مسلمون وأقباط يتبركون بأثر قدم المسيح فى «سخا» ويطلبون الشفاء
قدم المسيح تطبع على صخرة تحتفظ بها كنيسة «سخا» وتطرد بها العفاريت وتعالج المس
بعدما غادرنا مسطرد، عدنا للنظر فى الخريطة، العائلة المقدسة تتجه شمالًا وتسير نحو دلتا مصر، المسيح الطفل ترك أثره فى المكان، فنبعت البئر، وعليه أن يبارك بقعة أخرى، يقود يوسف النجار حماره ويرتحل فيصل إلى مدينة سمنود، وهناك تغير العائلة طريقة سيرها، وتركب نهر النيل، النهر الذى كان إلهًا لدى الفراعنة، وصار يحمل على صفحته تلك العائلة المباركة، وكأنه رسول بين أهل السماء والأرض.
«سمنود» تحسن استقبال العائلة المقدسة.. والفلاحون يهدون العذراء «ماجور»
فى سمنود، ستنسى العائلة المقدسة تلك المعاملة القاسية التى تلقتها من أهل تل بسطا، عبدة الأوثان، وسيستقبل فلاحو مصر الغرباء الثلاثة وطفلهم، استقبالًا حسنًا، فيباركهم الطفل المسيح.
فى مدينة سمنود، التى نصل إليها بالسيارة عبر الطريق الزراعى، نسأل عن كنيسة العذراء مريم الأثرية، يدلنا السكان على كنيسة فى قلب السوق، تظهر من بعيد صلبانها الضخمة تعانق الهواء، رغم ما يحيطها من زحام الباعة، سيرًا على الأقدام وفى شارع جانبى نصل للكنيسة، التى تحمل اسم القديس أبانوب إلى جوار السيدة العذراء، وعلى الباب يسألنا أمن الكنيسة، فأبرز له هويتى الصحفية وأسأل عن الأب الكاهن الذى حددت موعدًا مسبقًا معه.
فى ساحة الكنيسة، نرى على الجانبين المقاعد الخشبية وقد وضعت فى الفناء الخارجى لها، وعلى اليسار لوحة رخامية كتب عليها «هنا الماجور الذى عجنت فيه السيدة العذراء»، حيث وضع فى الساحة الخارجية فوق عمود رخامى وغطته الكنيسة بالزجاج وأغلقت عليه.. الزوار الجالسون فى ساحة الكنيسة معظمهم من الشباب أمناء الخدمة، والخدام الذين ينتظرون اجتماعًا أو خرجوا من الصلاة، وأصوات التراتيل تأتى من الداخل وتنتشر فى الهواء، بينما يلعب الأطفال الصغار فى الساحة، ويرتدى أحدهم «تونية» الشمامسة البيضاء المخططة بالأحمر وهو يردد اللحن القبطى.
باب الكنيسة الخشبى يبدو عليه القدم، والصلبان الصغيرة قد اتخذت موقعها فى كل خشبة منه، وفى المواجهة ترى حجاب الهيكل أو حامل الأيقونات الأثرى للكنيسة القديمة، والكل منشغل فى الصلاة «كيراليسيون»، و«يارب ارحم» تملأ المكان، وبيض النعام يتدلى من حامل الأيقونات أعلى مذبح الكنيسة المقدس بتلك الحلقات المعدنية بعدما تم تفريغه من السائل الزلالى فيه، وهى أحد التقاليد القبطية التى ارتبطت بالكنائس، فبيض النعام يرمز إلى الرجاء فى القيامة، وفقًا لمعتقد القيامة المسيحى، فالمسيح قام من بين الأموات، مثلما خرج الفرخ الصغير من البيض إلى الحياة مرة أخرى، فدائمًا هناك أمل ورجاء فى الله.
