مشوار طويل يبدأ بمحضر فى قسم الشرطة به تحريات، ثم تحقيق فى النيابة، ثم تحديد جلسة أمام القاضى، أو بطريق الادعاء المباشر بتقديم الدعاوى على اختلافها أمام المحكمة المختصة من وجهة نظر رافعها، فليس هناك ذنب للقاضى أن ينظر دعوى مضمونها تافه ويصدر فيها حكما، بل بالعكس القانون يمنعه من عدم نظر هذه القضية التى غالبا ما تأخذ صخبا إعلاميا أكثر من مضمونها.
والموضوع يبدأ بمجرد تقديم البلاغ، فتجد عنوانا رئيسيا فى الصحف: بلاغ يتهم فلانا بالعمالة أو الخيانة أو أى شىء، وهنا، وبحكم القانون، يجوز لأى شخص أن يكتب ورقة تحوى أى كلام ضد أى شخص ويقدمها للنائب العام الذى هو أيضا مجبر على نظرها لتقدير أهميتها، وهى المرحله الأولى للتحقيق التى يصاحبها دائما خبر «النائب العام يحقق فى بلاغ ضد فلان» بتهمة عندما تقرأها تصاب بغضبك على النيابة العامة نتيجة جهل بالقانون فلابد أن تعرف أن دور النيابة أن تحقق فى كل البلاغات دون النظر إلى أهميتها، وهو الأمر الذى يختلط على الكثيرين، فمجرد عرض الموضوع على النيابة، نعم هو إجراء من إجراءات التحقيق، إلا أنه لا يعنى بالضرورة أن تقتنع النيابة بالبلاغ وتستدعى أطرافه أو تتخذ أى إجراء جدى فى بلاغات أصبح المعروف عنها أنها لمجرد الشو الإعلامى، لكن المجتمع يتعامل مع الخبر الصحفى وهو معذور.
لكن نفترض أننا أمام بلاغ جاد فما هى الخطوات؟
نأخذ مثالا واحدا فى القضايا الجنائيه:
ممثل النائب العام يأتى إليه ضابط الشرطة ممسكًا بشخص متلبس بارتكاب جريمة أو يطلب ضابط الشرطة الإذن له بالقبض على شخص وتفتيش مسكنه بناء على تحريات يقدمها إلى النيابة للحصول على هذا الإذن، وهنا يبدأ عمل العنصر الأول للعدالة المنشودة «الشرطة» وهل تحرت الدقة فى تحرياتها؟ وهل لم يكن هناك كيل بمكيالين؟ وهل الإجراء بهدف الحفاظ على الأمن أم للانتقام السياسى أو الشخصى؟ وهل تأكد الضابط من التحريات أم اعتمد على أمين الشرطة والمخبرين؟ وهل أتت بالأحراز موضوع الجريمة معها أم وجدتها فعلا مع المتهم؟
ويمكن أن تقول: إن النيابة منوط بها مراقبة هذه التحريات وجديتها.. نعم، لكن مع هذا الكم من الجرائم والبلاغات أصبحت الأدوات التى لدى النيابة محدودة فى هذا الأمر، إذًا يُقبض عليك وتُقتاد إلى النيابة بضمير الشرطة بكل درجاتها أو يُستأذن فى القبض عليك بضمير الشرطة فى التحريات وبرقابة النيابة، كل ذلك دون أن يتم سؤالك بأى سؤال اللهم إلا محضر استدلال فى الشرطة لا يؤثر فى حتمية عرضك على النيابة فى نفس اليوم أو فى اليوم التالى، وهنا ستصبح ضيفًا فى أحد أقسام البوليس لحين عرضك على النيابة، وأنت وحظك فى كرم الضيافة، ثم يبدأ عمل النيابة العامة فى سؤال المتهم والشهود والمجنى عليه، وأيضا تطلب النيابة تحريات الشرطة عن الواقعة.
والطبيعى أن ينكر المتهم ويؤكد المجنى عليه الواقعة ويبقى للنيابة أن تقتنع أن لا جريمة، فتحفظ البلاغ أو أن تحيل القضية إلى القاضى، لكن ضع فى اعتبارك أن عضو النيابة ينظر عددا مهولا من القضايا فى ظروف عمل قاسية وممتدة لساعات طويلة ومعاينات وحضور جلسات، والتزام بقرارات محاكم، وإشراف على الأقسام والسجون، وأشياء كثيرة، وفى ظروف قاسيه يعمل فيها.
وكثير من الدول المتقدمة كى تصبح فيها وكيلاً للنائب العام لابد أن تدخل مدرسة متخصصة لهذا المنصب النجاح فيها يكون صعبا جدا، لكن للأسف نحن نكتفى ببعض التدريبات والخبرة العملية التى تنتقل من جيل لآخر والتى تعتمد على مركزية القرار فى مكتب النائب العام فى نهاية أى رأى فى قضية، وهذا لا يخالف صحيح القانون، لكن أعتقد أنه يحتاج إلى تصويب.
وفى بلد مثل فرنسا (بقول فرنسا) دائما ما يكون هناك خط تماس بين السلطة التنفيذية والنيابة العامة، نعم فرنسا أم القانون أحيانا يكون هناك تنسيق بين النائب العام ورئيس الدولة، وهذا حدث فى مواقف كثير، وهذا أمر غير قانونى إلا أنه أمر واقع فى عدد من الدول.
نسيت أقول لحضرتك إن فى بعض القضايا ممكن التحريات تتكتب من أمين شرطة، وإن ممكن أجيبلك شهادتين تلاتة من أى حتة لزوم ما الورق يبقى متستف قدام السيد وكيل النيابة وكله بالقانون، كذلك يمكن أن تمر القضية على الخبراء وهم أهل الخبرة العلمية فى كل المجالات ويتبعون وزارة العدل ودورهم لا يقل أهميه أبدا عن القاضى فتقاريرهم وآراؤهم العلميه دائما ما ترجح رأيا لدى المحاكم، وعليك أيضا أن تنظر إلى أحدهم وهو يدلى برأى فى قضية بملايين الجنيهات وهو يجلس فى مكتب به من الملفات ما يكفى للإصابه بكل الأمراض المزمنة، أو تطلب منه أن يطبق البحث العلمى لإبداء رأى فى مكان عمل هو أبعد ما يكون عن العلم، لكن فى النهاية على الخبير أن يقدم تقريره مهما كانت الظروف، والقضية دايما تؤجل بسبب أن التقرير لم ينته، لكن كاتب التقرير نفسه يحتاج إلى قضية كى يأخذ حقه، وبعد ذلك يأتى دور القاضى بعد أن تحال القضية من النيابة، يسمع الشهود ويقرأ الأوراق وله حق تحقيق القضية من أولها لآخرها مرة أخرى وقراراته أثناء المحاكمة ملزمة للجميع.
لكن كيف يعمل هذا القاضى وفى أى ظروف؟ قاضى محكمة الجنح مثلا مطلوب منه أن ينظر خمسمائة قضية فى اليوم فى غرفة أربعة أمتار فى تلاتة فى عز الحر وقدامه أطراف كل هذه القضايا بيتزاحموا عشان منتظرين دورهم وحرس المحكمة والموظفون، وعليه أن يسيطر على كل هؤلاء ويركز ويقرأ ويحكم بالعدل.
علينا أن ننظر إلى قاعات المحاكم المصرية (مش اللى بتطلع فى التليفزيون) الأمر فعلا يحتاج إلى وقفة لأن تهيئة المكان المخصص للقاضى جزء مهم جدا من عمله.
أحيانا كنت أجد حرجا كبيرا عندما أرى مشاهد المحاكم المصرية فى صحف وقنوات عالمية، فالمقارنة حقيقة صعبة.
كذلك علينا أن ننظر إلى حال القاضى نفسه، ليس من المعقول أن يأتى القاضى إلى المحكمة فى وسيلة مواصلات عامة يكون قاعد جنبه المتهم اللى رايح يحكم عليه، فلابد أن يأتى بوسيلة مواصلات خاصة تحفظ له هيبته وكرامته، وهنا ندخل على ماذا توفر الدولة للقضاة من حياة كريمة؟ والدولة تعنى الحكومة ووزارة المالية، يعنى القاضى اللى هيحكم بين الحكومة والناس يعود إلى الحكومة ووزارة العدل فى مخصصاته ودى جريمة فى حق العدالة، ولا بد أن يكون مجلس القضاء الأعلى دون غيره هو الذى تسلم له المبالغ المحددة من موازنة الدولة دون أى رقابة من أى جهة ولا دخل لوزارة العدل إطلاقا فى أى شىء يتعلق بالقضاة أو المحاكم من الناحية المادية، إعمالا للاستقلال الحقيقى للقضاء.
فمن هذا الذى يصلح لرقابة من يحكمون بين الناس؟ وأستعجب عندما يثور البعض عندما تقرر الزيادة لمرتبات القضاة؟ فكيف تحقق استقلالهم وكيف تطلب منهم العمل لساعات تفوق عمل أى موظف فى الدولة؟ وكيف تطلب منهم المظهر المشرف؟ لو كان الأمر بيدى لأعطيت القضاة كل ما يكفى لحفظ كرامتهم وإنسانيتهم، وهو عنصر مهم جدا فى تحقيق العدالة.
لكنى فى ذات الوقت لا أقتنع إطلاقا أن يعتلى القاضى منصة القضاء دون الدراسة فى مدرسة القضاة، وهو أمر متبع فى كثير من الدول الراقية، معهد للعلم تكون الدراسة فيه لسنوات وبه امتحانات صعبة ولا يتخرج فيه إلا من يستحق لغة وذكاء واطلاعا وعلما وتخصصا، وسيرد البعض بأن لدينا معهد للقضاة واسأل القضاة أنفسهم إذا كان هذا كافيا ومرضيا لطموحاتهم وأعتقد أن الإجابه ستكون بلا.
