استقر نجم أم كلثوم فى عالم الطرب المصرى، وتهافت عليها متعهدو الحفلات من البلدان العربية القريبة من أجل إقامة حفلات غنائية فيها، تطلعا لرؤية تلك الموهبة المصرية الصاعدة، وفقا للكاتب والباحث كريم جمال فى كتابه «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى».
يذكر «جمال» أنه فى عام 1931 وبعد مفاوضات جرت بينها وبين «وجيه لبنانى» يدعى أحمد الجاك، الذى كان يعمل كمتعهد حفلات فى لبنان، وافقت أم كلثوم على الخروج من المملكة المصرية والقيام بأولى جولاتها الفنية فى المنطقة العربية، إذ كانت وجهتها البوابة الشرقية للحدود المصرية، فأحيت سلسلة من الحفلات الغنائية بدأتها فى لبنان ثم القدس وحيفا ويافا وسوريا، وذلك برفقة تختها الشرقى الصغير الذى كان يرأسه آنذاك الموسيقار محمد القصبجى، ويضم عازف القانون إبراهيم العريان، وعازف الكمان كريم حلمى.
تكتسب هذه الجولة أهميتها التاريخية فى حياة أم كلثوم كونها الأولى لها فى المنطقة العربية، ولهذا أخذت حيزها فى الموسوعة الضخمة «أم كلثوم» التى كتبها المؤرخان الموسيقيان الشقيقين إلياس وفيكتور سحاب، فى ثلاثة مجلدات، وفى المجلد الأول «السيرة» نقل إلياس وصف هذه الرحلة على لسان «حسن الجاك» متعهد الحفلات فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى وهو ابن أحمد الجاك.
قال حسن الجاك لمجلة «المصباح» الثقافية الأسبوعية اللبنانية، إن سيارة أم كلثوم سارت من الميناء حتى مسرح «التياترو الكبير» على السجاد الأحمر الذى فرشه خصيصا أحمد الجاك لاستقبال أم كلثوم، وسط احتفالات شعبية بقدوم المطربة الشابة للمرة الأولى إلى لبنان، فتقول: «وركب الكثيرون الزوارق والفلايك المزدانة بالأعلام المصرية تعانق أعلام لبنان، وتحوطها بالأزهار والرياحين، وانتشروا فى البحر منتظرين قدوم الباخرة لتحية واستقبال الآنسة أم كلثوم وأفراد تختها، وفى الساعة السادسة صباحا دخلت الباخرة الميناء، فالتفت حولها الزوارق وارتفعت أصوات أصحابها بالهتاف والتحية، ثم صعدت أم كلثوم إلى ظهر الباخرة يحيط بها مستقبلوها، حيث الجماهير المحتشدة فى الزوارق والفلايك، ثم نزلت من الباخرة وركبت لنشا مزدانا بالرياحين يعلوه العلم المصرى، ومن حولها زوارق المستقبلين حتى وصلت إلى رصيف الميناء الذى كان يغص بمئات المستقبلين، ولم تتمكن أم كلثوم من شق طريقها وسط هذه الصفوف المحتشدة، إلا بشق الأنفس وبمساعدة البوليس.
يعلق كريم جمال: «كان ذلك الاستقبال الحافل لأم كلثوم فى لبنان عام 1931 علامة على تصاعد شعبيتها المطردة فى ذلك القطر العربى، وعلى تنامى دورها كمطربة ناشئة تتخطى منذ بدايتها حدودها الإقليمية المصرية إلى آفاق القومية العربية، بالرغم من أن نجمها فى عالم الغناء لم يكن يزيد عمره على سنوات قليلة»، وعن الحفلات التى قدمتها فى لبنان أثناء هذه الرحلة، يذكر «جمال»: «بدأتها بحفلتها فى بيروت، 3 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1931، حين غنت على مسرح «التياترو الكبير» فى وسط العاصمة اللبنانية، ثم اتبعتها بحفلة ثانية على ذات الخشبة، وكان بين الحاضرين فى الليلة الثانية السياسى المصرى وسكرتير عام حزب الوفد مكرم باشا عبيد، الذى صعد إلى الكواليس عقب الوصلة الأولى ليقابل أم كلثوم ويهنئها على نجاحها خارج مصر، وقال لها وهو يشد على يديها «لقد رفعت رأس مصر والمصريين فى عالم الفنون الجميلة»، وعادت إلى المسرح لغناء الوصلة الثانية، وسهرت بيروت فى تلك الليلة مع غناء أم كلثوم حتى الثانية والنصف صباحا، بعدما طالب الجمهور بالإعادة والمزيد من الأغنيات التى كانت تمتاز فى تلك المرحلة بقصر مدتها الغنائية.
يضيف «جمال»: «بعد حفلى العاصمة أحيت أم كلثوم حفلة كبيرة فى صالة فندق «الجبيلى» فى عروس المصايف «عاليه»، فانتشى الحاضرون طربا، وامتد الحفل حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالى كما حدث تماما فى حفلتى بيروت».
يذكر «جمال»، أن المجتمع الصحفى اللبنانى حاول التعرف على تلك المطربة الجديدة التى غير ظهورها معادلة الطرب فى المنطقة العربية، فطلب الأديب اللبنانى الشيخ فؤاد حبيش إجراء مقابلة معها، ونشرها فى صحيفة «المعرض» اللبنانية فى سبتمبر 1931، وفيها قالت، إن القصيدة هى أقرب قوالب الغناء العربى إلى نفسها، وعندما سئلت عن مسألة التجديد فى الموسيقى العربية وتطور الغناء الشرقى، اعتبرت أن الغناء العربى فى تطور ملحوظ، وزادت على ذلك «أما الموسيقى الغربية فلا أرى أننا فى حاجة قصوى إلى الاستعانة بألحانها، بل أرى عكس ذلك أننا فى غنى عنها».
يضيف جمال، أن الشيخ فؤاد سألها عن الحب ومشاريع الزواج المحتملة أو القريبة، فردت بحسم شديد، أنها كرست نفسها وحياتها فى تلك المرحلة لفن الغناء، قائلة: «أنا منصرفة بكليتى إلى فن الغناء، حتى أن تفكيرى لا يخرج عن دائرته، أما قلبى فيحرسه جنود الفن، والمستقبل لله وحده».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة