ربما يكون سوق النفط أحد المتحكمين فى السياسة العالمية.. ولكن صناعة القرار السياسى لا يمكن أن تخرج من الحاويات النفطية، ونجاح ريكس تيلرسون فى إدارة عملاق النفط إكسون موبيل لا يعنى بالضرورة أن ينجح فى هندسة السياسة الخارجية لدولة عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما أثبتته الشهور الست الأولى التى قضاها تيلرسون على رأس أعلى مؤسسة دبلوماسية فى واشنطن.
الجدل صاحب وزير الخارجية الأمريكى منذ اللحظات الأولى لإعلان اسمه ضمن المرشحين لتولى حقيبة الخارجية فى يناير الماضى، باعتباره يفتقر إلى الخبرة الكافية ليكون رجل دولة خاصة فى مجال السياسة الدبلوماسية، وجاء إصرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، على تعيين تيلرسون فى المنصب من منطلق الخبرة الواسعة التى يتمتع بها كرجل أعمال تولى مناصب تجارية رفيعة ومن ثم ارتبط بعلاقات وثيقة مع مسئولى حكومات فى أنحاء العالم، غير أنه بعد مرور أكثر من 6 أشهر فى المنصب يبدو أن رهان الرئيس الأمريكى جاء خاسرا.
المتابع للصحافة الأمريكية يجد الكثير من الإنتقادات لأداء وزير الخارجية الذى لم يظهر أي قوة فى الكثير من الملفات الشائكة، وبعد أن كانت تتحدث الصحافة عن تهميش دوره لصالح بروز دور الرئيس ترامب وصهره جارد كوشنر لاسيما فى ملف قضية السلام فى الشرق الأوسط، باتت تسلط الضوء على إخفاق تيلرسون حتى فى ملء الكثير من المناصب الشاغرة فى وزارة الخارجية الأمريكية.
وعلى الرغم من أن تيلرسون جديد على السياسة العامة، إلا أنه ليس غريبا على السياسة العالمية، بعد لعبه دورا كبيرا فى الصفقات التجارية الكبرى مع العديد من قادة العالم، وهذه الخبرة أكسبته الكثير من الإحترام، غير أنه بعد ستة أشهر من تقلد منصبه الدبلوماسى تحول إلى موظف رتيب، وسط تسريبات عن إحباط داخل الإدارة الأمريكية حيال أداءه، وتوقعات متزايدة بشأن إحتمال رحيله مبكرا.
وبحسب مجلة فورين بوليسى فإنه بينما كان البعض يراهن قبل أشهر على أن ريكس تيلرسون لن يبقى فى منصبه لبعد التجديد النصفى للإدارة الأمريكية فى 2018، وسط توقعات أن تحل النشيطة نيكى هالى، السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، بديلا له، فإنه على ما يبدو أنه لن يكمل حتى هذا الموعد.
ويبدو أن الأمور أسوأ مما تبدو، فعندما أعلنت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، مؤخرا، أن الوزير سوف يحصل على إجازة لعدة أيام، ذهبت الكثير من التوقعات إلى أنه على حافة الإستقالة. حتى أن الثرثرة فى هذا الأمر استحدثت كلمة عامية جديدة فى واشنطن وهى "ريكسيت"، أى خروج ريكس تيلرسون، على غرار البريكست وهو خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبى.
حصل تيلرسون على فرصته الكاملة فى الكثير من القضايا الخارجية، غير أن أزمة قطر مع جيرانها من الدول العربية المطالبة بوقف دعمها للإرهاب، ربما كانت الملعب الأكبر الذى كان بإمكان الوزير الأمريكى إظهار ما يملكه من مهارات من خلاله. غير أنه بعد جولة زار خلالها الكويت والسعودية وقطر، أثبت تيلرسون فشلا فى حل الأزمة بعد إنحيازه للدوحة مفضلا العلاقات التجارية التى جمعته مع الدولة الخليجية الصغيرة على مهام منصبه الرسمى ودوره الدبلوماسى.
فتيلرسون بصفته عضوا سابقا فى الهيئة الإستشارية لمجلس الأعمال القطرى الأمريكى عندما كان رئيسا لشركة إكسون موبيل، ضاربا بمبدأ عدم تضارب المصالح فى عمله كوزيرا للخارجية الأمريكية، ذهب تيلرسون لعقد اتفاق لمكافحة الإرهاب مع قطر على الرغم من قول رئيسه، دونالد ترامب، بأن قطر داعم تاريخى للإرهاب ودعاها إلى إنهاء تمويلها للإرهاب، مما يعنى تضارب نهج تيلرسون مع أجندة الإدارة الأمريكية.
ومن الملفات الرئيسية التى تظهر فيها بشدة ولاءات تيلرسون هى العلاقات مع روسيا، حيث قاد سابقا إكسون موبيل فى عقد صفقات مع شركة النفط الروسية العملاقة روزنيفت، المملوكة للدولة. معظم هذه الصفقات معلقة بسبب العقوبات الأمريكية ضد روزنيفت ورئيسها ايجور سيشين، الصديق الشخصى لتيلرسون. وقد تم تغريم إكسون موبيل، الشهر الماضى، 2 مليون دولار من قبل وزارة الخزانة الامريكية لإنتهاكها العقوبات المفروضة ضد روسيا وقت أن كان تيلرسون الرئيس التنفيذى.
وأظهر تيلرسون معارضة للعقوبات الأخيرة التى فرضها الكونجرس ضد روسيا بسبب مزاعم تدخلها فى الإنتخابات الأمريكية. وفى الوقت الذى يشتعل فيه غضب الساسة الأمريكيين بشأن هذه القضية المثيرة وأنشطة القرصنة الروسية داخل الولايات المتحدة، يصر وزير الخارجية على التعامل مع السياسة الخارجية لبلاده بمنطق مدير الشركة الذى يتحكم وحده بصنع القرار. ففى تعليق الشهر الماضى ردا على سؤال صحفى بشأن عمله كوزير للخارجية، قال "حسنا، إنها مختلفة كثيرا عن أن تكون رئيسا تنفيذيا لشركة إيكسون، فقد كنت أنا صاحب القرار الأخير. وهذا يجعل الحياة دوما أسهل بكثير".
وألتقى تيلرسون هذا الأسبوع، نظيره الروسى سيرجى لافروف، فى لقاء ودى جمعهما على هامش مؤتمر أسيان فى مانيلا، وعلق بعده أن الولايات المتحدة تريد العمل مع روسيا وأنه يمكن تسوية المشكلات، هذه التصريحات جاءت فى الوقت الذى تزداد فيه العلاقات توترا بين البلدين وقيام روسيا هذا الأسبوع بالإستيلاء على مجمع تستأجره السفارة الأمريكية فى موسكو وخفض الوجود الدبلوماسى الأمريكى فى روسيا.
فشل ترامب فى الكثير من الملفات وبات إصراره على التعامل بمنطق فردى وتطبيق أجندة إكسون موبيل على السياسة الخارجية الأمريكية، ينطبق على العلاقات مع إيران، فضلا عن غيابه عن الملف السورى وفشله فى إدارة ملف كوريا الشمالية، الذى يتأكد يوما تلو الأخر أن حله لن يكون عسكريا لما سيسفر عنه أى نزاع عسكرى بين البلدين من دمار هائل. وقد علق مايكل كوهين، المسئول السابق فى وزارة الخارجية الأمريكية، على أداء تيلرسون مشيرا إلى أن المشكلة تتعلق بإعتقاده أن الغرض الوحيد للدبلوماسية الأمريكية هو العمل من أجل تعزيز المصالح الإقتصادية والعسكرية فقط.
ومما يؤكد رغبة تيلرسون فى العودة إلى مركزية صنع القرار، ما قام به وزير الخارجية الأمريكى، فى يوليو الماضى، بإلغاء سلطات صنع القرار لكبار قادة الوزارة. وبحسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز، فإن ذلك أدى إلى العبثية المطلقة فى التعامل على صعيد الشئون البروتوكولية مع الدول الأخرى وكذلك مراجعة توظيف أزواج الدبلوماسيين العاملين فى السفارات الأمريكية حول العالم.
وفشل تيلرسون حتى الآن فى ملء الكثير من الوظائف الإدارية العليا داخل وزارة الخارجية الأمريكية أو حتى ترشيح قائمة أسماء، وهو ما يعرقل تعيين سفراء جدد فى السفارات الأمريكية حول العالم، ومن بينها السفارة الأمريكية فى القاهرة حيث انتهت فترة ولاية السفير ستيفن بيكروفت، الذى غادر مصر فى يونيو الماضى.
هذا الأداء الضعيف بعد ستة أشهر من توليه منصبه دفع بعض المحللين الأمريكيين لاتهام تيلرسون بتفكيك منهجى لوزارة الخارجية الأمريكية وتقويض دور القيادة العالمية الأمريكية. وذهب بعضهم إلى أنه بدون وكالة دبلوماسية فعالة فإن النفوذ الأمريكى سيعانى، وفى نظام دولى قائم على القواعد التى وضعتها أجيال من الدبلوماسيين الأمريكيين، فإن مصالح الولايات المتحدة سوف تعانى أيضا.