كان ظهور الفنان سيد درويش إيذانا بانقلاب شامل تناول التلحين وأسلوب الأداء، وهو ومن قبله سلامة حجازى - الذى توفى يوم 4 أكتوبر 1917 - وضعا أسس الغناء المسرحى، حسبما يذكر الموسيقار محمد عبدالوهاب فى مقال نادر له بعنوان «الغناء المسرحى بين سيد درويش وسلامة حجازى»، المنشور بمجلة «الكواكب، عدد 110، فى 8 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1953».
يذكر «عبدالوهاب» أن عبده الحامولى ومحمد عثمان تركا الغناء يقف عند مرحلة التطريب على التخت، وكانا التلحين فى عهدهما لا يتجاوز كثيرا تلحين الكلمات دون أن يعمد إلى تصوير المعانى، كان غناء يهدف إلى إطراب الحس، وكان فى جملته أداة من أدوات المتعة، يكتمل بها مجلس الأنس والشراب، وجاء الشيخ سلامة حجازى، فكان صاحب الفضل الأول فى الاتجاه بالغناء إلى المسرح، ونقل الغناء من مجرد التطريب إلى رواية القصة، فهو الرائد الأول للغناء القصصى فى مصر، وكان له الفضل فى اجتذاب المريدين واكتساب الأنصار لهذا اللون من الغناء، وساعده على ذلك ما وهبه الله من صوت قوى سليم، واسع المقامات، يجمع بين العذوبة والقوة والقدرة.
يضيف «عبدالوهاب»: «كان الشيخ سلامة فى بدء حياته الفنية ينقل ألحان التواشيح على كلام القصة التى يمثلها بصرف النظر عما إذا كان هذا اللحن يلائم الموقف ويتفق مع الروح السائدة فيه، وإنصافا للشيخ سلامة أقرر أنه كان فى آخر حياته يضع بعض ألحان الروايات، ويحاول أن يعطى للكلام ما يناسبه من موسيقى تصور المعنى الذى يحمله، ووفق فى ذلك، ولكن ألحانه كانت فى حدود الطابع المألوف والروح الذى كان سائدا فى ذلك العصر، أى أن الشيخ سلامة لم يأتِ فى هذه الألحان بشىء جديد يخالف الشائع المألوف، وهكذا يتحدد موضعه وأثره فى تاريخ الغناء، بأن له الفضل فى تحويل الأنظار للغناء القصصى المسرحى، ومحاولة الاهتمام بتصوير المعنى فى اللحن وخلق جمهور لهذا النوع من الغناء المسرحى».
ظهر سيد درويش، ويذكر «عبدالوهاب»: «كان ظهوره إيذانا بانقلاب شامل تناول التلحين، وأسلوب الأداء، كان ثورة على القديم المألوف توشك أن تعصف بأسلوب القدماء وفنهم فضاقوا به، حتى أن أنصار الشيخ سيد ومريديه كانوا فى أول الأمر يرددون ألحانه فى الخفاء ويتداولونها سرا فيما بينهم كأنها نوع من المهربات التى يستخفون بها، فإذا كانوا فى مجلس وأخذوا ينشدون لحنا للشيخ سيد، ثم دخل عليهم أحد أنصار القديم قطعوا غناءهم وغيروا حديثهم مجاملة لشعور من دخل عليهم من أصحاب المدرسة القديمة، وكان أبرز ما فى فن سيد درويش هو اهتمامه بأن يصور اللحن المعنى الذى تدل عليه الكلمات، فأدخل بذلك عنصر التفكير فى التلحين، وكانت ألحانه مرآة صادقة تنعكس عليها المعانى، والعواطف والمشاعر التى تحملها الكلمات، ومصدر ذلك هو التفكير والسليقة المبصرة التى تعطى للكلام المعنى الموسيقى الملائم».
يضيف «عبدالوهاب»: «لست فى حاجة إلى أن أدلل على قوة تصوير ألحان الشيخ سيد للمعانى، فكل ألحانه تنطق بذلك، أنظر مثلا إلى لحنه فى رواية «العشرة الطيبة» عندما يقول الكورس: «علشان ما نعلى ونعلى ونعلى، لازم نطاطى نطاطى نطاطى» إنه يعلو فى اللحن ويرتفع بالمقامات مع كلمة «نطاطى» حتى يجسم تلك المعنى تجسيما يجعلك كأنك تراه رأى العين، وهذه المقدرة على تصوير المعانى للجميع هى التى جعلت منه أعظم ملحنى الأوبريت، حيث يحتاج تلحين الروايات المسرحية إلى هذه القوة فى تصوير المعانى والعواطف والجو الذى يلابس حوادث الرواية».
يرى «عبدالوهاب»: «كانت ألحان سيد درويش تجديدا فى الطابع العام وأسلوب الأداء، كان متأثرا بالغناء التركى واليونانى بحكم نشأته بالإسكندرية واختلاطه بالأجانب والأروام، فتأثر بأسلوب غنائهم، ومن هذا المزيج استوى للشيخ أسلوب فريد فى الأداء، أسلوب جديد فذ كله حيوية وقوة ونبض، جدير أن يكون أسلوب الانقلاب الفنى والطفرة التى يتطلع إليها محبو التجديد، وكان الشيخ سيد يسبق عصره، حتى أنه أدرك أنه لا تستقيم الموسيقى بغير توزيع، فعندما أراد أن يخرج أوبريت «شهر زاد» و«الباروكة» أحضر المايستر «كاسيو الإيطالى»، ووضع توزيع «هارمونى» بسيطا لبعض ألحان هذه الروايات فى الوقت الذى لم يكن يخطر شيء من هذا على بال إنسان».
يضيف «عبدالوهاب»: «هكذا فتح سلامة حجازى باب الغناء المسرحى فدخله سيد درويش ليقيم مسرحا ضخما، وهو يحمل لواء ثورة التجديد فى التلحين والأداء، فسيد إذن هو المفكر الأول فى تصوير المعانى والعواطف بالموسيقى، وهو الذى خلق الحرية الفنية فى الموسيقى، وفتح باب التجديد لهذا الجيل من الموسيقيين فساروا على هديه وترسّموا خطاه، وإذا عرفنا أن حياته الفنية الحقيقية بدأت فى سنة 1919 وانتهت بوفاته سنة 1923 أى لم تتجاوز أربع سنوات، أحدث فيها هذا الانقلاب الكبير، وأنتج هذا العدد الضخم من روايات الأوبريت التى قام بتلحينها، عرفنا مدى عبقرية سيد درويش ومقدرته المعجزة».