يتلافى نظام البكالوريا سلبيات النظام الحالي للتعليم الثانوي؛ حيث يخفف من حدة الضغوطات التي تقع على الطلاب، وأولياء الأمور، وخاصة في السنة الأخيرة؛ باعتبارها مرحلةً مفصلية في حياة المتعلم، الذي يبذل جهدًا غير مسبوق؛ كي يكتسب خبرات تعليمية مركزة، يتجاوز بها امتحان مفصلي يؤهله للالتحاق بالمرحلة التالية، على أثره يتشكل مستقبله المهني، أو الأكاديمي على السواء.
وأرى أن نظام البكالوريا المصري الذي تم عرضه على مجلس الوزراء، يخلصنا في إشكالية كثافة المقررات؛ حيث هذا النظام يعمل وفق منهجية واضحة تقوم على فلسفة رئيسة تتمثل في البنائية، وفيها يتلقى المتعلم الخبرات الرئيسة التي تكشف عن ميوله واستعداداته وأساليب تفكيره؛ ومن ثم يستطيع أن يختار تخصصه في المرحلة الرئيسة، في ضوء محكات صحيحة ومعايير تقوم على مخرجات التقويم الواقعي لمستواه بالمرحلة التمهيدية.
وإذا ما طالعنا النظم التعليمية الدولية التي تنتهج هذا نظام البكالوريا نجد أنها خبرات التعليم في موادها الدراسية تقوم على البحث والاستقصاء وتنمية المهارات النوعية وصقل الجانب الوجداني لدى المتعلم بمستويات المختلفة؛ كي يصبح قادرًا على صناعة واتخاذ قراره المستقبلي الخاص بالمرحلة التالية بعد شهادة البكالوريا، وهنا نتلخص من شبح التحصيل في مستوياته الدنيا؛ لنرتقي بمستويات التعلم ونركز على مهارات التفكير العليا.
وتؤكد نظم التعليم الدولي على أن ما نقدمه من خبرات تعليمية للطلاب يجب أن يتناسب مع أساليب التفكير لديهم، وهذا ما أكدت عليه النظريات التربوية سلفًا؛ فعبر أساليب التفكير نستطيع أن نعالج ما يقدم لنا من معلومات؛ لكن قد يطغى بعضها على الآخر، ومن ثم تصبح هناك فروقًا في درجة تأثيرها بما قد ينعكس على أدائه أو منتجه النهائي، وهنا نستطيع القول بأن ما يقدم في بالمرحلة الرئيسة للبكالوريا المصرية يراعي ما تمت الإشارة إليه.
وفي هذا الإطار يختار الطالب ما يتناسب مع أسلوب تفكيره المواد التخصصية بالصفين الثاني والثالث بمرحلة البكالوريا وهو مطمئن، لا ينتابه الشك أو التضليل، بل يختار وفق مهاراته وشغفه وحب الاستطلاع لديه وميوله العلمية، وفي الواقع الحديث عن هذا الأمر يحتاج لتفصيل أكثر من ذلك سوف تتناوله مستقبلًا بمشيئة الله تعالى.
وأتوقع في تصميم المناهج الدراسية وما تتضمنه من أهداف ومحتوى وأنشطة بأنواعها واستراتيجيات تدريسية وتقنيات مساعدة وأساليب تقويم مبتكرة أن تشتمل الخبرات التعليمية على ما يلبي احتياجات المتعلمين التعليمية والنفسية والمستقبلية؛ حيث تمهيد الطريق نحو الإبداع في ثيابه التنظيري والابتكار في إطاره العملي الوظيفي، وهنا نصف الخبرات بأنها متكاملة في مكونها ومكنونها؛ إذ تحقق أهدافًا طال انتظارها في مخرجات التعليم المصري.
واعتقد أن ما تم عرضه من بيان مواد أساسية في المرحلتين التمهيدية والرئيسة يشير إلى فلسفة تعرف لدينا نحن التربويين بمعيارية التسلسل والتكامل بداية من التمهيد وانتهاءً بالسنة الأخيرة من المرحلة الرئيسة؛ حيث تتشكل الخبرات التعليمية الرصينة التي تشمل في طياتها مجموع المعارف والمهارات والوجدانيات التي تهيئ الفرد أن يرتاد المرحلة المتقدمة في سلمه التعليمي وفق مستويات تعلمه الحقيقية.
وثمة رسالة طمأنة نبعث بها لأولياء الأمور فحواها: إن نظام البكالوريا المصري يعظم من فرصة التحاق المتعلم بالمرحلة التالية دون قلقٍ أو عناءٍ كبير من قبل الطالب أو معاناة أسرية ودون ضغوطاتٍ مريرة؛ فلن يكون هناك زخمٌ حيال مجموع يؤهل الطالب لمقعده بكلية ما؛ فقد بات الأمر مرهونًا بمستوى حقيقي له يجعله في المكان المناسب لمستواه المهني والأكاديمي، وهذا ما يتسق مع نظم التعليم الدولية المتقدمة.
ونظم التعليم العالمية أضحت تهتم بصقل خبرات المتعلم ولا تهتم بحقن الأذهان بمعلوماتٍ غير وظيفية، وما تمت الإشارة إليه في عرض مقررات نظام البكالوريا المصري يبشر بأن الخبرات التعليمية التي سوف تقدم لأبنائنا تتضمن لزامًا في طياتها معرفة وممارسة ووجدان يكتسبها المتعلم بشكل مقصود من خلال بحثٍ وتجريبٍ يستمتع بمراحله المخططة، وهنا نتوقع الإنتاجية التي تجعل المتعلم إيجابيًا في سلوكه بصفة مستدامة.
ونطمح من خلال هذا النظام أن نقيس وظيفية المعرفة، ونعمل على الحد من مستويات التذكر لها؛ فأرى كمتخصص في هذا الشأن أن الأمر مرهونٌ ببقاء أثر التعلم الذي يضيف إلى مربع الخبرات المربية، ويصقل مهارات ووجدانيات المتعلم بصورةٍ تراكميةٍ، فما أشد حاجتنا لخلق مواطنٍ صالحٍ يمتلك مهارات القرن الحادي والعشرين وهو ما يتأتى إذا ما خططنا لذلك بعنايةٍ عبر مناهجنا التعليمية في هذا النظام، ومن ثم نضمن نجاحه المبهر الذي نرى أثره وثمرته اليانعة في مراحل التعليم المتقدمة أو التالية.
وما ذكر بشأن آليات التقويم وصورة تنفيذه يُعد مطمئنا؛ فينبغي الإشارة إلى أن التقويم بأساليبه المختلفة ينبغي أن يساير نظام البكالوريا؛ فعبر أي بيئة تعليمية منضبطة دومًا ما نتساءل بصورة مشروعة عما نريده من المتعلم من معارف وممارسات تشكل شخصيته وتصقل مهاراته وتجعله واثقًا من نفسه قادرًا على العطاء، وهذا يجعلنا نفكر في تعدد أدوات الرصد في ضوء تلون أو تنوع الأهداف التعليمية المرتقب تحقيقها.
وعلى مسئوليتي وبروية أقول: إن اعتمادنا الرئيس على تقويم الجانب المعرفي في مستويات محددة أمر يعتريه نقصان، وأرى أن هذا الأمر لا يتناسب مع نظام البكالوريا، ومن ثم ينبغي أن ننظر إلى التقويم البديل متعدد الأدوات؛ لنستطيع من خلاله الحكم على واقع الخبرة لدى الطالب، ومن ثم نحدد له ما يصلح أن يقوم به من مهام في المستقبل، والرؤى الطموحة في تنمية ملكاته التي قد يتفرد بها؛ ليصل لمرحلة الابتكار.
ومن هذا المنبر أنادي بضرورة استخدام وتوظيف أساليب التقويم البديل متعدد الأدوات بنظام البكالوريا المصري؛ لأن ذلك سوف يسهم في تنمية المهارات الاجتماعية لدى الطلاب بصورة مقصودة؛ فهناك مهارات تشاركية تعتمد على الأداء الجماعي، وهذا التعاون يؤدي بالطالب إلى أن ينمو نموًا تعليميًا صحيحًا.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.