدة لهذا المرض فإن الطفلة تتعرض للنفور ممن حولها ما يزيد العبء النفسي عليها مع الوضع في الاعتبار غياب الرعاية الصحية بكثير من الأماكن".
بيع الطفلة
أمّا الباحثة الاجتماعية ثريا إبراهيم حذرت من مخاطر كبيرة وأشد قسوة من زواج القاصرات مع ظروف الحرب الدائرة في البلاد، موضحة أن العديد من الأسر تتوجه لهذا النوع من الزواج للتخلص من مسئولية الفتيات، خاصة مع انهيار الوضع الاقتصادي فتكون العملية بمثابة بيع الطفلة دون النظر لما ستتعرض له بعد ذلك، وبالأخص يتم تزوجيهن للشباب المغتربين المستقرين ماديًا.
عمومًا في السودان تبدلت ملامح كل شيء حتى الزواج الذى يفترض أن يكون مؤشرًا على الاستقرار أو السعادة تحول إلى عبء تحمله الفتيات الصغيرات والسيدات أينما حطت رحالهن هربًا من ويلات الحرب، وليس هذا فحسب بل بات مصير أطفالهن مهددًا بالانهيار قبل أن ينطقوا أول كلمة أو يخطو أول خطوة!