"أنا الذى تجسدت فيه مدينة إسطنبول.. فاشهد يا شعب تركيا. وآن لك أن تشهد ما أعانى من آلام"، هكذا كان يصيح وينادى الشاعر التركى الكبير ناظم حكمت، الذى ظلمه وطنه رغم ما كان يحمله من حب وله وما عاناه من آلام.
ناظم حكمت الشاعر والمناضل التركى، عارض الإقطاع وأيد حركة أتاتورك التجديدية وانقلب عليها عندما انكشف وجه أتاتورك الديكتاتورى، فكان مصيره السجن والاعتقال والنفى.
ولد "حكمت" فى مدينة سالونيك اليونانية، فى 15 يناير 1902، وفور ولادته عادت أسرته إلى مدينة إسطنبول التركية، ارتبط بالشعر منذ الصغر، وذلك كون جده محمد ناظم باشا، شاعر ومثقف يجمع فى ثقافته بين العربية والفارسية، تلقى تعليمه الأساسى فى تركيا، قبل أن يذهب إلى موسكو ليدرس علم الاقتصاد والعلوم السياسية بالجامعة الشيوعية.
"كان يخيل لى أن ناظم حكمت ماثل أمامى عملاق فى جسد مرهف، رقيق، كما المسيح فى لوحات الرسامين، أشقر الشعر، نحاسية، أزرق العينين، زرقة السماء فى عمقها الذى لا يحد، طفل النظرة فى براءة وطهر عجيبن"، هكذا وصفه الشاعر اللبنانى على فائق برجاوى، والذى زامله فى زنزانة واحدة بمدينة بورصة التركية عام 1934، وذلك على خلفية اعتقاله أثناء تواجده لزيارة بعض أصدقاؤه الأتراك فى تلك الفترة المتوترة فى الجمهورية التركية، وقابل هناك "حكمت" التى كان اعتقل على خلفية اشعاره ضد النظام والتى حققت تواجد واسع بين الطلاب آنذاك، وتم منع مسرحية للمخرج الشهير أرطفرل محسن أتخذت عن نص مسرحى لحكمت باسم "الجمجمة"،وكانت فى فترة اعتقالهما فى الفترة ما بين عامى 1934 – 1938، بحسب ما يوضحه "برجاوى" فى مذكراته "مع ناظم حكمت فى سجنه".
أصدر أول ديوان شعرى له الذى نشر فى موسكو فى 28 يناير 1924، وفى ذلك العام عاد إلى تركيا وبدأ بالعمل فى "مجلة التنوير" ولكن بسبب قصائده الشعرية والمقالات التى كتبها بالمجله أُلقى فى السجن لمدة خمس عشرة عام، ذهب مرة أخرى إلى الاتحاد السوفيتى وعاد الى تركيا فى عام 1928 مستفيدا من قانون العفو وبدأ بعد ذلك بالعمل فى جريدة : "القمر الساطع " ولكن بعد ذلك فى عام 1938 عوقب بالسجن ثمانيه وعشرين عام، بحجة انتمائه الى حزب سياسى فقط دون ان يرتكب اية جريمة جنائية قبل أن يتم إخلاء سبيله بعد إثنتى عشرة عام من إعتقاله بموجب قانون العفو فى ذلك الوقت، بعدما أثير حوله ضجة عالمية طالب فيها المثقفون حول العالم بالإفراج عنه، فى عام 1951.
كان محبًا لوطنه وكان يرغب فى الاستقرار فى محبوبته "اسطنبول" كان يقول "إنى أنا اسطنبول.. وكل ما حولى بحار، وتلال زرق"، وكتب عنه بابلوا نيرودا الحائز على جائزة نوبل "إنه شاعر كبير، وشعره كان للعالم بأسره، ورجل كبير ينتمى إلى غالبية البشر، ووطنى كبير عذب فى وطنه، ليس لناظم حكمت نظير فى القرن الذى عاش فيه، وانى لاعتبره المثل الحى للبطولة وللرقة فى آن".
ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى سفن "حكمت" فيطارده النظام للمرة الثانية، استدعائه للخدمة فى الجيش مره أخرى وهو يبلغ من العمر ثمانى وأربعون عاما هو ما دفعه للهروب خارج البلاد بسبب ذلك الشعور المسيطر عليه من أنه سوف يقتل، ليذهب إلى الاتحاد السوفيتى التى كانت فى تلك الفترة برئاسة ستالين، ويفقد على إثر ذلك جنسيته التركية فى عام 1951، بحجة اعتناقه المبادئ الماركسية، كما فرضت السلطات التركية حظرًا على تداول اعماله فى البلاد استمر سارى المفعول حتى عام 1965.
ظل "حكمت" فى روسيا حتى توفى فى 3 يونيو عام 1963 وافته المنيه عن عمر يناهز واحد وستين عام بسبب أزمه قلبية .
وكنوع من رد الجميل للرجل الذى طالما أحب بلده، أصدر مجلس الوزراء التركى قرارا بتاريخ 5/1/2009، وتم إصداره فى جريدة رسمية بتاريخ 10/1/2009، بعودة الجنسية التركية للشاعر الراحل، ليصبح ناظم حكمت مواطنا تركيا بعد انقضاء حوال ثمانى وخمسين عاما على سحبها منه، وذلك بعد محاولات استمرت سنوات لإعادته له.