بعد الحرب تحولت منذ الأربعينيات مصر إلى مقر لأهم الاجتماعات الدولية فى فترة حاسمة من التاريخ، رسمت حدودًا جديدة لخريطة العالم، حيث عقد الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت عام 1943 مؤتمر القاهرة الأول، بمشاركة الزعيم البريطانى ونستون تشرشل، والزعيم الصينى شاينغ كايشيك، أعقبه بأيام اجتماع القاهرة الثانى بين «روزفلت» و«تشرشل» بمشاركة الرئيس التركى «إينونو».
كانت الولايات المتحدة تلتفت بحثًا عن الشركاء الجدد فى المنطقة، الذين برزت أدوارهم، وفى فبراير 1945، وقبل 72 عامًا من القمة المرتقبة بين الرئيس عبدالفتاح السيسى، والرئيس الأمريكى دونالد ترامب، بدأت واشنطن توثيق علاقاتها مع القاهرة والرياض، حيث عقد «روزفلت» على ظهر سفينة حربية فى قناة السويس مع الملك عبدالعزيز آل سعود اجتماعهما الأول، كما اجتمع فى الزيارة نفسها مع ملك مصر والسودان فاروق الأول فى منطقة البحيرات المرة.
وإيمانًا بدورها الاستراتيجى خطت الولايات المتحدة خطوة تلو الأخرى نحو مصر، التى كانت لا تزال فى ذلك الحين تحت الاحتلال البريطانى، وفى إبريل 1947 زار رئيس أركان الجيش المصرى القواعد العسكرية والمصانع الأمريكية، وفى سبتمبر من العام نفسه طلبت مصر رسميًا بعثة عسكرية أمريكية لتدريب القوات المصرية، فى وقت بدأ فيه التوتر بين القاهرة والمحتل البريطانى يتصاعد، فى ظل تفاقم مشكلة فلسطين، والرغبة المصرية فى نيل الاستقلال. تابعت واشنطن عن كثب تصاعد الاضطرابات الداخلية، وانتشار فساد الملكية فى مصر، وصولًا إلى حريق القاهرة فى يناير 1952، فبدأ الخوف الأمريكى من استغلال الحركة الشيوعية تلك الأحداث، والقفز على السلطة، وبدأ السفير الأمريكى لدى القاهرة، جيفرسون كافرى، فى التحرك العلنى، وعقد اجتماعات مع عدد من الأطراف، تردد أن الضباط الأحرار كانوا من بينهم. ومارست واشنطن ضغوطًا على حليفتها بريطانيا على أساس أن وجود التوجه الاستعمارى قد يضر بمواقفهما لصالح الاتحاد السوفيتى، لتبدأ أمريكا فى التحول نحو القادة الجدد فى مصر، وتبدأ صفحات التاريخ تدوين عقود من العلاقات التى شهدت تواصلًا وانقطاعًا وتحالفًا وصداقة ستستمر مادامت مصر قائمة، وما دام فى البيت الأبيض رئيس يدير الولايات والملفات.
الأمريكان وثورة يوليو.. محاولات لاستقطاب «الوافدين الجدد»
«النظام القديم فى مصر سقط، ونظام ثورى جديد قد قام يستهدف تحقيق الأمانى الوطنية للشعب المصرى».. تلك كانت الرسالة التى تلقتها السفارة الأمريكية فى صباح يوم 23 يوليو 1952، بعد نجاح الثورة، وأوفد مجلس قيادة الثورة على صبرى مبعوثًا خاصًا للسفير الأمريكى لدى القاهرة، لطمأنتهم على مصالحهم، وتحييد الجانب الأمريكى. فى انحياز تشوبه الشكوك، أقدمت الولايات المتحدة، برئاسة هارى ترومان، على تأييد ثورة يوليو، فى محاولة لتحييد القادمين الجدد فى السلطة داخل مصر، أن لم يكن استقطابهم فى صف واشنطن فى حربها الباردة ضد السوفيت، إلا أن الشروخ تسللت سريعًا إلى العلاقات المصرية- الأمريكية حتى قبل أن تبدأ. ومع زيارة وزير الخارجية الأمريكى آنذاك، جون فوستر دالاس، لمصر بعد انتخاب «أيزنهاور» رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، بدأ الفتور يدب فى العلاقة الوليدة، بعد أن حمل معه أفكارًا لتطويق الاتحاد السوفيتى، كان أبرزها فكرة إنشاء حلف بغداد، لكن لقاء «دالاس» بجمال عبدالناصر عصف بكل ما تمناه خلال رحلته من واشنطن للقاهرة، فالرئيس المصرى كان يرى فى تلك الأفكار الأمريكية استعمارًا جديدًا، وسعيًا لتشتيت ترابط الدول العربية، وانتهى اللقاء، ومعه حماس الطرفين.
واشنطن ومعركة «السد العالى»
ويظل السد العالى شاهدًا على مرحلة مهمة من مراحل الصراع الأمريكى المصرى، ومحاولات واشنطن فرض النفوذ، ويحكى كتاب «سنوات وأيام مع جمال عبدالناصر» شهادة سامى شرف عن تلك الحقبة من تاريخ مصر، حيث بدأت فكرة بناء السد العالى فى الظهور عام 1953، عندما قرر مجلس قيادة الثورة أن يهتم بالتنمية، وإزالة العقبات من أمامها. وفى سبتمبر 1955 أعلنت الشركات الألمانية والفرنسية والبريطانية تحمسها لتقديم عروض لتنفيذ المشروع، وهو ما دفع الدوائر السياسية الأمريكية للاهتمام بالمشروع، لكن إعلان السفير السوفيتى بالقاهرة استعداد السوفييت الإسهام فى المشروع، أدى لفزع لدى الغرب، وأعلنت الخارجية الأمريكية فى ديسمبر 1955 اتفاقًا يقضى بأن يتولى كل من البنك الدولى وواشنطن وبريطانيا التمويل بتكلفة 1.3 مليار دولار.
وحمل عرض التمويل الأمريكى شروطًا، من بينها فرض رقابة على المشروعات الاقتصادية الأخرى، ورقابة على مصروفات الحكومة، والاتفاقيات الأجنبية، والديون الخارجية، واشترط ألا تقبل مصر قروضًا أخرى، أو تعقد اتفاقيات فى هذا الشأن إلا بعد موافقة البنك الدولى، مع الاحتفاظ بحق إعادة النظر فى سياسة التمويل فى حالات الضرورة.
وأثارت هذه الشروط غضب عبدالناصر، وأنتج ذلك كله حالة فقدان الثقة فى إمكانية معاونة الولايات المتحدة فى تنفيذ المشروع، لكن «ناصر» حرص على تفادى المواجهة لآخر لحظة، حتى يتكشف الموقف الأمريكى بوضوح فى ضوء الرسائل المتكررة التى حملتها القنوات الخلفية، والزيارات الرسمية للمسؤولين الأمريكيين، والتى أكدت إصرار الجانب الأمريكى على التحكم فى سياسات الثورة، ودفعها إلى مسار يخدم الاستراتيجية الأمريكية ومصالح الغرب، خاصة فيما يتعلق بالتفاهم مع إسرائيل.
اوباما
وما أن تأكد «عبدالناصر» من ظنونه تجاه الأمريكان، حتى جاء الرد حاسمًا بقرار تأميم قناة السويس فى يوليو 1956، وبدء العمل فى السد العالى. وبمرور السنوات، ومع انقضاء العدوان الثلاثى، وتحديدًا فى عام 1963، زار ريتشاد نيكسون مصر، وكان حينها مبعوثًا للرئيس الأمريكى جون كيندى، ورأى حجم العمل فى السد العالى، وقال فى لقائه مع «عبدالناصر»: «رأيت اليوم أفدح خطأ ارتكبته أمريكا، لقد اعتصر الألم قلبى عندما رأيت السوفيت يعملون جنبًا إلى جنب معكم فوق السد، فلولا دالاس لكان هناك أمريكيون على هذه الأرض».
«القمح» و«النكسة» يقودان القاهرة وواشنطن لـ«طريق مسدود»
فى 1965، كانت العلاقات المصرية- الأمريكية على موعد مع «صيف ساخن جدًا»، علّق عليه الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل فى أحد مقالاته قائلًا: «كانت واشنطن تهيئ مسرح العمليات فى الشرق الأوسط لما يمكن تسميته بمعركة القمح».
جذور المعركة تعود إلى القانون 480 الذى أصدرته واشنطن عام 1954، لتصريف فائضها الزراعى الذى كان غير مرغوب فيه، ببيعه لبعض الدول بالعملة المحلية، واستغلال تلك العملة لاحتياجات الولايات المتحدة داخل تلك الدول، وعلى الجانب الآخر يمكن لذلك أن يفتح بابًا للتأثير السياسى. وبدأت مصر تستفيد من هذا القانون بدءًا من العام 1959، بالتزامن مع توتر خاطف مع السوفييت، نتيجة للخلاف مع نظام عبدالكريم قاسم فى العراق، ووقوف الشيوعين وراءه فى معركة استهدفت الوحدة بين مصر وسوريا، وبموجب أول اتفاقية غطت مصر احتياجها من القمح لمدة ثلاث سنوات حتى العام 1961، وفى العام 1962 تم تجديد الاتفاقية لمدة ثلاث سنوات، إلا أن أحداث العامين التاليين أعادت العلاقات إلى أزمة جديدة. اشتعلت الحرب فى اليمن، وقرار «عبدالناصر» إرسال قوات مصرية لدعم الثورة اليمنية التى أطاحت بالنظام الملكى الموالى للمملكة العربية السعودية، وهو ما اعتبرته الولايات المتحدة ضغطًا على السعودية، الحليف الاستراتيجى لها بالمنطقة، وكانت مصر حققت خطوات مثيرة فى مجالات إنتاج الصواريخ والطائرات والأبحاث النووية، التى كانت محظورة على العرب من وجهة النظر الأمريكية.
«إن القمح هو وسيلتهم الوحيدة لتكون لهم فى القاهرة كلمة».. هذه الجملة التى قالها «عبدالناصر»، كشفت مدى إدراك مصر للخطة الأمريكية، وفى هذا الإطار استنجد «ناصر» بحلفائه السوفييت، وانتهز فرصة زيارة وزير الكهرباء لتفقد أعمال السد، وقال له: «أعرف مشكلة الزراعة لديكم وأنكم استوردتم القمح، لكننا نريد جزءًا بسيطًا منه، ولكن قيمته ستكون كبيرة فى إحباط المناورات»، وأضاف الرئيس المصرى: «أمامهم الحرب النفسية وقد مارسوها، والقوة المسلحة، لإرغامنا على قبول سياستهم، لكنهم لن يقدموا عليها بعد درس السويس، إذن لا يتبقى أمامهم ألا خطر التجويع، وهذا فخ علينا ألا نقع فيه». ولم يخذل الحليف السوفيتى «عبدالناصر»، حيث صدر إعلان من موسكو مفاده أن الأوامر صدرت لعدد من البواخر كانت فى طريقها عبر البحر الأبيض إلى ميناء أوديسا، حاملة شحنات قمح، بأن تغير مسارها إلى الإسكندرية وتفرغ حمولتها هناك، وحينها علق الزعيم الراحل قائلاً: «إن الحرية التى اشتريناها بدمائنا لن نبيعها بالقمح أو الأرز، لقد أوقفوا معونات القمح الأمريكية لأننا نتحدث عن إسرائيل، ونفكر فى إنتاج الصواريخ والأسلحة الذرية».
كانت العلاقات المصرية- الأمريكية تحيطها الشكوك، وفى 1966 رفض «عبدالناصر» دعوة الرئيس الأمريكى ليندون جونسون لزيارة الولايات المتحدة، وحتى حين وافق وأرسل أنور السادات، فى محاولة لوقف تدهور العلاقات، لم تأت تلك الزيارة ثمارها.
وفى محاولة أمريكية لاستقطاب «عبدالناصر»، استقبل «جونسون» وأسرته منى عبدالناصر وزوجها فى الولايات المتحدة، وحملها رسالة مفادها أنه يريد أن يكون صديقًا لوالدها، إلا أن الرسالة لم تلقَ صدى مبكرًا لدى نظام الزعيم الراحل. وبدأ «جونسون» مرحلة جديدة من دعم إسرائيل، وتزويدها بالأسلحة المتقدمة، وخفض أمد اتفاق تزويد مصر بشحنات القمح من سنة إلى ستة أشهر، ثم إلى ثلاثة أشهر. وفى العام التالى كان الطلاق بين القاهرة وواشنطن بينًا ولا رجعة فيه، بعد عدوان إسرائيل فى يونيو 1967، ليرد «عبدالناصر» باتهام «جونسون» صراحة بالتواطؤ مع الاحتلال، ويقطع العلاقات الدبلوماسية مع أمريكا.
أيام السادات
من النقيض للنقيض، كان ما جرى فى العلاقات المصرية الأمريكية بعد وفاة «عبدالناصر»، ووصول أنور السادات للحكم. كان ميل السادات لواشنطن واضحًا قبل الوصول للرئاسة، وهو ما ظهر فى زيارته لأمريكا فى فبراير 1966، بصفته رئيس مجلس الأمة آنذاك، وحظيت الزيارة باهتمام لافت من جميع الأوساط ودوائر واشنطن السياسية، حيث التقى خلالها السادات الرئيس الأمريكى، ووزير الخارجية، ورئيس مجلس النواب، ورؤساء اللجان البرلمانية، وغيرهم من المسؤولين الأمريكان.
وعندما تسلم «السادات» الحكم ظلت العلاقات المصرية- الأمريكية مجمدة، وفى مايو 1972 اتخذ «السادات» قرارًا بتخفيض عدد أعضاء البعثة الأمريكية بمصر إلى النصف، والأمر نفسه بالنسبة لأعضاء البعثة المصرية فى الولايات المتحدة، بسبب دعم واشنطن للعدوان الإسرائيلى. «اللى فات مات».. جمله تعمد أن يقولها هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية، باللغة العربية فور نزوله من الطائرة التى حملته من واشنطن للقاهرة فى نوفمبر 1973، تعبيرًا على انتهاء القطيعة بين الطرفين، تلك العبارة التى فتحت الباب على مصراعيه للانفتاح المصرى على أمريكا فى مرحلة ما بعد السلام.
وبعد حرب أكتوبر 1973، وما تخللها من نجاح لخط البترول العربى، جاء هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية، إلى مصر، والذى اقترح إرسال كميات من القمح إلى القاهرة كتعبير عن حسن النوايا، ثم بدأت مرحلة جديدة من أشكال المعونة الأمريكية.
وفى إحدى كتاباته، علق محمد حسنين هيكل على زيارة «كيسنجر» إلى القاهرة، بقوله: «لقى استقبالًا حارًا من الجميع، وفى الصالون الرئيسى فى قصر الرئاسة، بحضور حافظ إسماعيل، وإسماعيل فهمى، وأشرف غربال، المشرف على مكتب شؤون المصالح المصرية فى واشنطن، دخل السادات مرتديًا زيه العسكرى، وبدأ الجزء الرسمى من الاجتماع، وبعد دقائق التفت السادات لأعضاء الوفدين، وقال لهم أنه سيأخذ الدكتور كيسنجر إلى اجتماع مغلق بينهما، وحدث، واستمر اجتماعهما معًا ثلاث ساعات، وفى ربع الساعة الأخير منه انفتح باب الصالون الذى كانا فيه وحدهما، ليتم اعلان ما عُرف بـالنقاط الست لفك الارتباط، بعد موافقة السادات عليه».
واشتملت النقاط الست- بحسب رواية هيكل- على توافق مصر وإسرائيل على الاحترام الدقيق لوقف إطلاق النار الذى أمر به مجلس الأمن، ويوافق الطرفان على مناقشة موضوع العودة إلى مواقع 22 أكتوبر، فى إطار الموافقة على الفصل بين القوات المتحاربة، تحت إشراف الأمم المتحدة، وتتلقى مدينة السويس يوميًا إمدادات من الغذاء والماء والدواء، وجميع الجرحى المدنيين فى مدينة السويس يتم ترحيلهم، ويجب ألا تكون هناك أى عقبات أمام وصول الإمدادات غير العسكرية للضفة الشرقية، ونقط المراقبة الإسرائيلية على طريق القاهرة السويس تستبدل بها نقط مراقبة من الأمم المتحدة.
ومنذ تلك الزيارة تولدت العلاقة التى وصفها البعض بصداقة بين «السادات» و«كيسنجر»، حيث عاود زيارة القاهرة عشر مرات خلال أقل من عامين، فى ديسمبر 1973 لإجراء مباحثات مع «السادات» حول أهداف مؤتمر جنيف، ثم فى يناير 1974 لبحث الفصل بين القوات المصرية والإسرائيلية على جبهة السويس، وفى فبراير 1974 المباحثات تطرقت إلى صدور قرار بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية.
زيارات تدفع العلاقات
ومع التقارب المصرى- الأمريكى، كان طبيعيًًا أن يقدم الجانبان على إعادة العلاقات فى مارس 1974، وبعد أشهر من العام نفسه، تحديدًا فى يونيو، أجرى ريتشارد نيكسون زيارة لمصر، وبحث مع «السادات» قضايا المنطقة، ومستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين.
وفى تطور سريع للعلاقات شهد فبراير من العام 1975 توقيع اتفاقية بين مصر وأمريكا للتعاون الاقتصادى، تحصل بها مصر على قرض 80 مليون دولار، لتمويل الواردات الزراعية والصناعية، وفى سبتمبر 1976 تم توقيع 4 اتفاقيات اقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية، تتلقى مصر بمقتضاها قرضين قيمتهما 89 مليون دولار، إلى جانب منحتين قيمتهما 11 مليون دولار، وفى مارس 1977 تم توقيع اتفاق مصرى أمريكى فى القاهرة بشأن مبلغ الـ500 مليون دولار الذى وافق الكونجرس على تقديمه لمصر بصفة عاجلة فى شكل قرض سلمى، وفى يونيو 1977 تمت موافقة لجنة الاعتماد التابعة لمجلس النواب الأمريكى على تقديم مساعدات لمصر قيمتها 750 مليون دولار، وفى فبراير 1978 موافقة الولايات المتحدة على السماح لمصر بشراء 1500 ناقلة جنود مدرعة من طراز «بى كى»، و1500 ناقلة أخرى من طراز «M 112».
وعلى الرغم من قصر فترة حكمه، فإن «السادات» تردد على الولايات المتحدة كثيرًا، وجاءت أول زيارة فى أكتوبر 1975 لبحث تطورات أزمة الشرق الأوسط، ودعم التعاون بين البلدين، وإمداد مصر بالأسلحة الأمريكية المتقدمة، كما ألقى الرئيس المصرى فى نوفمبر 1975 خطابًا أمام الكونجرس الأمريكى حول الأزمة فى الشرق الأوسط، وفى إبريل 1977 كانت بداية المباحثات بين «السادات» والرئيس الأمريكى جيمى كارتر فى واشنطن، إلى أن جاءت زيارة «السادات» التاريخية إلى أمريكا فى عام 1978 من أجل التفاوض لاسترداد الأرض، وتحقيق السلام كمطلب شرعى لكل دولة، وخلال هذه الرحلة وقّع اتفاقية السلام فى «كامب ديفيد»، برعاية الرئيس الأمريكى جيمى كارتر، وقد وقّع معاهدة «كامب ديفيد» للسلام بين مصر وإسرائيل مع كل من «كارتر»، ورئيس الوزراء الإسرائيلى مناحيم بيجن عام 1979، والتى عملت إسرائيل على أثرها على إرجاع الأراضى المصرية المحتلة إلى مصر.
«كامب ديفيد»
عندما قال «السادات»: «%99 من أوراق اللعبة فى يد أمريكا، وهذا لا يعنى أننا مالناش دور.. لا.. إطلاقًا.. بل الأساس هو إرادتنا أو هو وضوح الرؤية أمامنا»، كان يعلم جيدًا كيف تدار الأمور دوليًا، وكيف سيصل إلى هدفه، وهنا قرر أن يذهب إلى «كامب ديفيد» فى سبتمبر 1978، للدخول فى مفاوضات مع الوفد الإسرائيلى على أساس قرار مجلس الأمن 242، واستمرت المحادثات 12 يومًا، ودارت حول ثلاثة محاور رئيسية، هى الضفة الغربية وقطاع غزة، وعلاقات مصر وإسرائيل، وعلاقة إسرائيل مع الدول العربية.
وأمام تصلب الموقف الإسرائيلى أعلن «السادات» انسحابه من «كامب ديفيد»، إلا أن وزير الخارجية الأمريكى، سايروس فانس، نصحه بأن يلتقى بـ«كارتر» على انفراد، واجتمع الرئيسان، واستمرت المحادثات إلى أن تم التوقيع على الاتفاقية فى 26 مارس 1979.
وفى احتفالات نصر أكتوبر عام 1981، وبعد أن اطمأنت واشنطن إلى علاقاتها وتفاهماتها مع القاهرة، كان الجميع على موعد مع حدث غير متوقع، هو اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، ليبدأ البلدان صفحة جديدة من العلاقات، ربما تكون الأطول والأقل توترًا، إلا أنها لم تخلُ أيضًا من الشد والجذب.
ليندون-جونيسون
«مبارك» والأمريكان.. تقارب أفسده عمر عبدالرحمن
وتعد حقبة الرئيس الأسبق حسنى مبارك، التى اجتازت ثلاثة عقود، الأكثر هدوءًا واستقرارًا فى تاريخ العلاقات المصرية- الأمريكية، حيث أكمل الطريق الذى بدأه «السادات»، وطوره إلى علاقات استراتيجية، وأصبح «مبارك» الحليف الأكثر قربًا لدى واشنطن على اختلاف رؤسائها على مدى ثلاثين عامًا، إلى أن تخلت عنه فى أعقاب ثورة 25 يناير، وطالبته بالتخلى عن الحكم، ودعمت الإخوان.
وكان الرئيس «السادات» هو الذى ابتدع فكرة الزيارة السنوية لأمريكا للقاء قيادات الكونجرس، والخارجية، والبيت الأبيض، بناء على نصيحة من سفير مصر لدى واشنطن آنذاك، أشرف غربال، وسار «مبارك» على الدرب نفسه، حتى أنه على مدى الـ20 عامًا الأولى لحكمه زار أمريكا خلالها 31 مرة، وهو عدد قياسى.
وبرغم كثرة الزيارات، فإن زيارته إلى واشنطن عندما كان نائب الرئيس «السادات» قبل اغتياله بفترة وجيزة، هى الزيارة التى ظلت تطرح علامات استفهام حولها، وقال «السادات» لأشرف غربال: أحضر مع «مبارك» كل مقابلاته فى أمريكا، وأرسل «غربال» لـ«السادات» أنه حضر مع «مبارك» جميع مقابلاته عدا مقابلته الوحيدة مع مدير الـ«CIA»، وغضب «السادات»، وعبّر عن غضبه بشدة لنائبه حسنى مبارك لدى عودته من أمريكا.
ولم ترتق أى مواقف بين مصر وأمريكا إلى مستوى الخلافات، بل كانت تظل اختلافًا فى وجهات النظر يمكن تجاوزها، وكان الاحتكاك الأول فى عام 1985، مع رونالد ريجان، وذلك بعدما أقدمت الطائرات المقاتلة الأمريكية على اعتراض طائرات مدنية مصرية كانت تقل القائد الفلسطينى «أبوالعباس»، وإجبارها على الهبوط فى إيطاليا، إلا أن مصر استطاعت احتواء الأزمة العاصفة مع إدارة أمريكية جديدة، بعدما أمنت مع رئيس وزراء إيطاليا عدم تسليم «أبوالعباس».
وانتقلت الخلافات بين القاهرة وواشنطن إلى العلن، بسبب مساندة «الأصوليين» العرب، وانتقدت مصر بشدة تلك المواقف، خاصة دعم واشنطن لمن وجهوا أعمالهم الإرهابية تجاه مجتمعاتهم، ووصلت الأزمة ذروتها بعد اغتيال رئيس البرلمان المصرى السابق رفعت المحجوب.
السادات
وارتفعت حدة الخلافات بين الطرفين حين استقبلت أمريكا الشيخ عمر عبدالرحمن، زعيم الجماعة الإسلامية، ومنحته تأشيرة دخول وإقامة دائمة. ولم يتوقف الرئيس «مبارك» عن التحذير من خطورة التساهل مع الإرهاب، وحذر مرارًا من أن مصر وبقية الدول العربية ليست وحدها التى تعانى، بل أن الأمر سوف يمتد ليطال الغرب نفسه. ولم يتعاون الأمريكيون فى هذا الملف إلا بعد شعورهم بالخطورة، خصوصًا بعد تفجير السفارتين الأمريكيتين فى العاصمتين نيروبى، ودار السلام فى أغسطس 1998.
«مبارك» و«بوش» وسنوات «الفوضى الخلاقة»
ظلت العلاقات بين القاهرة وواشنطن على وتيرتها الاعتيادية حتى عام 2001، حيث شهدت توترًا غير مسبوق، بعد أن تبنت إدارة «بوش» الابن أجندة نشر الديمقراطية فى الشرق الأوسط، حيث تصاعد التوتر أكثر بالقبض على الدكتور سعد الدين إبراهيم الذى تم اتهامه بتشويه سمعة مصر، ووصل الأمر لربط جزء من المعونة الأمريكية لمصر بالإفراج عنه، وفى عام 2004 انقطع «مبارك» عن عادته السنوية بعد زيارة شابها خلاف شديد بين «مبارك» و«بوش»، حتى وصلت العلاقات لأدنى مستوياتها عام 2005 بعد سجن أيمن نور، حيث أجلت كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، زيارة كان من المقرر أن تقوم بها إلى مصر.
«المتغطى بالأمريكان عريان».. ربما يكون أقوى تصريح من «مبارك» حول أمريكا، حينها كانت القاهرة تستشعر جيدًا ما آلت إليه العلاقات من فتور، أن لم يكن عداء. ويحكى أحمد أبوالغيط، الأمين العام للجامعة العربية، وزير الخارجية المصرى الأسبق، كواليس هذا الخلاف، قائلًا: «زيارتى الأولى لواشنطن فى 2005، بالتزامن مع حكم الرئيس بوش الابن، كانت أسوأ مرحلة تمر بها العلاقات المصرية الأمريكية منذ عام 1973، وأخبرنى الرئيس الأسبق حسنى مبارك برغبة الولايات المتحدة فى التخلص منه، ومن نظام الحكم فى مصر».
حسنى-مبارك--فرنسية
وفى عام 2007، وتضييقًا للحصار على مصر، وافق الكونجرس على مشروع قانون تجميد 100 مليون دولار من المساعدات العسكرية لمصر بسبب مطالبات واشنطن القاهرة بإغلاق الأنفاق مع قطاع غزة، وإعادة تأهيل الشرطة المصرية للتعامل مع حقوق الإنسان، والفصل بين ميزانية وزارة العدل والقضاء المصرى، واستمر الوضع حتى جاء باراك أوباما للبيت الأبيض.
جمال مبارك فى واشنطن
كان الحديث عن التوريث فى مصر تتصاعد أصداؤه، والعلاقات بين القاهرة وواشنطن تستمر فى فتورها، عندما قام جمال مبارك برحلة لأمريكا بمفرده فى مارس 2006، أثارت مزيدًا من الجدل، تلك الزيارة لم يكن معلنًا عنها سابقًا، وانتقدتها الأوساط السياسية فى مصر، التى أكدت أنها ليس لها وصف دستورى، باعتبار جمال مبارك لا يحتل أى منصب حكومى، وأيضًا بسبب سريتها. واعتبر الكثيرون زيارة «جمال» لتسويقه بوصفه الرئيس المقبل، ويجب دعمه، كما تم دعم والده منذ بداية حكمه.
ودفاع الحزب الوطنى عن الزيارة، إلا أن مستوى اللقاءات التى عقدها جمال مبارك فى واشنطن ظلت علامة استفهام لم تستطع قيادات الحزب المنحل الإجابة عنها حتى الآن. ولم يتراجع التوتر بين القاهرة وواشنطن كثيرًا بعد دخول باراك أوباما البيت الأبيض، ففى يونيو 2009 وبعد ثمانى سنوات من العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامى فى أعقاب اعتداءات 11 سبتمبر، ألقى «أوباما» خطابًا من قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة، تناول فيه تسع نقاط رئيسة، هى العنف والتشدد، القضية الأفغانية، العراق، القضية الفلسطينية، أزمة البرنامج النووى الإيرانى، قضايا الديمقراطية، التعددية الدينية، حقوق المرأة، والتنمية الاقتصادية.
وفى أغسطس 2009، قام «مبارك» بزيارة إلى واشنطن لبحث التوتر الذى كانت تشهده منطقة الشرق الأوسط فى فلسطين ولبنان وسوريا، والخطر الإيرانى، وفى سبتمبر 2010 شارك «مبارك» مع نظيره الأردنى الملك عبدالله بن الحسين، والفلسطينى محمود عباس، ورئيس الوزراء الإسرائيلى آنذاك بنيامين نتنياهو، فى المحادثات التى استضافها البيت الأبيض بقيادة «أوباما» لحل القضية الفلسطينية، وبعدها بأشهر سقط حكم «مبارك» بدعم الرئيس الأمريكى.
«25 يناير» والإخوان
لم تتردد إدارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما طويلًا فى التخلى عن مبارك ونظام حكمه، وسرعان ما أعلنت تأييدها لثورة 25 يناير، لتبدأ القاهرة وواشنطن فيما بعد علاقة شائكة، وربما تكون الأكثر أهمية بين البلدين.
جمال-عبد-الناصر
وفى سبتمبر 2011 خلال زيارة وزير الخارجية المصرى محمد كامل عمرو لواشنطن، قالت هيلارى كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية: «أنا أقدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى كان مؤسسة الاستقرار والاستمرارية، ويتطلع الشعب المصرى إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة لدعم عملية التحول الديمقراطى، وضمان سير الانتخابات بطريقة إيجابية توفر الشفافية والحرية والنزاهة». وبدأ التوتر يدب فى العلاقات مجددًا عندما قالت «كلينتون» فى نوفمبر 2011، فى كلمتها أمام المعهد القومى الديمقراطى أنه «فى مصر تبقى مجموعة من المسؤولين غير المنتخبين ديمقراطيًا، هم من فى يدهم زمام السلطة، وهم الذين سيزرعون بذور التخبط فى المستقبل». وبدأت مرحلة جديدة من دعم الحكم الإسلامى فى مصر ودفع الإخوان المسلمين للوصول للرئاسة، ولم يتمكن الرئيس الإخوانى محمد مرسى من زيارة واشنطن، حيث لم تدم فترة حكمه سوى عام واحد وثار عليه الشعب المصرى، مجددًا إلا أنه حضر اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك.
وتحول الدعم الأمريكى للإخوان إلى حالة عداء تجاه الشعب المصرى عقب ثورة 30 يونيو التى أطاحت بالجماعة الإرهابية، حيث عاقبت الإدارة الأمريكية مصر على ثورتها بقطع المعونات العسكرية وتوتر فى العلاقات دام خلال السنوات الماضية.
وفى 15 يوليو 2013 وصل ويليام بيرنز، نائب وزير الخارجية الأمريكى، إلى مصر فى أول زيارة لمسؤول أمريكى كبير منذ عزل مرسى. وأكد أنه لا يحمل حلولاً أمريكية، ولم يأت لنصح أحد، أو ليفرض نموذجًا أمريكيًّا للديمقراطية، وطالب بالإفراج عن المحتجزين من جماعة الإخوان. وكانت هذه الزيارة وتصريحات بيرنز نقطة تحول فى تعامل أطراف العملية السياسية مع الولايات المتحدة، ومثلت لجماعة الإخوان ومؤيدى الرئيس المعزول صدمة فى الموقف الأمريكى الذى كانوا يعولون عليه بشكل كبير.
السيسى فى القصر
مع وصول الرئيس عبدالفتاح السيسى للسلطة، كان الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى منتصف ولايته الرئاسية الثانية والأخيرة، ورغم ذلك لم يخلُ المشهد بين البلدين من محاولات تلطيف الأجواء، حيث أجرى أوباما اتصالا هاتفياً مع الرئيس السيسى لتهنئته على تنصيبه و«التعبير عن التزامه بالعمل معاً لتعزيز المصالح المشتركة للبلدين»، وأكد التزامه بشراكة استراتيجية بين البلدين. كما أكد أوباما استمرار دعم الولايات المتحدة للطموحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعب المصرى واحترام حقوقه العالمية.
ورحلت إدارة أوباما بعد أن أصابت العلاقات بشروخ لا يمكن ترميمها بسهولة، وجاء دونالد ترامب الذى أبدى من اللحظة الأولى إدراكا لأهمية ومكانه مصر وقدم خطوات إيجابية لدفع العلاقات مستقبلا، وفى نوفمبر 2016 كان الرئيس عبدالفتاح السيسى من أوائل قادة العالم الذين هنأوا الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بفوزه فى الانتخابات مباشرة بعد إعلان النتائج، حيث أعرب عن أمله فى «بث روح جديدة» فى العلاقات المصرية ـ الأمريكية، وفى ديسمبر 2016، قبيل تنصيب ترامب رئيسا للولايات المتحدة، تلقى السيسى مكالمة هاتفية من دونالد ترامب، وتم التطرق خلال الاتصال إلى مستقبل العلاقات المصرية الأمريكية، بعد تولى الإدارة الجديدة مسؤولياتها بشكل رسمى.