نعم، أيها السادة، هذه مشكلة كبيرة.. العلم والتعليم ليس عيبًا ولا يمكن أن يعتلى قاضٍ منصة القضاء فى منحى من مناحى القانون دون علم زائد عن الجميع وإجازة علمية لا ترقى لأحد سواه، ولا يكتفى بالاطلاع والقراءة والدورات التى تنظم هنا أو هناك، ولا يمكن بأى حال من الأحوال أن نرى القضاة فى وسائل الإعلام لأى سبب ومهما كان، وأتمنى من مجلس القضاء الأعلى أن يعاود التنبيه على ذلك، ولعل قضاة مجلس الدولة هم الأكثر التزامًا فى هذا الأمر، ولا يمكن أن تخرج كلمة أو لفظ من قاض وهو على منصته أو فى حديث صحفى تكون حجة لاتخاذ إجراءات الرد ضده. ولا يقبل ولا يفهم أن يكون ابن القاضى بالضرورة قاضيًا أو أن تكون وظيفة والده دافعًا يميزه عن زملائه فى الوصول إلى القضاء، فهذا ظلم فى بداية مشوار العدل.
هناك أيضا معاونو القضاة من سكرتارية الجلسات وموظفى المحاكم، والأوراق والخطوط وكيفية الكتابة وكيفية تسجيل ما يدور فى الجلسات والمحضرين ورؤساء الأقلام، وهذه وظائف حكومية بحتة مشاكلها مثل كل مشاكل موظفى الجهاز الإدارى للدولة، إلا أن الفارق أن كل واحد من هؤلاء هو أيضا شريك فى تحقيق العدل.
إذا أردتم إصلاح منظومة العدل فعليكم أن تنظروا إلى كل العوامل التى تؤثر فى العدالة، لكن أن نحمل القضاة وحدهم هذه المسؤولية فهذا ظلم كبير، نعم عليهم جزء كبير من المسؤولية، نعم عليهم أن يبتعدوا عن السياسة، نعم عليهم ألا ينزلوا من منصتهم العالية فى قضايا الشارع، نعم عليهم أن يحكموا بين أبناء الشعب فى دخول سلك القضاء دون تمييز لأبنائهم، نعم عليهم مواجهة السلطة التنفيذية وأى محاولة للتدخل فى شؤونهم.
لكن ليسوا وحدهم من يمكن سؤالهم عن بطء التقاضى أو عن عدم دقة العمل، لأنهم يعملون وسط دولة ووسط منظومة ليس الضمير هو العامل الأول فيها، ومطلوب منه كقاضٍ أن يدقق وراء عمل كل هؤلاء، وإذا حكم القاضى فإن حكمه سيكون على ورق ممهور بخاتم الدولة بعد هذا المشوار الطويل فى المحاكم، ونعود كما بدأنا إلى الحكومة أو الشرطة لتنفيذ الحكم وأعمال القانون، وهنا أيضًا تتدخل عوامل كثيرة أمنية ومادية ومحسوبية، وحدث ولا حرج، فهناك أحكام قضائية لم تنفذ منذ سنوات.
أيها السادة.. لا يمكن أن يصلح حال القضاة أو القضاء إلا القضاة أنفسهم، وهم فى هذا الشأن ليس عليهم أن يستجدوا أحدا أو يقدموا الطلبات انتظارا للرد، بل عليهم وبصوت مرتفع أن يطلبوا ويستجاب لهم فورا، لكن بعد إصلاح البيت من الداخل علمًا وعملاً، وإنهاء الخلافات، والرجوع إلى ميثاق حاكم لا يعلم عنه المواطن شيئا، ويبقى فى محراب العدالة أى اختلاف ويخرج القضاة بكلمة واحدة كبيرهم وصغيرهم، فى هذه اللحظة فقط ستتم الاستجابة لصوتهم الذى سيصبح صوتا واحدا كان ومازال وسيظل يمثل العدل فى مصر كواحدة من الدول صاحبة التاريخ الأصيل فى القضاء التى علم قضاتها كثيرا من الدول كيفية تطبيق القانون.
البداية من القضاة أنفسهم ونحن جميعا خلفهم
حتى أحق الحق لابد أن أتكلم عن المحاماة مهنتى الراقية كجزء من المنظومة، لكن هذا سيكون فى مقال آخر، لأن فى الصدر الكثير، ولأن الواقع يحتاج إلى تغيير، ولأنى أحتاج إلى صفحات كثيرة لما أحلم به لهذه المهنة العظيمة، وإلى أن يتحقق كل ما نتمناه فى منظومة العدالة.. إن أردت السؤال عن العدل فاسأل رب العباد العدل الحق ولا تسأل سواه.
موضوعات متعلقة..
- خالد أبو بكر يكتب : "ألفين سلام وتحية للهيئة الهندسية".. إنجاز ودقة فى العمل بصناعة مصرية خالصة.. وكلمة السر "تمام يافندم"
- خالد أبو بكر يكتب: ويسألونك عن الاستثمار.. قل: "كلام وصور ومعزة وفرختين.. الاستثمار يعنى "اطمئنان".. يعنى "وقت لا يضيع فى بيروقراطية".. و"أكسب وأنت كمان تكسب"