نزلت عائلة الخديو توفيق فى سراى الإسماعيلية، بعد وصولها إلى القاهرة يوم 25 سبتمبر 1882، لأن الجنرال ولسلى، قائد قوات الجيش الإنجليزى الذى هزم أحمد عرابى فى موقعة التل الكبير يوم 13 سبتمبر 1882، كان لا يزال يقيم فى سراى عابدين منذ أن دخل القاهرة محتلا فى يوم 15 سبتمبر.
عاد توفيق إلى القاهرة بعد عشرة أيام قضاها فى الإسكندرية يتلقى التهانى لهزيمة «عرابى» واحتلال مصر، حسبما يذكر أحمد شفيق باشا فى الجزء الأول من مذكراته «مذكراتى فى نصف قرن»، قائلا: «احتفلت الحكومة والأهالى برجوع سموه احتفالا باهرا فأقيمت الزينات ثلاث ليال على دور الحكومة ومنازل الأهالى وأطلقت الألعاب النارية».
كان «شفيق باشا» من معية الخديو توفيق، ثم أصبح فيما بعد رئيسا لديوان الخديو عباس الثانى ابن توفيق، ومن موقع هذا يذكر الأحداث التى عاصرها وكان شاهدا عليها كالثورة العرابية، ويكشف: «لما استقر المقام بالخديو فى عاصمة ملكه أصدر أمره الكريم بمكافأة موظفى المعية الذين لازموه أثناء الحوادث العرابية، وكنت فى جملة الذين شملتهم هذه المكافأة، فزيد مرتبى الشهرى من اثنى عشر جنيها إلى عشرين».
يذكر «شفيق باشا» الأجواء التى عاشتها القاهرة يوم 26 سبتمبر، مثل هذا اليوم، عام 1882، وكانت امتدادا ليوم 25 سبتمبر الذى عاد فيه توفيق من الإسكندرية، يقول فى مذكراته: «فى يوم 26 سبتمبر 1882 أقفلت الدواوين بسبب التشريفات، ففى صبيحة هذا النهار اتشح سمو الخديو بالملابس الرسمية، وتحرك ركابه إلى سراى الجزيرة بموكبه الحافل، وهرع العالم لتقديم واجبات التهنئة، فكنت ترى فى ساحات السراى ألوفا من العربات ومئات من الخيل، وكان جسر قصر النيل زاهيا بالزينات، وقابل سموه حضرة البرنس محمود بك حمدى، ومنصور باشا يكن ثم حضرات النظار، وبعد ذلك العلماء الأعلام وجميع مشايخ الطرق»، يضيف شفيق: «تقدم الشيخ الأبيارى وألقى خطبة بليغة، شكر فيها الخديو، وبعدها خاطب الخديو هؤلاء العلماء والمشايخ، قائلا: «أيها العلماء الزموا وظائفكم ولا تتعدوها، وتجنبوا السياسة والمفاسد فتنالوا رضاى ومن خالف منكم فلا مفر له من عدلى، بل يعاقب أشد العقاب فإن لفظة علم لا تنقذكم من القصاص».
أقدم الخديو توفيق على منح مكافآته لمن خانوا الثورة العرابية وتحديدا سلطان باشا رئيس مجلس النواب، والذى كان فى بداية الثورة ضمن صفوفها ومن قيادتها ثم انقلب عليها وأصبح من أكبر مؤيدى الخديو والإنجليز، ويذكر «شفيق» أن الخديو استدعاه وخاطبه قائلا: «إننى أشكر إجراءاتك وصدق خدماتك، وبرهانا على رضاى عنك أقلدك الآن بالنيشان المجيدى الأول الرفيع الشأن»، ويضيف شفيق: «وضعه سموه بيده على صدر سلطان فتشكر سعادته، ودعا لجنابه العالى بالنصر والتأييد وخرج بعد أن لبث بحضرته برهة».
كان الإمام الشيخ محمد عبده من قيادات الثورة، ونال عقابه بالنفى خارج مصر، ويكشف فى مذكراته التى حققها الكاتب «طاهر الطناحى»، جانبا من خيانة سلطان باشا، قائلا: «كان يوزع النقود باسم الخديو والسلطان العثمانى كرشوة لرؤساء العربان فى غزة والشرقية ليتركوا جيش عرابى ويلتحقوا بالجيش العثمانى»، ويضيف: «عرف أن توزيع النقود باسم الانجليز لا يفيد، فأخذ يوزعها باسم الخديو والسلطان العثمانى».
يؤكد شفيق أنه وبعد خروج سلطان باشا «تشرف الباشوات حتى غصت القاعة بعددهم فقابلهم سموه بنطق شريف ملخصه: من كان منكم غير موظف فيلزم أشغال نفسه ويحافظ على واجباته وإياه والمخالفة، أما الموظف فعليه أن يقوم بحقوق وظيفته بإخلاص واستقامة، ثم انعطف إلى رستم باشا، رئيس مجلس شورى النواب فى عهد الخديو إسماعيل من 18 مايو 1879 إلى 6 يوليو 1879، وخاطب الجميع مشيرا إليه قائلا: «لو اقتديتم بسلوك هذا المخلص لأوقفتم شر العصاة العرابين، فهو الشخص الوحيد فى ذوات مصر الذى رفض التوقيع ضد الحضرة الخديوية ولم يهله تهديد العصاة، بل أجابهم بقوله: لست أقبل أبدا نكران نعمة مولاى».
توجه رستم باشا بالشكر إلى الخديوى ودعا الله بحفظه، وتواصلت الاستقبالات، حسبما يؤكد «شفيق»، قائلا: «وفد الجنرال ولسلى وعلى صدره النيشان العثمانى من الدرجة الأولى ومعه البرنس آرثر وكبار الضباط ورؤساء الجيش فمكثوا بحضرته مليا يتبادلون عبارات المودة، ثم دخل القناصل وكان ذلك ختام التشريفات».
رفض الخديو توفيق مقابلة بعض الشخصيات التى أبدت رغبتها فى الحضور لتهنئته وهم حسب شفيق: «راغب باشا وعلى باشا صادق وإسماعيل باشا حقى ومرعشلى باشا ومصطفى باشا نائلي»، وذلك لأنه «كان قد بلغه ميلهم للعرابين».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة