الطالب كمال المنوفى فى رسالته: لا تجعل يا سيادة الرئيس الفقر سببا فى حرمانى من مواصلة الدراسة الجامعية
حملة الهجوم على نزار قبانى بعد قصيدة «هوامش على دفتر النكسة» والشاعر يكتب لعبدالناصر: لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه
رسالة شقيق الشاعر أمل دنقل كانت السبب فى إصدار قانون بمنح المعاشات للمتضررين من الموظفين والعمال قبل ثورة يوليو
فى الحلقة الثانية نواصل الكشف والقراءة فى رسائل بعض الشخصيات التى أصبحت معروفة لاحقا إلى الرئيس جمال عبدالناصر والتى اهتم بها الرئيس وأصدر تعليماته بتلبية ما جاء فيها وبعضها كتب بنفسه الرد عليها.
من بين هذه الرسائل التى عثرت عليها الدكتور هدى عبدالناصر بين أوراقها بعد رحيل والدها بأربعة وأربعين عاما وبعد وفاة صاحبها فى يناير 2014 هى رسالة الدكتور كمال المنوفى والذى كان طالبا فى السنة الأولى بكلية السياسة والاقتصاد.
والدكتور كمال المنوفى الذى أصبح بعد ذلك عميدا لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة توفى فى 7يناير 2014 ويعد أحد رواد دراسة الثقافة السياسية خصوصا والنظم السياسية بشكل عام.
ولد عام 1947 وحصل على جائزة جامعة القاهرة، إضافة إلى درجات علمية عديدة منها دكتوراة فى الفلسفة فى العلوم السياسية بمرتبة الشرف الأولى 1978 كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكانت أطروحة الدكتوراة بعنوان: «الثقافة السياسية للفلاحين المصريين: دراسة نظرية مبدئية»، وعمل الدكتور كمال كأستاذ مساعد فى عدة جامعات خارج مصر، منها جامعة إم آى تى قسم العلوم السياسية بالولايات المتحدة الأمريكية، وأستاذ مساعد فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة الكويت، وأستاذ زائر فى كلية العلوم الاجتماعية جامعة أمستردام هولندا فى أبريل 2006، وحصل المنوفى على جوائز عديدة منها ما يلى: جائزة الدولة التشجيعية فى العلوم السياسية 1989 نوط الامتياز من الطبقة الأولى 1991 جائزة جمال عبدالناصر للتفوق عام 1966 وتسلمها من عبد الناصر شخصيا، ووسام فارس، قدمته له فرنسا عام 2005 جائزة الجامعة التقديرية فى العلوم الاجتماعية 2007 جائزة الجامعة للتميز فى العلوم الإنسانية.
فى العام الدراسى 64-65 نجح الطالب كمال المنوفى فى الثانوية العامة وكانت ترتيبه الأول على الجمهورية والتحق للدراسة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية وكان ينتمى لأسرة فقيرة بمحافظة المنوفية، لكنه كان يحصل على مكافأة التفوق فى الثانوية العامة فى العام الأول من الدراسة الجامعية وقدرها 13 جنيها لكنه فى السنة الثانية لم يحقق الدرجات والتقدير المطلوب لاستمرار هذه المكافآة التى كانت تعتبر مصدر دخله الوحيد فأوقفت الجامعة مكافأة التفوق.
لم يجد أمامه إلا المغامرة بمحاولة الاتصال بجمال عبدالناصر، والفرصة المتاحة هى وجود ابنة الزعيم بين طلبة كليته، لكنه لم يتجه إلى هدى عبدالناصر، وإنما كتب خطابا مطولا يشرح فيه الظروف للرئيس وغامر بتسليم هذا الخطاب إلى الحرس المرافق لابنة ناصر، وجاء الخطاب كالتالى:
من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها
سيدى الرئيس جمال عبدالناصر، سلام الله عليك فى كل وقت وحين، ورحمته وبركاته على شخصك الكريم، أسأل الله أن يجعلك لنا ذخرا ونبراسا نهتدى به فى دجى الليل إذا عن لنا ظلام.
مقدمه لسيادتكم الطالب كمال محمود عبدالله المنوفى، بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية «السنة الثانية- شعبة علوم سياسية» والذى تشرف بلقاء سيادتكم فى عيد العلم الماضى، حيث تسلمت من فخامتكم جائزة تفوقى فى الثانوية العامة، ها أنا ذا أشرح لسيادتكم ما ألم بى من ظروف:
حالتى التعليمية: كنت الأول طوال حياتى التعليمية، فكنت الأول فى القبول الإعدادى، الأول فى النقل من السنة الأولى الإعدادية إلى السنة الثانية الإعدادية، والأول من السنة الثانية إلى السنة الثالثة، وفى الشهادة الإعدادية العامة كان ترتيبى الثانى على محافظة المنوفية بمجموع 94.5% ونتيجة لتفوقى هذا كانت وزارة التربية والتعليم تصرف لى مبلغا قدره 3 جنيهات شهريا، كنت أعتمد عليه اعتمادا كليا وجزئيا طوال التعليم الثانوى، فكنت أصرف جنيها ونصف الجنيه وأرسل الباقى إلى أسرتى فى الريف كى تعيش عليه لأنها لا تملك من حطام الدنيا أى شىء على الإطلاق، وطوال المرحلة الثانوية كنت الأول من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، وكنت الأول من السنة الثانية إلى السنة الثالثة، وفى الشهادة الثانوية كنت الأول على الجمهورية «قسم أدبى» بمجموع قدره 92.5%، والتحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكنت أتقاضى فى العام الماضى 1965-1966 مبلغ 13 جنيها شهريا نظير هذا التفوق فى الثانوية العامة، كنت أصرف من هذا المبلغ حوالى سبعة جنيهات شهريا (كنت أدفع 5 جنيهات للمدينة الجامعية وأصرف الباقى فى الكتب والمصاريف الجامعية)، وأرسل حوالى 6 جنيهات إلى أسرتى فى الريف كى تعيش عليه، ولأننى علمت أن الطالب الذى يحصل على هذه المكافأة لا بد أن ينجح بتقدير جيد جدا، فكنت أذاكر باهتمام بالغ وأسهر الليالى الطوال حتى أحصل على هذا التقدير لأستمر فى الحصول على المنحة لأنها هى معوانى الوحيد.
وخرجت من الامتحان العام الماضى وأنا على ثقة أننى سأكون الأول كعادتى، وسأحصل على تقدير «جيد جدا» إن لم يكن «امتياز»، وعندما ظهرت النتيجة فوجئت بأننى قد نجحت بتقدير «جيد» فقط، «مادتين امتياز- مادتين جيد جدا- أربع مواد جيد»، ولهذا فقد ألغيت المكافأة، وتعقدت أمامى الحياة، لأن التعليم الجامعى يحتاج إلى مصاريف على الأقل ستة جنيهات شهريا، بالإضافة إلى المصروفات والكتب الجامعية، ومن أين لى هذا المبلغ وقد ألغيت المكافأة؟
سيدى الرئيس: هكذا كانت حالتى التعليمية إلى هذه اللحظة.
حالتى المادية: أسرتى تعيش فى الريف وتتكون من ثمانية أفراد، أما والدى فهو رجل مسن مريض، لا يقدر على مزاولة أى عمل، ووالدتى مسنة أيضا، ولى أخ فى التعليم الثانوى، وأخت فى التعليم الإعدادى، وأخان فى التعليم الابتدائى، وكان إخوتى هؤلاء يعتمدون على المنحة التى كنت أتقاضاها.
وقد تمكنت من دفع مصاريف الكلية ومصاريف المدينة الجامعية بواسطة مبلغ أعطاه لى أحد الأفراد فى قريتى إلى أن يرزقنى الله فأقوم بتسديده.
سيدى الرئيس: هذه هى ظروفى ومشكلتى، فأرجو من فخامتكم أن تنظروا بعين العطف والحنان إلى من قست عليهم الأيام حتى لا يكون الفقر سببا فى حرمانى من مواصلة الدراسة الجامعية، خاصة أننى أرغب فى المزيد من الدراسة والحصول على درجة الدكتوراة بإذن الله، حتى أستطيع أن أخدم وطنى بكل جهودى، ونحن جميعا فى خدمة الوطن الحبيب، جعلكم الله ذخرا لنا على مدى الأيام، ومعوانا للفقراء والمساكين، ومصباحا يضىء لنا طريق الحياة.
ابنكم الطالب كمال محمود عبد الله المنوفى
فى 13/11/1966».
الخطاب الذى كتبه الطالب اليائس، وأوصله لحرس جمال عبدالناصر، وصل بالفعل ليد الزعيم، وقرأه عبدالناصر بنفسه، ووقع تأشيرة أولى بخطه موجهة إلى محمود فهيم سكرتيره الشخصى جاء فيها: «محمود فهيم.. يصرف له إعانة شهرية خمسة عشر جنيها حتى يتخرج» ومذيلة بتوقيعه الشهير، ويبدو أن عبدالناصر تذكر شيئا آخر فى الرسالة التى قرأها، حيث كتب تأشيرة أخرى على جانب الخطاب جاء فيها: «يصرف المبلغ ابتداء من أول ديسمبر، ويصرف له مبلغ 15 جنيها لتسديد ديونه».
وجاء الرد من السكرتارية إلى الرئيس: « أفندم.. حضر وقابل السيد محمود فهيم بمكتبه فى الساعة 19:30 يوم 19/12/1966، وتم صرف مبلغ 15 جنيها له لتسديد ديونه، وكذلك 15 جنيها أخرى عن شهر ديسمبر 1966».
ولم تعلم زميلته فى الكلية هدى عبدالناصر بهذه القصة، إلى أن وجدت الخطاب بين أوراق والدها بعد رحيله.
لم يخلف المنوفى وعده للرئيس، فأكمل تفوقه فى باقى سنوات الدراسة، وحصل على الدكتوراة، وكان الموضوع الذى اختاره للدراسة هو «الثقافة السياسية للفلاحين المصريين» والذى قام فيه بدراسة ميدانية على عينة من الفلاحين، لتكون إحدى الدراسات النادرة، التى تناولت هذا الموضوع، وتدرج المنوفى فى المناصب حتى تولى منصب عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، قبل أن يرحل عام 2014.
نزار قبانى : سيدى الرئيس لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه
فى مقاله البديع «أدباؤنا ومواقف لا تنسى لعبدالناصر» الذى نشر فى العدد الخاص من مجلة الهلال بعد شهر من رحيل عبدالناصر فى أول نوفمبر 1970، كتب الكاتب الكبير الراحل الأستاذ رجاء النقاش موقف جمال عبدالناصر من الشاعر نزار قبانى، بعد أن نشر قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» فى أعقاب هزيمة يونيو 1967، التى حملت نقداً حاداً للذات والتجربة الناصرية والقومية، ومُنعت بسبب ذلك من دخول مصر، وشُنت على الشاعر حملة قاسية فى الصحف المصرية، طالبت بمنع إذاعة أغانيه، ومنعه من دخول مصر.
وقد دفعت تلك الحملة الشاعر نزار قبانى إلى كتابة رسالة خاصة للرئيس عبدالناصر جاءت- كما يقول رجاء النقاش- نصا أدبيا بديعا ومما جاء فى نص رسالة نزار قبانى الى عبد الناصر:
«سيادة الرئيس جمال عبدالناصر، فى هذه الأيام التى أصبحت فيها أعصابنا رماداً، وطوقتنا الأحزان من كل مكان، يكتب إليك شاعر عربى يتعرض اليوم لنوع من الظلم لا مثيل له فى تاريخ الظلم.
وتفصيل القصة أننى نشرت فى أعقاب نكسة الخامس من يونيو قصيدة عنوانها «هوامش على دفتر النكسة» أودعتها خلاصة ألمى وتمزقى، وكشفت فيها عن مناطق الوجع فى جسد أمتى العربية، لاقتناعى أن ما انتهينا إليه لا يُعالج بالتوارى والهروب، وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا.
وإذا كانت صرختى حادة وجارحة، وأنا أعترف سلفا بأنها كذلك، فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة، ولأن النزيف يكون بمساحة الجرح.
من منا يا سيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5 يونيو؟
من منا لم يخدش السماء بأظافره؟
من منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض؟
إن قصيدتى كانت محاولة لإعادة تقديم أنفسنا كما نحن، بعيدا عن التبجح والمغالاة والانفعال، وبالتالى؛ كانت محاولة لبناء فكر عربى جديد يختلف بملامحه وتكوينه عن ملامح فكر ما قبل 5 يونيو.
إننى لم أقل أكثر مما قاله غيرى، ولم أغضب أكثر مما غضب غيرى، وكل ما فعلته أننى صغت بأسلوب شعرى ما صاغه غيرى بأسلوب سياسى أو صحفى.
وإذا سمحت لى يا سيادة الرئيس أن أكون أكثر وضوحا وصراحة، قلت إنى لم أتجاوز أفكارك فى النقد الذاتي، يوم وقفت بعد النكسة تكشف بشرف وأمانة حساب المعركة، وتعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
إنى لم أخترع شيئا من عندى، فأخطاء العرب النفسية والسياسية والسلوكية مكشوفة كالكتاب المفتوح.
وماذا تكون قيمة الأدب يوم يجبن عن مواجهة الحياة بوجهها الأبيض ووجهها الأسود معا؟
ومن يكون الشاعر يوم يتحول إلى مهرج يمسح أذيال المجتمع وينافق له؟
لذلك أوجعنى يا سيادة الرئيس أن تمنع قصيدتى من دخول مصر، وأن يفرض حصار رسمى على اسمى وشعرى فى إذاعة الجمهورية العربية المتحدة وصحافتها، والقضية ليست قضية مصادرة قصيدة أو مصادرة شاعر، لكن القضية أعمق وأبعد.
القضية هى أن نحدد موقفنا من الفكر العربى، كيف نريده؟ حراً أم نصف حر؟ شجاعا أم جبانا؟ نبياً أم مهرجاً؟
والقضية أخيرا هى ما إذا كان تاريخ 5 يونيو سيكون تاريخا نولد فيه من جديد، بجلود جديدة، وأفكار جديدة، ومنطق جديد.
قصيدتى أمامك يا سيادة الرئيس، أرجو أن تقرأها بكل ما عرفناه عنك من سعة أفق وبعد رؤية، ولسوف تقتنع، برغم ملوحة الكلمات ومرارتها، بأنى كنت أنقل عن الواقع بأمانة وصدق، وأرسم صورة طبق الأصل لوجوهنا الشاحبة والمرهقة.
لم يكن بإمكانى وبلادى تحترق، الوقوف على الحياد، فحياد الأدب موت له.
لم يكن بوسعى أن أقف أمام جسد أمتى المريض، أعالجه بالأدعية والحجابات والصراعات، فالذى يحب أمته، يا سيادة الرئيس يطهر جراحها بالكحول، ويكوى- إذا لزم الأمر- المناطق المصابة بالنار.
سيادة الرئيس: إننى أشكو لك الموقف العدائى الذى تقفه منى السلطات الرسمية فى مصر، متأثرة بأقوال بعض مرتزقة الكلمة والمتاجرين بها. وأنا لا أطلب شيئا أكثر من سماع صوتى، فمن أبسط قواعد العدالة أن يسمح للكاتب أن يفسر ما كتبه، وللمصلوب أن يسأل عن سبب صلبه.
لا أطالب يا سيادة الرئيس إلا بحرية الحوار، فأنا أُشتم فى مصر، ولا أحد يعرف لماذا أُشتم، وأنا أطعن بوطنيتى وكرامتى لأنى كتبت قصيدة، ولا أحد قرأ حرفاً من هذه القصيدة.
لقد دخلت قصيدتى كل مدينة عربية، وأثارت جدلا بين المثقفين العرب إيجاباً وسلباً، فلماذا أحرم من هذا الحق فى مصر وحدها؟ ومتى كانت مصر تغلق أبوابها فى وجه الكلمة وتضيق بها؟
يا سيدى الرئيس، لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه، والمجروح على جراحه، ويسمح باضطهاد شاعر عربى أراد أن يكون شريفا وشجاعا فى مواجهة نفسه وأمته، فدفع ثمن صدقه وشجاعته.
يا سيدى الرئيس، لا أصدق أن يحدث هذا فى عصرك».
ما كان من عبدالناصر بعد أن قرأ رسالة الشاعر نزار قبانى إلا أن أصدر أوامره برفع أى حصار على الشاعر نزار قبانى، ثم توجه إليه بدعوة رسمية لزيارة القاهرة والالتقاء به، وكان أول ما قاله لنزار قبانى: - أنا من عُشاق شعرك، ولم أكن لأسمح أن يصدر قرار بمنع دخول نزار قبانى وعطاءاته إلى مصر، ولكننى عندما قرأت رسالتك بحثت الموضوع عمن أصدروا مثل هذا القرار فوجدتهم لا يعرفون من هو نزار قبانى... فأهلاً بك يا أبا توفيق فى وطنك.
أربع كلمات من عبدالبارى عطوان إلى عبدالناصر
يحكى عبدالبارى عطوان رئيس تحرير القدس العربى: «كانت أُمنيتى أن أُقابل الرئيس عبدالناصر، وكُل ما استطعت أن أُحقّقه أنّنى رأيته عن بُعد عندما ألقى خِطابًا فى الإسكندريّة بمُناسبة ذكرى ثورة يوليو، فعندما كنت طِفْلًا فى السّنة الثّانية ابتدائيّة، قطعت ورقة من كُرّاستى اليتيمة، وكتبت فيها أربع كلمات : «جمال عبد الناصر أنا أُحبّك»، ووضعتها فى مغلف بنّى، وكتبت العُنوان “جمال عبد الناصر ـ القاهرة”، واستجديت والدى أن يُعطينى نِصف قِرش (تعريفة) لشِراء الطّابع، ووضعت الرّسالة فى صندوق البريد.
بعد أسابيع جاء النّاظر بخيزرانته الطّويلة مع عَددٍ من المُدرّسين إلى فصلى باحثًا عنّى، وكُنت نحيفًا هزيلًا أُعانى من فقر دم مُزمن نتيجة للفقر والجُوع والحِرمان، فكِدت أن أنهار من الخوف، فالنّاظر كانت لُغته فى المُخاطبة دائمًا “الخيزرانة” سواءً كُنت مُصيبًا أو مُخطئًا، وكنت زُبونًا دائمًا فى تحيّاته ومُدرّسيه لمُشاغباتى أو لتأخّرى عن المدرسة، وقادنى إلى غُرفته، وهُناك أبرز مظروفًا بُنِّيًّا “ضخمًا” مفتوحًا، وسألنى مُنذ متى تعرف جمال عبد الناصر؟ أنكرت وأنا أرتجف أنّى أعرفه، ومن أنا هذا الطّفل الحافى فى مدرسة لمخيّم دير البلح للاجئين حتى أعرفه؟ ولكنّه أيّ النّاظر ربّت على ظهرى بيده، وليس بالعصا، وقال إنّه فَخورٌ بى، وأعطانى الظّرف، وكان يتضمّن صورةً للرئيس عبد الناصر، وخِطاب منه يشكرنى، وبضعة كُتب مثل المِيثاق وفلسفة الثّورة على ما أذكُر، وأعتقد أنّ أهلى فى مُخيّم رفح ما زالوا يحتفظون بالرّسالة والكُتب، أو هذا ما أتمنّى.
يقول عبدالبارى: «لو عاد التّاريخ إلى الوراء، لكَتَبْتُ الرّسالة نفسها إلى الرئيس جمال عبدالناصر، وأضفت إليها كلمةً واحدة “الرئيس جمال عبدالناصر أنا أحبّك أكثر».
قانون بالمعاشات بسبب رسالة شقيق الشاعر أمل دنقل
يحكى أنس دنقل الشقيق الأكبر للشاعر الكبير أمل دنقل : «اتولدت سنة 1949 .. أبويا مدرس ثانوى .. سنة 1950 اتوفى ابويا.. عمرى سنة.. أختى أحلام أربع سنين .. أمل أخويا عشر سنين.. أمى سبعة وعشرين سنة.. صممت تعيش تربى أولادها..
أيام الملك، كان الموظف اللى يخدم أقل من 15 سنة لا يحصل على معاش.. وبالتالى لم نحصل على معاش.
فى شهر سبتمبر 1963 أول العام الدراسى، فى الشهادة الإعدادية، زمايلى الطلبة يبعتوا رسايل لجمال عبدالناصر يطلبوا صوّره، يبعت لهم صورته وعليها توقيعه.. أيامها كنت أشطر طالب فى المدرس، بالذات فى اللغه العربية والتعبير.
كتبت رساله بالبلدى شرحت فيها ظروف أسرتى لجمال عبدالناصر:
سيادة الرئيس..نحن اسره ظُلِمنا فى عصر الملك لأننا لم نحصل على معاش لأبى.. وظُلمنا فى عهد الثورة التى جعلت أرضنا البسيطة فى يد من يزرعونها.. نرجو إنصافكم..» طابع بوسته بقرش وبعّتْ الجواب..
عشرة أيام بالضبط، الساعه عشرة الصبح، قاعد فى الفصل.. ناظر المدرسه يبعت لى: كَلِم ..
لقيت غفير العمدة وحمار العمدة العالى.. عاوزينك فى ديوان العمدة
قال لى الغفير ماتخافش واحد ضيف كبير قوى قوى قاعد عند العمدة ومعاه رئيس النقطه وعايزينك تحضر حالا.
على باب الديوان عربيه جيب روسى عليها اتنين حرس شرطة عسكرية بخلاف السواق .. جوه المندره، راجل شكله بسيط، لابس قميص وبنطلون.. انا المقدم شعراوى جمعه من مكتب الريس: انت اللى بعت الجواب ده؟
– ايوه. انا.
المقدم :الرساله دى قراها الريس ومنامش الليل.. تعالى معايا جوه..
العمده: مفيش حد غريب، إحنا أعمامه.. والناقصة علينا..
رد المقدم بحزم: مش عاوز كلام.. لو انتو كبار صح وبجد وبتحلوا مشاكل مكانش بعت للريس.. تعالى يا ابنى جوه..
قعد يسألنى وأنا أجاوب وهو يكتب ملاحظات، بعدين.. يلا بينا على بيتكم .. عاوز أقابل الست الوالدة..
رحنا البيت.. شاف عقود الرهن بالربا.. اتأكد من كلامى.. رجعنا الديوان.. ركب عربيته.. اسبوعين بالضبط.. وصلنا شيك معاش شهرى 15 جنيها.. وشيك مجمد متأخر معاش استثنائى 300 جنيه.
المدهش والعجيب، فى مطلع عام 1964، برنامج اذاعى اسمه أخبار خفيفة.. المذيعة تقول: الرئيس يصدر القانون رقم 33 لسنة 1964 (لسه فاكر رقمه) .. بشأن منح معاش لمن توفوا فى العصر الملكى ولم يحصلوا على معاش.. صرح السيد أبوالعينين رئيس مصلحة التأمينات، أن السيد الرئيس وصلته رسالة من طفل صعيدى، لفتت نظره للظلم الواقع على هذه الفئة ممن أضيروا فى العهد الملكى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة