تحل اليوم ذكرى فتح مكة بالتاريخ الميلادي وقد وقعت في العاشر من يناير عام 630 ميلاديًا، بالعام الثامن من الهجرة، وهنا نتوقف مع ذكره محمد حسين هيكل عن فتح مكة في كتابه حياة محمد.
يقول محمد حسين هيكل فى كتاب حياة محمد: "سار محمد في الجيش، حتى إذا انتهى إلى ذي طوى، ورأى من هناك مكة لا تقاوم استوقف كتائبه، ووقف على راحلته، وانحنى لله شاكرًا، أن فتح الله عليه مهبط الوحي ومقر البيت الحرام ليدخله والمسلمين آمنين مطمئنين. وفيما هو كذلك طلب أبو قحافة، ولم يكن قد أسلم كابنه، إلى حفيدة له أن تظهر به على أبي قبيس، وكان قد كف بصره. فلما ارتفعت به الجبل سألها ما ترى؟ قالت: أرى سوادًا مجتمعًا. قال: تلك الخيل. ثم قالت: قد والله انتشر السواد. فقال: تلك الخيل دفعت إلى مكة، فأسرعي بي إلى بيتي. ولم يصل إلى بيته حتى كانت الخيل قد زحفت وتلقته قبل بلوغه إياه".
شكر محمد الله أن فتح عليه مكة، ولكنه ظل مع ذلك متخذًا حذره؛ فقد أمر أن يفرق الجيش أربع فرق، وأمرها جميعًا ألا تقاتل وألا تسفك دمًا إلا إذا أُكرهت على ذلك إكراهًا واضطرت إليه اضطرارًا. وجعل الزبير بن العوام على الجناح الأيسر من الجيش وأمره أن يدخل مكة من شمالها، وجعل خالد بن الوليد على الجناح الأيمن وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وجعل سعد بن عبادة على أهل المدينة ليدخلوا مكة من جانبها الغربي. أما أبو عبيدة بن الجراح فجعله محمد على المهاجرين، وسار وإياهم ليدخلوا مكة من أعلاها في حذاء جبل هند، وفيما هم يتأهبون سمع بعضهم سعد بن عبادة يقول: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة …» وفي ذلك من نقض أمر النبي ألا يقتل المسلمون من أهل مكة ما فيه. لذلك رأى النبي حين بلغه ما قال سعد أن يأخذ الراية منه وأن يدفعها إلى ابنه قيس، وكان رجلًا ضخمًا، لكنه كان أهدأ من أبيه أعصابًا.
دخلت الجيوش مكة فلم يلق منها مقاومة إلا جيش خالد بن الوليد؛ فقد كان يقيم في هذا الحي من أسفل مكة أشد قريش عداوة لمحمد، ومن اشتركوا مع بني بكر في نقض الحديبية بالغارة على خزاعة. هؤلاء لم يرضهم ما نادى به أبو سفيان. بل أعدُّوا عدتهم للقتال، وأعدَّ آخرون منهم عدتهم للفرار. وقام على رأسهم صفوان وسهيل وعكرمة بن أبي جهل. فلما دخلت فرقة خالد أمطروها نبالهم، لكن خالدًا لم يلبث أن فرَّقهم، ولم يُقتل من رجاله إلا اثنان ضلا طريقهما وانفصلا عنه. أما قريش ففقدوا ثلاثة عشر رجلًا في رواية، وثمانية وعشرين في رواية أخرى. ولم يلبث صفوان وسهيل وعكرمة حين رأوا الدائرة تدور عليهم أن ولوا الأدبار، تاركين وراءهم من حرَّضوهم على المقاومة يصلون بأس خالد وبطش أبطاله معه. وبينما كان محمد على رأس المهاجرين يرقى في مرتفع ينزل منه إلى مكة مطمئن النفس لفتحها في سكينة وسلم بصر بأم القرى وبما فيها جميعًا، وبصر بتلماع السيوف أسفل المدينة وبمطاردة جيش خالد لمن هاجموهم. هنالك أسف وصاح مغضبًا يذكر أمره ألا يكون قتال. فلما علم بما كان، ذكر أن الخيرة فيما اختاره الله.
ونزل النبي بأعلى مكة قبالة جبل هند، وهنالك ضربت له قبة على مقربة من قبري أبي طالب وخديجة. وسئل: هل يريد أن يستريح في بيته؟ فأجاب: كلا! فما تركوا لي بمكة بيتًا. ودخل إلى القبة يستريح وقلبه مفعم بشكر الله أن عاد عزيزًا منتصرًا إلى البلد الذي آذاه وعذَّبه وأخرجه من بين أهله ودياره، وأجال بصره في الوادي وفي الجبال المحيطة به، في هذه الجبال التي كان يأوي إلى شعابها حين يشتد به أذى قريش وتشتد به قطيعتها، في هذه الجبال، ومن بينها حراء حيث كان يتحنث حين نزل عليه الوحي أن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.