خالد دومة يكتب: الراعية 9

الخميس، 09 يناير 2025 04:30 م
خالد دومة يكتب: الراعية 9 خالد دومة

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

فتحت أمي عينيها على الحياة يتيمة، مات أبوها وأمها، وهي في العاشرة من عمرها، انتقلت إلى بيت عمها وزوجته، وابنيه الصغيرين، وكأن قصة السندريلا في نصفها الأول تتكرر، ولكن على يد زوجة عمها؟

البؤس والشقاء، العمل منذ الصباح الباكر إلى المساء الأخير، كان عمها يذهب إلى العمل في القاهرة، لا يأتي إلا كل أسبوع مرة، يأتي الخميس آخر النهار، ويرحل يوم السبت عند الفجر، لم يشاهد زوجته، وهي تجرع ابنت أخيه ألوان من العذاب، وكانت هي لا حولة لها، لم تنطق، لم تنفر، أو تثور، تعمل وإذا قدمت لها زوجة عمها الفتات من الطعام أكلته.

في يوم من أيام الصيف القائظ، أمرتها زوجة عمها بالصعود على السطح، لتأتيها بفحل بصل، كانت السلالم من الخشب، بعد أن صعدت أمي إلى السطح، نقلت السلم من مكانه إلى مكان آخر، وظلت أمي ساعات في هذا الجو الحارق، تعاني حرارة الشمس المحرقة، بكت الطفلة الصغيرة إلى زوجة عمها الحقودة الغبية، ترجتها ولكنها لم تستجيب لتضرع الطفلة، ومرضت أمي مرضا أوشك أن يقتلها، لولا عمتها التي كانت في زيارة إلى بيت أخيها مصادفة، وحملت الطفلة التي بين الحياة والموت، وذهبت بها إلى المستشفى ومرضتها، حتى شفيت تماما، فلما سألت الطفلة عن سبب مرضها أخبرتها على خوف ووجل، من زوجة عمها، إن علمت بما قالت، فتثور عليها، وتعاقبها عقابا أشد، بكت عمتها الرقيقة، وصممت على أن لا تتركها ثانية لهذه المرأة السيئة، فثارت عليها ثورة عارمة.

عاشت أمي مع عمتها سنوات راضية، تخدم عمتها، وهي لا تحرمها من شيء، حتى كبرت  أمي واشتد جسمها، وبدت كأنثى، امرأة خطبها جدي لأبي، فهو يعلم قصتها، ويعلم أنها حمول، تريد أن تعيش، مطيعة لا تطلب أكثر من مأوى وزوج، تعيش في كنفه، يحميها من غوائل الدهر، وشرور الأيام.

انتقلت إلى بيت زوجها، كان جهازها بسيطا، صحارة للهدوم، وتطشت وأبريق وبستيلة، وجلبيتين تبدل بينها، كان التقشف عنوانا رئيسيا في حياة عائلتي، أبي وأمي وبين متنقل أو خيمة، حجرة من الطين، يأويان إليها في آخر النهار، بعد السعي طوال النهار، على الرزق وراء القطيع، لم تهدأ أمي يوما حتى بعد أن أنجبت اثنا عشر بطنا، مات أربعة منها، وبقينا نحن الثمانية، حبلا موصولا، لاستمرار الشقاء على وجهها، ويدها وملامح وجهها، لم تفكر يوما في نفسها، أو أن تطلب شيئا من أبي، ما يعطيها من أجل البيت تنفقه، وما لا تجد، فلا تطلب منه شيء، كانت تحلب الأغنام والبقر، وتصنع من ألبانها زادا لبنيها، تطعمهم منه.

كانت لا تكف عن العمل، طوال اليوم، ومعظم الليل، كانت تنام قليلا وتأكل قليلا، ولا ترتاح أبدا، كان لكل منا مطالبه، ولم يكن أحد منا يسألها عن رغبتها، أو مطلبها من الحياة، كان مطلبها الوحيد، هو أن تدعو الله، أن يوفقنا ويرزقنا، وأن يحفظنا لم يقل لها أبي يوما كلمة شكر، كانت تلقاه متجهما ساخطا عليها دائما، لأي سبب، الغريب أنها لم تكن أبدا سببا في تعكير مزاجه، كانت تخافه، ولا تقدر على غضبه، كان يحملها كل ذنب، لينهال بلسانه عليها سبا وشتما وضربا، اعتادت أمي أيضا على الضرب، دون سبب، لعله ينفس عن غضبه، وتعبه طوال اليوم بالضرب، لم يكن في جسد أمي مكان لم تطله يد أبي.

كنت أراها أحيانا متكومة في زاوية، من البيت، والدم يقطر من فمها ووجها، مرعوبة ولا تئن، ولا تشكو، ولا حتى تبكي، خشية أن يراها أبي، تبكي فيزداد ضربا وركلا لها، في المرة الأولى، عندما ضربها وبكت من شدة الضرب، انهال عليها بالعصا، حتى كفت عن البكاء، تعلمت الدرس جيدا، فمهما ضرب أبي لا تبكي، وإن بدا على وجهها وجسمها الإرهاق والتعب، بعد دقائق تقوم إليه تحضر له العشاء، أو تصنع له الشاي، أو تناوله ما يريد، لم تعرف أمي المواقف ولا الغضب إلى بيت أهلها، إنها وحيدة يتيمة، ولا تريد أن ترهق عمتها، بعد أن تزوجت، يكفي أن ربتها حتى تزوجت، ولو أن أبي قتلها، لما اعترضت على ذلك سنوات، وهي على هذه الحالة، بلا اعتراض أو نفور.

كان أبي رجل شديدا، يقسو على كل شيء حوله، كأنما ولد دون قلب، أو تاه منه في زحمة الأيام، كان صوته إذا غضب، كالعاصفة تقتلع قلوبنا من حناجرنا، خوفا وهلعا، كانت يديه جامدتين صلبتين، تنزل على وجوهنا وأجسادنا كأنما هي ألسنة من لهيب أو حريق، يذيب جلودنا. نادرا ما نراه يبتسم لغيرنا من الناس، متجهم الوجه، صلب المشاعر، كأنه صخرة تتكسر عليها روؤسنا وأعناقنا، إذا ما أخطأنا، لكننا أعتدنا على ذلك. أمي التي لا تهش ولا تنش، وأب في يده زمام الأمور كلها، ونحن كقشة لا نملك رأيا ولا جوابا، إذا سئلنا، فكأن البنات يستقين الضعف، من أمنا، نتعلم أن نكون مثلها، وكان أخوتي يقتادونا بأبي، ما أمكنهم ذلك، حتى ولو كانوا صغارا، لا يدرون، لماذا يفعلون ذلك، قطع من التماثيل المتشابهة، هم أرادوا، لنا أن نكون هم، كما كانوا هم مثل آبائهم، لا مجال لأن تتعثر الأقدام، فيجب أن نسلك خطاهم، وأن نسير على دربهم، فنحن عائلة كبيرة، تقطن في بيت واحد، بيت جدي وأبنائه الأربعة، عدد لا بئس به من الأنفس، يتناولون الطعام بالترتيب، جدي وأبي وأعمامي، ثم النساء وبنيهم، كل واحدة، تحيط بها أبنائها الصغار، ومن تخطى العاشرة من البنين، أنضم إلى صفوف الرجال، كانت أمي نسخة من جدتي، كما كان أبي نسخة من جدي، ويجب أن يكون أخي نسخة منه، كما يجب أنا أكون أنا نسخة من أمي، لتمضي الأيام في هذه الدائرة المغلقة الضيقة، التي تجثم على رؤوسنا، وتضغط على أعناقنا دون أن نتأوه أو نشكوا.

هل كانت سنوات العزلة، هي ما جعلتنا جميعا، نكتسب هذا الطابع الجاف، كأننا نستبدل بالرحمة قسوة، نأخذ من أخلاق البعد البعد عن الناس، عن الثرثرة، والأحاديث فنحن جميعا، لا نتكلم إلا في الضروريات، أو إذا كانت هناك حاجة للكلام، وفي نطاق محدود، عن المرعى والكلأ والجو، الغبار، المطر، عما نأكل ونلبس، حياة يملأها الجفاف من أطرافها الأربع، كأنما أنطبع في قلوبنا ومشاعرنا، حيث لا شيء، يقبع في أعماقنا، سوى الخلاء والجفاف، كانت الأغنام، حين ترى العشب، تذهب إليه، في قوة ونشاط، كنت أعرف إنها تبتهج لذلك، وماذا يريد الحيوان، من الحياة، سوى الكلأ، إنه يشعر بنفسه، حين يلتهم طعامه، ويروي ظمأه، ولا يفكر، حتى بما سيحدث بعد قليلا، إنه يستمتع بلحظته ووقته، إنه حيوان، ولا يرجو، أكثر من هذا، ونحن البشر، نحن الذين نملك العقل والقلب والمشاعر، نفرح ونضحك ونحزن، ويملأنا الضجر، والألم، ونحس ماذا نفعل، إننا نأكل نرعى، كما نرعى الأغنام، لا وقت لدينا، لشيء سوى السعي وراء الأغنام، طيلة النهار، حتى إذا عدنا بعد غروب الشمس، ارتمينا بأجسادنا المنهكة، طيلة النهار، لترتاح من مشاقة، ماذا نفعل؟ وما فائدة أن يكون لنا مشاعر؟ إذا كانت معطلة، لا تؤدي وظيفتها في الحياة، لعل إهمالها، هو ما جعلها تنزوي وتموت، وتنسحب من عالمنا، دون أن ندري، أو دون أن نعرف، إن مشاعر سكنتا من قبلنا، جاءت ورحلت في غفلة منا، لم نرعى لها ذمة، ولم نحفظ لها عهدا ولم نهتم لها، لم نغذيها كما نغذي أجسادنا، فارت أجسامنا، وتهاوت ارواحنا وانكمشت وضلت طريق الحياة، ماتت جوعا وعطشا، اغتالتها أيدينا، وسهونا عنها، أو لعلها لم تجد لها مكان بيننا، منذ عهد بعيد، فقررت الرحيل، منذ جيل أو أكثر، ولم نشعر بها، لأننا لم نعرفها قط، ربما نحن أصنام متحركة، ترعنا أمي كما نرعى نحن الغنم، كان انعزلنا عن العالم، سعيا وراء الأغنام سعيا وراء محو إنسانيتنا، وإكتساب أخلاق الشظف، التي أرضعتنا إياه الأحجار والرمال، التي كانت تقابلنا، وساعدت في محو الكثير منا، كان أخي يهبط إلى البلاد المجاورة، من كانت لديه غنمة، أو نعجة، يريد أن يعشرها، يعطيها لأخي، لتسرح مع الغنم، شهر أو شهرين، حتى نتأكد من حملها، تأكل مع الغنم، وترب وترعى، وفي نهاية الأمر لنا مجعول، نظير رعايتها، كان بعضهم يسوف في الدفع، أو يماطل، ينظر أبي إلي، ويرسلني لها، كنت فظة، لا أعرف هوادة في المطالبة، أستمع إلى أبي، وأذهب، كان صوتي صارخ في وجوهم، حتى عرفوني جميعهم، بتطاولي ولساني الحاد، كالسيف يجرح، ويقتل، فإذا مررت بأحدهم، ناولني ما جئت من أجله، دون مماطلة، أو تسويف، فأنا لا أقبل التسويف، ولا المغادرة، إلا بما جئت من أجله، كلما عدت بذاكرتي، وتذكرت حياتي، تعجبت وانتابتني دهشة عظيمة، أكنت أنا، أم غيري، تلبسني ويتصرف بجسدي، دون روحي، عندما مات جدي، بكيت كثيرا، كدت أموت من شدة البكاء، ولكنني لم أبكي لأنني حزنت عليه، لم أشعر بشيء، عندما أخبروني بموت جدي، وأخبرني، إنه لا رعي اليوم، بالأغنام، فرحت في نفسي، يوم لا شقاء فيه، ولا تعب، إنما هو لعب وجري، ولكن بكاء أمي، ونساء عمي العالي وأصوات الصراخ، والصويت تتعالى، جعلني آلة مثله، بكيت لا لأني حزينة، ولكني أبكي، لأنهم يبكون وهم، أيضا يبكون، لا حزننا، ولكن يجب أن يبكوا إذا مات أحد من البيت بيكيت، وتساقطت دموعي الباردة، وأنا أتمني أن ينتهي هذا المشهد الغرائبي، وتحولت سعادتي إلى ضيق، فرحت لعدم خروجي بالغنم، وقلت في نفسي أليس الخروج أرحم مما أنا فيه الأن، الرجال في بلادنا، لا يبكون، يتصنعون الثبات، وأنهم أقدر على اتزان أنفسهم منا، نحن النساء، وفي الحقيقة، هم لا يحزنون أصلا، ولا يعبئون بمن يموت، أو يعيش، فموت الجد، يفسح للأخرين من أبنائه، حب السيرة، والتملك والظهور، لكل واحد منهم حقيقته، فالأب يجبر الأبناء على المعيشة الواحد في بيوت العائلة ظنا منه على تماسك العائلة، رغم ما تحمل النفوس من قنابل موقوته، في انتظار موت الجد، لتنفجر في وجوههم جميعا، كل منهم يريد، أن يستقل بأبنائه، حتى لا يشاركه أخيه في جهده وتعبه، والكل يتكاسل حتى لا يعمل للأخر والنساء، لا تفتر ألسنتها في أحاديث، لا لزوم لها، والأولاد والعراك المستمر بين الصغار، والذي ينتهي دائما بالصلح، على مضض، وتحت ضغط الجد الغريب، إن المأساة تتكرر، في كل جيل، ولا أحد يجرؤ على الثورة، أو الحياد، عما ورثوه، فيجب أن نحزن لأن من قبلنا، حزن هنا حتى أمي التي تحمل على عاتقها، شقاء العالم، فنحن كل عالمها، لم تفلت من هذا الشعور، وهذا الحزن الظاهري، الذي لا يمس القلب، لأنه لا قلب من الأساس، عندما هبط الليل، وسكن كل شيء نما جميعا نحن النساء، في حجرة واحدة واسعة، اصطففنا جميعا، كان التعب أرهقنا جميعا، يوم طويل، نساء من البلاد المجاورة، جاء لعمل الواجب، وأخذ العزاء، وكن يبكين بحرقة، وهو لم يروا جدي، إلا لماما ومنهن من لم تراه قط، فكيف لها أن تبكي هكذا، متى عرفته، وأين ومن أين؟ كل هذا الحزن، إنها العادة والمجاملة، رأيت أمي أيضا في عزاء، وقد بكت على شخص، لم تراه بكت كثيرا، كانت تعرف ابنته، فأرادت أن تجاملها بمشاركتها على بكاء أبيها، عندما نمنا أستبد بي العطش، قمت ورويت ظمأي، وعدت إلى مكاني، تخطيت الأقدام والرؤوس، حتى وصلت إلى موضع فراشي، وقبل أن أهم بشد الغطاء، على وجهي نظرت، إلى النائمات بجواري، أن أصوات أنفاسهم، تتعالي وصوت الشخير يأتي من جهات كثير عاليا، يذهب النوم من الأعين، ولكنهم وبالرغم من تلك الأنفاس العالية، كأنهما موتى، وكان البكاء والحزن، لم يطرأ على بال أحدهم يوما، أن الحزن الحقيقي يطرد النوم، ويشعل الجسد أرقا، وهما وضيقا وتغادر الطمأنينة القلب، فيظل ساهرا مؤرقا يقظا، كيف لهؤلاء النسوة المتشحات بالسواد، بالهم أن لا يشعرن ويغطون في نوم عميق، كأنهن أدين دورهن في مسلسل، وبرعن فيه، واغتبطنا بذلك، فأستراح ضميرهن، ونمن راضيات عن أنفسهن، في الصباح، كان كل شيء على ما يرام، نادني أبي وأخوتي ووزع علينا العمل، تناول جميعا وجبة الإفطار، في نهم، فلم نكن أكلنا بالأمس إلا القليل، يجب أيضا ألا نأكل إلا القليل في هذا اليوم، مر اليوم فعدنا إلى طبيعتنا، والتهمنا طعامنا، وقد هدأت ثورة الحزن المفروضة، والتمسنا جميعا، خطانا نحو طريقنا المعهود.

 







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة