فى سيناء، يطلق أهلها على الفترة الأشد برودة من العام هذه الأيام اسم “الأربعانية”، وهى موسم يمتد من أواخر ديسمبر حتى مطلع فبراير. تتسم هذه الفترة بتغيرات مناخية حادة تشمل انخفاضًا شديدًا فى درجات الحرارة، هبوب الرياح الباردة، وتراكم الصقيع.
كما تُعتبر جزءًا لا يتجزأ من التراث الشعبى والحياة اليومية لسكان سيناء الذين طوروا تقاليد وأساليب خاصة للتعايش مع قسوة هذا الطقس.
تُمثل الأربعانية بداية الشتاء الفعلى فى سيناء، حيث تنخفض درجات الحرارة بشكل حاد لتصل أحيانًا إلى ما دون الصفر فى بعض المناطق المرتفعة. يرافق هذه البرودة الشديدة مظاهر مناخية أخرى مثل كثافة الضباب صباحًا، واختفاء الحشرات والزواحف، وهى ظواهر أطلق عليها أهل سيناء مسميات خاصة مثل “حليجة”، للدلالة على شدة البرد وقسوته.
خلال هذه الفترة، يُلاحظ تغير ملموس فى النشاط اليومى للسكان، إذ تُعد التدفئة محور حياتهم، ويُطلق على الأربعانية أسماء مثل “مربعانية اللزمة”، وتنقسم إلى مراحل مختلفة مثل “التحتية”، حيث يتجمد الصقيع عميقًا فى الأرض، مما يعطل نمو النباتات وتوقف جذورها عن الامتداد. يقول المزارعون “عروق الشجر واقفة”، فى إشارة إلى توقف نمو الأشجار.
مع انتهاء الأربعانية، تبدأ الأرض بالتعافى تدريجيًا، وتظهر النباتات على السطح فيما يعرف بمرحلة “الخروج”، حيث يكون الطقس أقل قسوة وتعود الحياة تدريجيًا للنشاط الزراعي.
فى مواجهة البرد القارس، يلجأ سكان سيناء إلى إشعال النيران كوسيلة أساسية للتدفئة. يقول البدو “النار فاكهة الشتاء”، إذ تُعد مصدرًا للدفء وأساسًا للتجمعات الاجتماعية، ويُفضلون أنواعًا معينة من الحطب مثل "الزيتون"، و“الغضا” و”السمر”، التى تتميز بجمرها الحار ودخانها الخفيف.
ويستعد البدو بعموم سيناء مبكرًا لهذه الفترة بتجميع الحطب وتخزينه فى فصل الصيف لضمان توفره عند الحاجة. وتُعد النار جزءًا من ثقافة البدو، حيث يرددون أمثالًا مثل “الموت ولا فراق الموقدة” و”دخانها ولا هبوب شمالها”، للدلالة على أهمية النيران مقارنة بالبرد القاسى فالبدوى فى هذه الفترة يلتف حول نار موقدة فى مجلسه أو تحت السماء الصافية، ويشعر بالدفء الذى يعيد له بعضًا من راحته وسط أجواء الشتاء القاسية، ويعتاد الجميع الجلوس حول النار ليتبادلوا الأحاديث ويستدفئوا، فهى ليست مجرد مصدر للحرارة بل هى رمز للتجمع العائلى، ومصدرًا للراحة النفسية والترابط الاجتماعي. ومع حلول الليل، تصبح النار ملاذًا أخيرًا للحماية من الرياح الشمالية القارسة، ويستعين الناس بجمرها الذى لا يخيب ليحميهم من برودة الجو.
خلال فترة الأربعانية فى سيناء، يعتمد السكان على مجموعة من الأطعمة والمشروبات التى تساعدهم على مواجهة البرد القارس. من بين الأطعمة الأساسية التى يتم تناولها “العدس”، الذى يُعدّ كشربة دافئة أو يُحضر على شكل “فته”، حيث يتم غمس لقيمات الخبز المطهى على نار الحطب فى الشربة مع إضافة البصل الأخضر. كما تعتبر “الحميسة”، وهى حبوب الشعير المجروشة، من الوجبات المفضلة، حيث يتم طهيها وتناولها مع الخبز، ما يوفر الطاقة والدفء فى تلك الأيام الباردة.
أما فى وجبة الإفطار، فتشمل “العجوة”، التى سبق عجنها واعدادها وقا موسم جنى البلح، وتعد طعامًا أساسيًا خلال الشتاء، ويتم تناول العجوة كما هى أو قليها فى زيت الزيتون لتضيف طعمًا لذيذًا ودفئًا للجسم. بالإضافة إلى ذلك، يعتمد البدو على الأعشاب الطبيعية مثل “الخبيزة” و”الحمصيص”، وهما أعشاب تنمو فى الشتاء وتُطهى كوجبات ساخنة وصحية توفر التغذية والدفء.
أما بالنسبة للمشروبات، فالقهوة هى المشروب التقليدى الذى لا يغيب عن جلسات الشتاء فى سيناء، بالإضافة إلى مشروبات أخرى مثل “الحلبة”، “الزعتر”، “الحبق”، و”النعناع”، التى يتم تناولها للتدفئة وتعزيز الصحة خلال الأيام الباردة. للحماية من البرد، يعتمد سكان سيناء على ملابس تقليدية مثل “الفري”، وهى عباءة صوفية مبطنة بوبر الإبل أو شعر الخراف. كما يستخدمون “الجواعد”، وهو جلد الخروف الذى يُلف حول الجسم لتوفير الدفء.
تستمر هذه التقاليد حتى يومنا هذا، خاصة بين كبار السن، حيث تُعتبر الجواعد رمزًا لتراث الأجداد ووسيلة فعالة لمواجهة الشتاء. تُغنى الأهازيج البدوية عن هذه الملابس فى قصص تعكس ارتباط الإنسان ببيئته وظروفه القاسية.
لا يقتصر تأثير الأربعانية على البشر فقط، بل يشمل أيضًا الماشية والإبل، التى تُغطى بقطع قماش سميكة تُعرف بـ”الإجلال” لحمايتها من البرد. كما يقوم البدو بتأمين الغذاء الكافى لها قبل حلول الشتاء، مستعينين بمخزونهم الذى يتم تحضيره فى فصل الصيف.
يردد البدو أمثالًا تعكس أهمية التخزين للطعام مثل “خزين القيظ بينفع فى الشتى”، مما يُبرز حرصهم على الاستعداد لهذه المرحلة الصعبة من العام.
رغم قسوة الطقس، يُنظر إلى أمطار الأربعانية بتفاؤل كبير، حيث يعتقد البدو أن الأمطار التى تهطل فى هذه الفترة تُعد من أنفع أنواع الأمطار، كونها تُغذى التربة وتضمن إنتاجية زراعية جيدة فى الأشهر اللاحقة. يقولون “مطر الأربعانية ما بعده”، فى إشارة إلى فوائد هذه الأمطار طويلة الأمد.
الزراعة الشتوية
الطقس البارد
اعمال التدفئة في شمال سيناء
احتساء المشروبات الساخنة
وجبة الشتاء في شمال سيناء
التراث الشعبي