القمص بيشوى كاهن كنيسة العذراء والشهيد أبانوب بسمنود
القس بيشوى، كاهن كنيسة العذراء والشهيد أبانوب بسمنود، كان قد انشغل فى صلاة القداس الإلهى، اليوم هو الأحد، الكنيسة ممتلئة عن آخرها، دخلت فى نهاية القداس، حيث جاءت لحظة التناول من الأسرار المقدسة، يقف القس وزميله فى المنتصف وأمام الهيكل، يمسك أحدهم بالخمر، بينما يمسك الآخر بالقربان، النساء تضع إيشاربات صغيرة على شعرها، وتتقدم لتتناول من الأسرار المقدسة، أى جسد المسيح، وهو القربان، ودمه وهو الخمر، وهو ما يعرف بسر الافخارستيا، أحد أسرار الكنيسة السبعة.. ينتهى القداس ويتفرق جمع الكنيسة، ويتجه فريق من الزوار صوب البئر.
بئر شربت منها العائلة المقدسة
المسيح يفجّر بئرًا جديدة فى سمنود.. مسلمون وأقباط ينالون البركة
نسير خلف أحد الخدام، يقودنا لموقع البئر التى قال إن السيد المسيح أنبعها، وقت إقامته فى سمنود التى امتدت لـ17 يومًا مع السيدة العذراء، ويوسف النجار فى نفس المكان الذى أقيمت عليه الكنيسة لاحقًا.
تشبه البئر إلى حد كبير تلك التى رأيناها فى مسطرد، المسيح يضرب الأرض بقدمه فتتفجر منها الآبار، وتظل عامرة بالمياه إلى الأبد، اقتربنا من البئر فإذا بها قد أغلقت بقفل حديدى، وتفرعت منها عدة حنفيات صغيرة، تملأ منها الكنيسة الماء المبارك لزوارها من المسلمين والأقباط، تمامًا كما يحدث فى مسطرد.
«هنا لاقت العائلة المقدسة ترحيبًا كبيرًا».. يقول القس بيشوى، ويرجع السبب فى ذلك إلى أن المسيح استخدم موهبته فى إحياء الموتى حين دخل تلك المدينة، فصادف رجلًا ميتًا فأقامه من ميتته، مما أبهج أهالى البلدة الصغيرة، وأهدت النساء للعذراء ماجورًا حجريًا عجنت فيه العذراء خبزًا لابنها الطفل وخطيبها وسالومى، عجوز الرحلة.
ماجور السيدة العذراء مريم بكنيسة سمنود
«استطاعت الكنيسة أن تحتفظ بماجور العذراء حتى اليوم»، يقول القس وهو يتجه نحو موضع الماجور المغطى بالزجاج، ثم روى تاريخ الكنيسة التى تعود إلى القرن الخامس الميلادى، حيث بنيت فوق كنيسة أخرى تسبقها فى الزمن، مشيرًا إلى أن حجاب الكنيسة أو حامل أيقوناتها أثرى، ويرجع تاريخه إلى سنة 550 ميلاديًا.
نترك القس بيشوى الذى يودعنا على باب الكنيسة، ونتجه إلى سخا، حيث المحطة التالية للعائلة المقدسة.
العائلة المقدسة تتجه شمالاً.. قدم المسيح على صخر كنيسة سخا
أحبت العائلة المقدسة دلتا مصر، بعد تجربة قاسية فى الصحراء الشرقية، فخرج الركب من سمنود إلى سخا، بعدما عادت العائلة لركوب الحمير مرة أخرى، وهى تستظل بحقول وأشجار مدننا الشمالية.
فى مدينة سخا، التى تبعد 2 كيلومتر عن محافظة كفر الشيخ، سألنا فلاحين على الطريق عن كنيسة العذراء الأثرية، فلم يدلنا أحد، حتى ظهرت سيدة خمسينية تحمل صليبًا على صدرها، استطاعت أن تصف الطريق إلى الكنيسة بدقة.
وبعد دقائق، ظهرت أسوار الكنيسة القديمة، تعرفنا عليها من رجال الشرطة الموجودين فى الخارج، حين وصلنا هاتفنا القس متياس موريس، كاهن الكنيسة، الذى كان ينتظرنا فى مكتبه.
ليست ككل المدن التى زارها المسيح الطفل وأمه، سخا تحمل اسم قدمه التى بارك بها كنيستها، يقول القس متياس موريس، وهو يشرح اسم سخا.
«سخا كان لها اسم خاست فى اليونانى والرومانى، سميت ابساويس، وبعد دخول العائلة المقدسة صارت تحمل اسم بيخايسوس، أى قدم المسيح، وتم اختصار اسمها إلى سخا».
تثير قصة القدم الدهشة، المسيح كما اعتاد أن يفعل فى البلاد التى زارها ينبع الآبار، يجف منها ما يجف ويبقى منها ما يبقى نبعًا أبديًا للبركة، إلا أنه أراد التأكيد على حضوره فى سخا بطريقة أخرى.
يوضح القس متياس أن المسيح الطفل قد أصابه العطش، حين دخل هذا المكان، وكانت المنطقة أعلى ممن حوله فوقف على صخرة، انطبعت قدمه اليمنى عليها وانفجر ينبوع الماء.
يأخذنا القس إلى موضع الصخرة المقدسة التى تحتفظ بها الكنيسة، حيث يبلغ طولها 60 سم وعرضها 15 سم، يمسكها القس بيديه، وهو يشير إلى موضع القدم الصغير، الصخرة لونها رملى فاتح، بينما موضع القدم يميل إلى البنى، وتبدو واضحة كأقدام الأطفال الصغار، لتتأكد رواية الكنيسة والمؤرخين.
ويؤكد القس متياس أن الكنيسة بنيت على موضع دير كان يسمى دير المغطس، بسبب غمر الماء له، وكان عامرًا بالرهبان حتى نهاية القرن الثالث عشر، وحين هدم الدير اختفى الرهبان، وظلت قدم السيد المسيح، فكتبوا على الحجر كلمة «الله واحد» كعلامة تميز الحجر عن أى حجر آخر.. أخفى هذا الحجر زمنًا طويلًا، خوفًا من سرقته فى بعض العصور، واكتشف هذا الحجر مرة أخرى عام 1984، ونال اعتراف الأنبا بيشوى، مطران دمياط وكفر الشيخ والبرارى.
فى احتفال مهيب، يروى القس متياس حكايته: وضعت الكنيسة زيتًا فى تجويف قدم المسيح المنطبعة على الصخر، وبه حدث الكثير من المعجزات كالشفاء من الأمراض، وإعطاء النسل الصالح، وطرد الأرواح الشريرة، كالرجل الذى كان يسكنه الجن، وحين اقترب من موضع قدم المسيح غادرته الروح النجسة أمامنا، ورفع ساقيه عن الأرض ثلاث مرات وهو يخبط فيها بيديه بعنف.
قدم السيد المسيح مطبوعة على صخرة بالكنيسة
معجزات قدم المسيح تعيد الحياة للممسوسين بالجن
إلى جانب الصخر، تضم الكنيسة أيقونة أثرية رسمها الفنان انسطاس الرومى، الرجل الذى سيتكرر ذكره فى الكثير من كنائس ومواقع الرحلة، وهو فنان رومى جاء من القدس ليرسم الأيقونات، فترك الكثير من الآثار التى تعود للقرن الخامس الميلادى.
فى عيد دخول المسيح أرض مصر، الذى تحتفل به الكنيسة القبطية فى الأول من يونيو، تقيم كنيسة سخا نهضة روحية.. احتفال كبير يحضره الكثير من شعب الكنيسة، يزف الصليب فى هيكل الكنيسة، يمسك الكاهن بالمبخرة، يرتفع البخور المقدس ليغمر وجوه الشمامسة الذين يلبسون التونية «ملابس الخدمة الكنسية»، ويحملون صلبانًا خشبية يطوفون بها فى هيكل الكنيسة على أصوات الألحان القبطية، ثم يخرجون منه إلى شعب الكنيسة، فيستقبلهم الناس بالزغاريد، ويحاولون مس الصليب بأيديهم.. فى نهاية زفة الصلبان يمسك أحد الشمامسة بالحجر المقدس الذى تظهر عليه قدم المسيح، بالإضافة إلى رفات القديسين فى أنابيبها الخشبية، ويحاول الناس من جانبى الكنيسة نيل البركة بلمسه، بعدها يعود الكهنة للهيكل، ويبدأ طقس تطييب رفات القديسين.
تحتفظ تلك الكنيسة بالكثير من رفات القديسين فى مقصورات خشبية، حيث تحرص الكنائس القبطية على الاحتفاظ بأجزاء من أجساد قديسيها أو متعلقاتهم الشخصية فى أنابيب معدنية تغطى بأستار، وتوضع فى مقصورات تضاء لها الشموع.
من بين تلك الأجساد الطاهرة رفات القديس زخارياس، أسقف سخا فى الفترة من 695 م - 725 م، وتم اكتشاف رفاته أثناء تجديد الكنيسة عام 1968، وكان عالمًا وكاتبًا، ووضع رفاته فى أنبوبة خاصة.. صليب يعود للقرن الثامن الميلادى، وكذلك رفات القديس الأنبا ساويرس الأنطاكى فى فترة هروبه إلى مصر، فقد أقام بسخا عند رجل يدعى دوروثاؤس، وعندما توفى سنة 538، ونقل جسده غرب الإسكندرية ببرج العرب، احتفظت الكنيسة ببعض رفاته.
سيدة تتبرك بأجساد القديسيين
يجرى طقس تطييب الرفات وسط صلوات واحتفالات، حيث يصنع حنوط البركة، وهو المادة المستخدمة فى التطييب فى طبق حديدى، يسكب الكاهن زيتًا من العطر، وزيت الناردين المعطر، وهو أحد الزيوت المقدسة لدى المسيحيين، حيث سكبته امرأة على وجه المسيح وفرح بذلك، ويوضع المزيج مع مواد كيميائية عطرة لتصنع منها ما يشبه العجينة التى تتلى فوقها الصلوات والتراتيل، ويدهن به الأنبوب المعدنى الذى يحتفظ برفات القديس.
وتطييب الرفات بحسب المفهوم المسيحى قد حدث بعدما طيبت ثلاث من النساء اللاتى يحملن اسم مريم قبر المسيح، كما يذكر الانجيل «وَبَعْدَمَا مَضَى السَّبْتُ، اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ، حَنُوطًا لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّه»ُ.
يوزع القس الحنوط على الكهنة وشعب الكنيسة أجزاء مما صنعه من حنوط مبارك، يدهنون به أجساد القديسين، ويتقافز الناس من الخارج يلقون بالمناديل والإيشاربات والشيلان لتلتصق بالحنوط فتنال البركة، يقفز الجميع إلى داخل حلقة التطييب أو يرمى متعلقاته كمن يقفز فى بركة سباحة، ويساعد من فى الداخل طالبى البركة بالخارج، لتتبارك مناديلهم برفات القديسين.
دلتا مصر خارج المرحلة الأولى من برنامج العائلة المقدسة السياحى
تبدو دلتا مصر خارج المرحلة الأولى من مسار العائلة المقدسة الذى وضعته وزارة السياحة، واعتمده الفاتيكان، فالمسار الذى يضم 25 نقطة قد استبعد الدلتا من حساباته، لعدم جاهزيتها لاستقبال الأفواج السياحية، فالكنائس هنا وسط المراكز الريفية، وفى مناطق شعبية تحيطها الزراعة، والطريق إليها زراعى يمتلئ بالمطبات التى صنعها الأهالى أمام بيوتهم التى بنوها على الأرض الزراعية.. الكثافة السكانية ستعوق أيضًا حركة الأفواج السياحية، بالإضافة إلى أن تلك الكنائس الصغيرة فى مناطق متناثرة لا يمكن وضعها فى برنامج سياحى منظم يفترض فيه عدة زيارات فى اليوم الواحد، فالذى سيأتى إلى سمنود ليزور الكنيسة سيغادرها على الفور، فليس فى المدينة الريفية ما يجتذب سياح الغرب، إلا إذا وضعت وزارة السياحة برنامجًا للتعرف على الريف المصرى وقضاء يوم وسط مزارعيه، وهو الخيار الذى يبدو صعبًا نظرًا لندرة الفنادق فى مراكز الدلتا، بل وعواصم المحافظات فيها، الأمر قد يستغرق عدة سنوات، والترويج لباقى المسار لا يمكن أن يتوقف أكثر من ألفى عام.