بين الصيف والبحر والأدباء الكثير من القصص والطرائف والإلهامات الثقافية، فيما يبقى الصيف المصرى دالا على أريحية واعتدال المصريين وثقافتهم المنتصرة للحياة.
ولئن كانت مصر قد شهدت أمس الأول الخميس مع غيرها من الدول العربية ودول النصف الشمالى من الكرة الأرضية "لحظة الانقلاب الصيفى" التى تعنى ذروة فصل الصيف، فإن هذا الحدث يكون موضع احتفال فى بعض الثقافات حول العالم ومن بينها الثقافة البريطانية.
فاحتفال البريطانيون بأطول نهار فى أيام العام يحمل طابعا ثقافيا مميزا فى مهرجانات تشمل العاصمة لندن، فيما تنشر الصحف ووسائل الإعلام العديد من الصور الخلابة لاحتفالات الانقلاب الصيفى عند المعالم التاريخية والأثرية ليتحول هذا اليوم إلى مناسبة تجدد العلاقة بين البريطانيين وتراثهم مع حضور لا تخطئه العين لأحدث تقنيات العصر؛ مثل الأجيال الجديدة من الهواتف الذكية، وهى ترصد لحظة غروب الشمس.
والصيف عنوان ملهم لإبداعات ثقافية شتى من بينها الأفلام الوثائقية الرفيعة المستوى مثل الفيلم الأمريكى الجديد "هذا الصيف" والذى أخرجه جوران اولسون ويتطرق ضمن مشاهده الرائعة ونفحاته الرومانسية ورؤيته العميقة للتحولات الثقافية فى البلاد.
وها هو صاحب اللقطات الفريدة فى الأفلام التسجيلية والروائية المصرية ودارس التاريخ والسينما معا المصور السينمائى سعيد شيمى، يستعيد زمن دور السينما الصيفية أو المكشوفة فى ليالى القاهرة فيقول إن دور السينما الصيفية كانت "فسحة الأسر المصرية فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى".
وإذا كان سعيد شيمى صاحب الكتب المتعددة فى التصوير ومن بينها كتاب "التصوير السينمائى تحت الماء" يعيد للأذهان أن القاهرة كانت مزدحمة بدور السينما الشتوية والصيفية، فعند أجيال من المصريين والعرب لا تحلو ليالى الصيف إلا وسيدة الغناء العربى "أم كلثوم" تشدو بكلمات من رباعيات عمر الخيام: "افق خفيف الظل هذا السحر.. وهاتها صرفا وناغ الوتر.. فما أطال النوم عمرا.. ولا قصر فى الأعمار طول السهر".
والأديب النوبلى نجيب محفوظ كان لا يكتب فى الصيف لمشاكل صحية تتعلق بحساسية فى العين، لكن صاحب "ميرامار" كان يقضى أجازة الصيف فى الإسكندرية التى عرفت جلساته الممتعة والحافلة بالطرائف والنقاشات الثقافية مع الأدباء فى مقهى فندق سان استيفانو.
وكذلك كان مقهى "بترو" فى الإسكندرية يتحول لمنتدى ثقافى فى أشهر الصيف رواده هم كبار أدباء مصر وفى مقدمتهم نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وثروت أباظة وعبد الرحمن الشرقاوى وعبد الحميد جودة السحار وحسين فوزى، أما الآن فإن ما يمكن وصفه بثقافة المقاهى المفتوحة على نهر الطريق فى الهواء الطلق ظاهرة تتجلى بشدة فى ليالى الصيف القاهرى وإن اختلف المثقفون بشأنها ما بين مؤيد ومعارض.
وبينما تستعد الهيئة المصرية العامة للكتاب لإقامة معارض للكتب فى هذا الصيف بالشواطىء والمصايف المختلفة فى ربوع مصر ومن بينها معرض للكتاب فى مصيف رأس البر اعتبارا من السادس والعشرين من شهر يونيو الجارى وحتى الخامس من شهر يوليو المقبل، فإن الصحافة الثقافية الغربية تنشر مقابلات ممتعة مع مبدعين حول الكتب التى تكتنز للقراءة فى الصيف وعلى شواطئ البحار.
وعند الروائية كامين محمدى التى ولدت فى إيران عام 1969 وانتقلت مع عائلتها للمنفى فى عام 1979 فيما تقيم حاليا بإيطاليا، يبقى الوطن مقترنا فى ذاكرة صاحبة كتاب "شجرة السرو" الذى يتناول إيران فى القرن العشرين، مقترنا بليالى الصيف والسمر فى ضوء القمر ونسيم الياسمين والابتسامة الهانئة والضحك من أعماق القلب وحكايات الحب.
ومن الطبيعى أن تتوالى الآن طروحات لمثقفين تحمل صيحات تحذير من العدوان على البيئة التى تفضى لظواهر مناخية خطرة كالاحتباس الحرارى وارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية بصورة غير مسبوقة، وهى ظواهر تتبدى انعكاساتها على الانسان المعاصر فى الصيف على وجه الخصوص، كما يتحدث علماء عن تأثيرها السلبى على الأنهار والبحيرات.
وبقدر ما يشكل البحر ملاذا للبشر الهاربين من حريق الصيف عندما يبلغ ذروته، فإن عالم البحر ملهم دوما للعديد من الكتاب والمبدعين؛ سواء فى الغرب أو فى الشرق.. وفى كتاب صدر بالانجليزية فى لندن بعنوان: "وجدت قبيلتي"، يبدو البحر هو "المنقذ والمخلص والعزاء" فى نظر المؤلفة روث فيتسموريس التى تعانى من صدمة عائلية جراء محنة مرض خطير يهدد زوجها بالموت، فتتجه لمياه البحر الايرلندى الباردة.
وعبر صفحات الكتاب كسيرة ذاتية اتخذت قالب القصة المؤثرة والحافلة بألوان الوجد والشجن والبحث عن العزاء، كما تقول الناقدة لارا فيجل فى صحيفة "الجارديان" البريطانية، يمكن للقاريء ان يشعر بلذة النص وهو يتناول هذا الحوار الأبدى بين الانسان والبحر.
والمثير للتأمل أن روث فيتسموريس راحت تصطحب صديقتين تعانيان بدورهما من محن عائلية ليلقى الجميع بأنفسهم بين أمواج البحر لغسل الهموم حتى فى أيام الشتاء فيما أطلقت على هذه الثلة اسم "نادى السباحة للزوجات المكلومات"! إنها "القبيلة الجديدة" التى وجدت فى البحر نوعا من العلاج للآلام بقدر ما تجمع المياه بين افراد القبيلة فى نوع من "الأنس والونس والألفة" بين بشر يتواصلون معا كما يتواصلون مع البحر ليعود كل منهم لقبيلته الأصلية مزودا بعتاد روحى جديد لمواجهة المحن بجسارة مهما بلغت هذه المحن من مد أليم، كما فى حالة روث فيتسموريس التى وجدت زوجها المبدع والمفعم بالحياة والطموحات يتحول فجأة الى شخص عاجز عن الحركة ولا يمكنه التواصل الا بحركة عينية.
والكتاب يتضمن سردا شجيا لهذه الكاتبة وهى تتحدث عن البحر الذى تناجيه وهى بين أمواجه فينتزع الخوف من أعماقها الجريحة ويمنحها جسارة فى مواجهة محنة زوج يحتضر وأمسى على شفير الرحيل وكأن البحر فى عنفوانه يهب نفسها المتألمة الحياة التى تدحر الموت وتجابه آلام الفقد.
ومن قبل كانت الكاتبة البريطانية ايمى ليبتروت قد أصدرت كتابا بعنوان "التجاوز" فى عام 2016 تتحدث فيه عن تجربتها الخاصة للعلاج من محنة ادمان الكحوليات عبر السباحة يوميا فى مياه المحيط الأطلنطى قبالة شاطيء بلدتها الاسكتلاندية "اوركني" وقد فاز بجائزة أفضل كتاب بريطانى عن الطبيعة.
أما الكاتبة والناقدة الثقافية البريطانية اوليفيا لينج فقد أصدرت فى عام 2011 كتابا بعنوان "إلى النهر"، وتتناول فيه "التواصل بين الانسان والماء كسبيل لإعادة تمركز الذات الانسانية المأزومة حول بؤرة جديدة يمكن أن تمنح للبشر عالما مختلفا عن عالمهم الزاخر بالمتاعب".. وهذا العالم الجديد من التواصل الحميم بين البشر والمياه هو أقرب فى نظرها للذات الانسانية.
والصحافة الغربية تحدثت من قبل أيضا عن الكاتبة "جيسيكا لي" التى مضت تسبح بين بحيرات برلين كأفضل وصفة فى اعتقادها لعلاج الاكتئاب، فيما كانت الكاتبة والناقدة الأدبية البريطانية الراحلة ريبيكا ويست قد اعتبرت السباحة متعة لا تضاهيها متعة وكتبت عن العناق بين الإنسان والبحر كمعادل للحرية الإنسانية التى تبغض القيود.
ومن الطريف أن بعض النقاد فى الصحافة الثقافية البريطانية مثل روس جورج أطلقوا على هذا النوع من السرد الذى يجمع ما بين السيرة الذاتية والبحر وصفا جديدا لنوع أدبى هو:"سير البحر".. والملاحظ فى السرد الثقافى الغربى أن أغلب اصحاب هذا النوع من الكتابة من النساء.
غير أن السرد الثقافى العربى فى هذا النوع بالمقابل يكاد يكون "ذكوريا" فى اغلبه ويتمحور فى مصر غالبا حول الأسكندرية عروس البحر المتوسط.. وها هو الكاتب والروائى المصرى إبراهيم عبد المجيد الذى ولد فى أواخر عام 1946 بالأسكندرية يصف مدينته بأنها "ليست مجرد هواء يهب من البحر وانما هواء أرسله التاريخ العجيب للمدينة".
وإبراهيم عبد المجيد صاحب ثلاثية الأسكندرية :"لا أحد ينام فى الأسكندرية" و"طيور العنبر" و"الأسكندرية فى غيمة"، رأى فى مقابلة صحفية ان الكتابة عن هذه المدينة "أفق مفتوح تبحر فيه كل السفن الممكنة فهى بلورة سحرية تعطيك من كل ناحية عشرات الصور".
وإذا كان إبراهيم عبد المجيد الذى كانت ملاعب طفولته فى حى كرموز الشعبى السكندرى يرى ان لهذه المدينة التى ترمز للتسامح تأثيرها الإبداعى فى كتاب وشعراء كبار كنجيب محفوظ وادوار الخراط ولورنس داريل وقسطنطين كفافى، فإن الكاتب والروائى المصرى محمد جبريل الذى ولد فى السابع عشر من فبراير عام 1938 بالأسكندرية وأنتج عبر مسيرته الابداعية أكثر من 50 كتابا، يقول :"أتمنى ان أظل أكتب بينما نظراتى تتجه إلى البحر".
ويوضح جبريل ان البحر عنده هو الموطن والطفولة والنشأة والذكريات الملتصقة بلحم الجسد، فيما يستشهد بمقولة فحواها انه كلما اقترب الانسان من البحر المتوسط ازداد تشبثه بالحياة وكلما ابتعد عنه هان عليه الموت.
وإذا كانت أسكندرية محمد جبريل تختلف عن اسكندرية ادوار الخراط الذى هام فى "ترابها الزعفران"، فهى تختلف أكثر عن صورتها عند البريطانى لورانس داريل صاحب رباعية الإسكندرية التى توصف بعوليس العصر الحديث، وهى العمل الروائى الكبير الذى ظهر اول مرة بالانجليزية والفرنسية فى نهاية الخمسينات وبدايات الستينات من القرن العشرين.
وولد لورانس جورج داريل عام 1912 وتوفى عام 1990 ومع ان ابداعاته تعددت كروائى وشاعر وكاتب لأدب الرحلات، فإن شهرته ذاعت بفضل رباعية الأسكندرية على وجه التحديد، بينما استمرت الأسكندرية ببحرها تلهم المبدعين فى الغرب وتزين عناوين الكتب ومن بينها مجموعة شعرية اختار مؤلفها البريطانى لويس دى بيرنيريه ان يستلهم مددا من روح عاشق يونانى لتلك المدينة المصرية ذات الطابع العالمى وهو الشاعر اليونانى الراحل قسطنطين كفافي.
وكفافى الذى ولد عام 1863 وقضى فى عام 1933هو بحق احد البنائين العظام لصورة الاسكندرية فى المخيال الثقافى العالمى وهو المثقف الكبير الذى يعبر بدقة عن مدى التواشج بين الأسكندرية واثينا ومن ثم فان القاص والشاعر البريطانى لويس دى بيرنيريه -قد اختار لكتابه الذى صدر بالانجليزية عنوان:"مخيال الاسكندرية.. قصائد لذكرى كفافي".
ولويس دى بيرنيريه حريص دوما على ان يعرف نفسه بأنه "شاعر قبل وبعد كونه قاصا" موضحا ان الشعر كان منبع الهامه الروائى ومحركه فى مسيرة الحكى وتعد مجموعته الشعرية اول ديوان ينشره وقد نذره لتكريم قسطنطين كفافى ذلك الشاعر اليونانى الذى عاش فى الاسكندرية واقترن بها اغلب سنوات العمر واحتواه ثراها .
وفى صحيفة الأوبزرفر البريطانية، قالت الناقدة كاتى كيلاواى، إن لويس دى بيرنيريه يبدو مفتونا بالشاعر الذى كان مفتونا بدوره بالإسكندرية وبحرها ليخرج القارئ فى نهاية المطاف راضيا مرضيا وتلك سمة الإبداع الحق.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة