كانت الساعة الخامسة مساء يوم 10 يناير، مثل هذا اليوم، 1883 حين رست الباخرة بالزعيم الوطنى أحمد عرابى ورفاقه من قادة الثوة العرابية بميناء كولومبو فى سيلان، حسبما تذكر الدكتورة لطيفة سالم فى كتابها «عرابى ورفاقه فى جنة آدم»، وذلك تنفيذا لقرار النفى الذى أصدره الخديو توفيق يوم 3 ديسمبر 1882 بعد هزيمة الثورة العرابية واحتلال الإنجليز لمصر يوم 13 سبتمبر 1882.
كانت سيلان مستعمرة بريطانية، وكان المنفيون إليها من قادة الثورة سبعة. هم: «أحمد عرابى، ومحمود باشا سامى البارودى، ويعقوب باشا سامى، ومحمود باشا فهمى، وعلى باشا فهمى، وعبدالعال باشا حلمى، وطلبة باشا عصمت»، واصطحبوا أولادهم وحريمهم باستثناء محمود سامى البارودى الذى لم يرافقه سوى ثلاثة من خدمه، حيث رفضت زوجته السفر معه لظروف خاصة.
تؤكد «سالم»: «أُبلغ المنفيون بأن من يتخلف من المرافقين لن تتولى الحكومة المصرية تسفيره على نفقتها، وإنما يكون على حسابه، واستثنى عرابى من هذا القرار، إذ كانت الظروف المرضية لزوجته لا تسمح لها بالسفر حين حل موعده، وأُذن لها باللحاق وقتما تشاء، وسمح لعرابى ورفاقه ببيع خيولهم وعرباتهم، وتراوحت قيمتها بين 700 و800 جنيه، كما باعوا بعض الممتلكات الأخرى فى حدود نفس المبلغ، وأذن لهم بنقل بعض المفروشات والأثاث».
يذكر «عرابى» فى مذكراته أن عدد المسافرين 48 شخصا، كان هو ومن معه ستة أفراد، و14 لعلى فهمى، و9 ليعقوب سامى، و9 لمحمود فهمى، و3 لمحمود سامى البارودى، و4 لعبدالعال حلمى، و3 لطلبة عصمت، وأنهم فى يوم 27 ديسمبر 1882 توجهوا إلى قصر النيل ومعهم من أراد مصاحبتهم من الأهل والخدم، وأعد لهم قطار خصوصى من قطارات السكة الحديد تحرك بهم فى الساعة العاشرة مساء، ووصلوا إلى السويس فى الساعة الثامنة صباح اليوم التالى، وفى الساعة الواحدة ظهرا تحركت بهم الباخرة المؤجرة لتوصيلهم إلى سيلان.
يتذكر «عرابى» دراما لحظة فراق مصر وقت أن بدأت الباخرة مغادرة الميناء، قائلا: «بعد قيامها ولينا وجوهنا شطر مصر ننظر إلى جمالها وحسن منظرها ونودعها بقولنا: «يا كنانة الله صبرا على الأذى، حتى يأتى الله لك بالنصر، وما زلنا ننظر إلى جوها وجبالها حتى توارت عن أعيننا».
بعد أن وصلوا إلى ميناء كولومبو، لم يشأ حاكم سيلان الإنجليزى أن يغير مكان إقامة المنفيين، وفقا لما تذكره لطيفة سالم، وتوضح: «اعتبر أن الثغر كولومبو يلائمهم، نظرا لارتفاع نسبة المسلمين، فهى تبلغ 13.3% من مجموع السكان، وتتوافر فيها أماكن العبادة حيث ضمت سبعة مساجد، بالإضافة إلى أن موقعها قرب الجنوب يجعلها أقل تأثرا بالتيارات الهندية، وأخيرا فإن التغيير ربما يترك البصمات السيئة على المنفيين الذين هيأوا أنفسهم للإقامة فيها».
يصف «عرابى» حفاوة استقبالهم، قائلا: «فى الصباح من يوم الخميس 10 يناير سنة 1883 خرجنا إلى البر فوجدنا رصيف الميناء مزدحما أيما ازدحام بإخواننا المسلمين من أهل الجزيرة المذكورة، وأهل الجاوه والهند والملايو وأعيان طائفتى التمل والشنكليز أهل البلاد من عباد الأوثان على مذهب البوذا، وكلهم يشيرون إلينا بالسلام وزيادة الاحترام»، وتذكر لطيفة سالم: «تجمع حشد كبير من المسلمين، وانضم إليهم أوروبيون، وعندما نزل عرابى إلى الشاطئ، كان على فهمى سبقه فى النزول، ارتفعت الأصوات بالصياح والهتاف، وأسرع البعض ليقبل يده، ونزل باقى المنفيين».
يتذكرعرابى: «تقدمت لنا العربات فركبنا وتوجهنا إلى البيوت المذكورة، وكان قد خصص لنا بيت عظيم يسمى «ليك هاوس» ومساحة بستانه 14 فدانا، ومعظم أشجاره من جوز الهند والموز وغيره، فتوجهنا إليه والناس مزدحمون على جانبى الشوارع من الميناء المذكور يهتفون لنا بالترحيب والإكرام إلى أن وصلنا إلى المنزل المذكور، وأخذنا معنا طلبة باشا عصمت وعبدالعال باشا حلمى لإقامتهما معنا، حيث إنهما تركا عائلتيهما فى مصر، وكذلك توجه محمود باشا سامى مع محمود باشا فهمى لإقامتهما فى منزل واحد لكون الأول ترك أهله وأولاده فى مصر أيضا، وانفرد كل من على باشا فهمى ويعقوب باشا سامى فى بيت على حدة لوجود عائلتيهما معهما»، ويضيف «عرابى»: «لما دخلنا البيوت المعدة لنا أخذت تلك الطوائف تتوارد علينا للسلام بوجوه باشة، وقلوب طافحة بالمحبة والحنان ليلا ونهارا».
التقى «عرابى» وزملاؤه بنائب حاكم الجزيرة، تذكر لطيفة سالم: «دار الحديث حول دوار البحر الذى عانوا منه، ومحاولاتهم الأولى لتعلم اللغة الإنجليزية»، أما حاكم الجزيرة فإن أكثر شىء لفت نظره هو «التعاطف الذى غمر به المسلمون ضيوفهم، وأنه كتب فى تقرير إلى وزير المستعمرات: «ما لا شك فيه أن ما قام به المسلمون سيدفعه إلى المزيد من مراقبة العلاقة بين الطرفين».
طالت سنوات المنفى وتوفى، عبدالعال حلمى، ومحمود فهمى، ويعقوب سامى، فى سيلان، وعاد طلبة عصمت ومحمود سامى البارودى إلى مصر سنة 1900، ثم عاد على فهمى وأحمد عرابى عام 1901.