كانت البواخر قد بدأت فى حمل اليهود إلى أرض الميعاد.. تصاعدت الحركة الصهيونية التى أصبحت خطرا يهدد كل دول المنطقة وليس فلسطين وحدها، فى وقت بدأ ظهور حركات التحرر فى الأقطار التى لا زالت قابعة تحت قبضة الاستعمار، كان المشهد ينذر بانفجار وشيك محدق بالمنطقة العربية التى لم تجد لواء موحدا تنضوى تحته منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، ووقوع خريطة الشرق الأوسط فريسة فى يد الاستعمار ليقسمها كيفما يشاء.
واجهت المنطقة العربية تحديات عدة شهد مقر استراحة ملك مصر والسودان فاروق الأول فى أنشاص عام 1946 الذى شهد أول اجتماع قمة عربية بستة قادة عرب فقط، حيث كانت الجامعة العربية مجرد نواة انطلقت فكرتها قبل ذلك بعام بتوقيع أربعة دول عربية على بروتوكول الإسكندرية الذى تم برعاية رئيس الوزراء مصطفى النحاس.
القمة الأولى التى تمت على الأراضى المصرية بحضور السعودية وسوريا والعراق والأردن ولبنان واليمن أصدرت مجموعة قرارات، صبت جميعها فى إطار ضرورة توحيد الدول العربية لمواجهة مخاطر الصهيونية، باعتبارها خطرا لا يداهم فلسطين وحسب وإنما جميع البلاد العربية والإسلامية، ومساعدة الشعوب العربية المستعمرة على نيل استقلالها.
ميلاد الجامعة العربية لم يتم بين ليلة وضحاها بل كان هناك تحديات حقيقية تواجه الشعوب العربية وتتطلب الاصطفاف من الجميع، وسبق أول اجتماع قمة لقاءات قادتها مصر مع الدول العربية على المستوى الثنائى والثلاثى والرباعى حتى تم وضع أساس أول منظمة إقليمية التى تعتبر أقدم من الأمم المتحدة.
وبعد أكثر من سبعة عقود وعلى بعد أمتار من مقر جامعة الدول العربية وسط القاهرة اجتمع منذ أيام وزراء خارجية أربعة دول عربية "السعودية ومصر والإمارات والبحرين" فى قصر التحرير ـ مقر وزارة الخارجية القديم ـ لمواجهة خطر جديد يحدق بالمنطقة، الأمر الذى طرح تساؤلا حول مدى جدوى الجامعة العربية فى العصر الحالى والتى بلغت من العمر أرذله ولم تعد قادرة على مواجهة مشكلات العرب اليوم بميثاق مصطفى النحاس.
وما بين قاعات الجامعة العربية الخاوية من أى حراك بينما يعج دولها الأعضاء بالمشكلات، وبين أنوار قصر التحرير التى ظلت مضاءة حتى قرب منتصف ليلة الخامس من يوليو يوجد تساؤل آخر ملح، هل مثلت أزمة قطر وانتفاضة الرباعى العربى ضدها لمواجهة دعمها للإرهاب شهادة وفاة للجامعة العربية، وهل كان الإجتماع الوزارى الرباعى دعوة لتدشين مؤسسة اقليمية جديدة تقوم على أسس مختلفة عن تلك التى قام عليها بيت العرب.
السؤال أصبح مشروعا بعد أن خفت صوت الجامعة على مدار أكثر من شهر هو عمر الأزمة بين الرباعى العربى والدوحة، فلم تتبنى موقفا تجاه العاصمة العربية التى هددت أمن المنطقة بالكامل ولعبت باستقرار الأنظمة والشعوب، كما لم تتبرع لتطلق مبادرة تحاول من خلالها تجميع الأشقاء لطاولة واحدة لحل الأزمة وإعادة من شرد خارج الإجماع العربى.
الضعف تسلل إلى جسد الجامعة العربية منذ سنوات عندما فشلت فى تعديل ميثاقها بما يتماشى مع تحديات العصر الراهن، وعندما أخفقت فى احتواء أزمات العرب بعد ثورات 2011 وتركت الأوضاع فى سوريا وليبيا فريسة للتدويل وتحكم القوى العظمى فى واشنطن وموسكو والإقليمية فى طهران وأنقرة لتقرير مصيرها، وعندما شاهدت بالأدلة إحدى دولها الأعضاء وهى تمول الإرهاب فى المنطقة ولم تحرك ساكنا، وتركت المساحة لوساطات فردية لحل الأزمة.
لم يصبح زمام المبادرة فى يد الجامعة العربية التى سقطت فعليا فى اختبار أزمة قطر، بل أصبح هناك نواة قد تكون مقدمة لتشكيل مؤسسة جديدة تتجاوز الجامعة العربية ومنظمة التعاون الخليجى، فالرباعى العربى أثبت نجاح فى التعاون المشترك الذى انتفض ضد الإرهاب وأصدر قرارات موحدة وأدار الأزمة بنجاح وقاد حملة دبلوماسية عربية ودولية للتعريف برجاحة موقفه، ووضع قائمة مطالب توحد حولها.
فكما مثلت الصهيونية فى منتصف القرن الماضى تحديا أمام العرب يحتاج التوحد لمواجهته أصبح الإرهاب هو شبح اليوم الأكبر والسرطان الذى تمدد فى الجسد العربى ويحتاج الى مكافحته وقطع الأيدى التى تموله وتدعمه حتى لو كانت من داخل بيت العرب، وكما قادت القاهرة مشاورات عربية لإنشاء أول منظمة وحدة بدأت بأربعة دول ثم امتدت لتشمل 22 دولة يمكن أن يتسع الرباعى العربى ليشمل باقى الدول التى مازالت على الحياد ولم تدرك بعد أن بيت العرب تصدع ويحتاج إلى ترميم جديد.
وليس غريب أن تقود القاهرة والرياض التأسيس لهذا الكيان كما كانا الأساس فى خروج فكرة بيت العرب إلى النور منذ 70 عاما، عندما قرر البلدان تنحية أية خلافات جانبية بينهما، وفى ليلة وضحاها تم بناء مدينة كاملة من الخيام على قمة جبل الرضوى فى ينبع بالسعودية، بعيدا عن الأضواء لاستضافة الملك فاروق فى زيارة "الثلاث أيام" والتى ألتقى خلالها الملك عبد العزيز آل سعود لتدشين مرحلة جديدة من التعاون العربى.
فهذا اللقاء الذى تم بعيدا عن الأضواء كان النواة الأساسية لمؤتمر قمة أنشاص وتدشين جامعة الدول العربية التى ظلت على مدار أكثر من سبعة عقود متتالية المؤسسة الإقليمية الأم لدول المنطقة، بعد أن شعر الملكين بشده الحاجة إلى وضع حدّ لمخلّفات الماضى القريب، حيث كان اجتماع الملكين علامة واضحة على أن هناك رغبة شديدة فى توحيد البلدان العربية فى الشرق الأوسط، وكان له أهمية سياسية كبيرة فى شؤون العالم العربى ولا خلاف فى انه خطوة كبيرة لتحقيق امال العرب بالوحدة وله أهمية دولية عظيمة لأن مشاكل الشرق الأوسط تتناول العالم بأسره.
وما أشبه اليوم بالبارحة.. حيث ينتظر العرب من القاهرة والرياض أن يقودا هذا الرباعى الى منظومة جديدة تختلف فى أولوياتها وأسسها بما يتماشى مع تحديات العصر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة