لعل أخطر ما داهمنى فى الأيام األخيرة، من حياة والدى، وهو على فراش المرض، عندما نظر إلىّ تلك النظرة وعلت شفتيه ابتسامة مباغتة مطمئنة مراوغة وقال لى" :يا واد يا محمد مافيش همة" أيقنت حيئذاك أن شيئا سيحدث، مما جعلنى فى حالة من الضغط والارتباك لم تتركنى حتى الآن.
لم يقل والدى مثل تلك الكلمات من قبل، حتى عندما داهم المرض اللعين الجميلة سوسن، كان يعمل مبتسما وصابرا ومؤكدا: أنه لن يسمح أن يحدث شىء لسوسن أو أن يداهمنا إحساس أن مرضها قد أربك الأمور لديه أو لدينا نحن فى المنزل، حتى عندما جلست فى المنزل عاطلا فترة كبيرة بدون عمل، وقد كان بإمكانه بمحادثة تليفون، أن يحل المشكلة، لكنه قال لى: إنها مشكلتك أنت، ولا يجب أن تجلس تبكى أو منتظرا أن يفعل لك أحد شيئا، أو تعتمد على أقدام وأيدى الآخرين، وأن العالم والدنيا أمامك، افعل ما شئت، لكن الذى يحزننى حقا أننى الآن أجلس فى انتظاره، أذكر عندما كنت أجلس أمامه ويفرد كف يده وبها بعض النقود، وعندما أهم بمد يدى لأخذها أجدها وقد تحولت إلى قطعة من الشكولاتة أو قرطاس طعمية ساخن، وفى زهق أقفز لكى اقتنصها فتسيح الشيكولاتة وتنز أقراص الطعمية الزيت، فأبدأ فى البكاء، فيضحك - ويبدأ فى إخرج بيضة من أذنه يصالحنى بها وعندما أمسكها فى يدى أجدها وقد تحولت إلى فيل وعندما أركبه أجده قد تحول إلى زرافة أو نملة أو بساطا سحريا.
وهو الآن و كأنه معى، يتجول معى ويدلنى ويرمز لى بأشياء كثيرة قوية، لدرجة أننى أصرخ وأقول له: لم أعد أحتمل كثرة التوجيهات والأوامر والتعليمات، فيبتسم ويخلع جلبابه ليظل عاريا خارجا توا من الغابة أو بحر الصحراء أو الحمام ليقول لى: شيل العكارة من على وشك، وأن أحسن حل لأى مشكلة أنه لا يوجد حل، وعندما يجلس فى الشرفة، ويغالبه النعاس وفى تلك اللحظات أدخل فى مشاحنات مع أمى، بسبب عدم كى قميص أو التأخر فى تنظيف بعض الملابس، فإننى أعلم أنه كان يسمعنا، لقد كان يسمع الصمت، لأنه بعد أيام سوف يداهمنى بأنه لا داعى لأن أتشاجر مع أمى على مسائل بسيطة، بل إنه كان يرى وهو نائم، كان قادرا على الإحساس بنا بدرجة كبيرة، وعندما كنت أقول له إننى خارج، فيقول لى: هل معك نقود؟ فأقول: نعم، فيبتسم وينظر لى وهو يعلم أن جيبى خالٍ من أى رائحة للنقود، فيقول: افتح الدولاب وخذ ما تريده، وعندما آخذ ما أريد، يصرخ وينادى على والدتى وأخوتى زاعقا: لقد بدد الوريث ثروتى، كان شديد الإحساس بنا جميعا حتى الذين قد دخلوا معه فى عداوة سواء من الأقارب أو الأصدقاء، فقد علمنى شيئا لا أزال أفعله حتى الآن، وهذا ما يبدو غريبا علينا فى تلك الأيام، وهو أننى أخذ مفكرة التليفون، وأبدأ فى الاتصال بالأصدقاء والأقارب فى المناسبات والاطمئنان عليهم، حتى وهم لم يتوقعوا ذلك مطلقا،فقد كان قادراً على امتصاصنا بهذا الشكل والقوة والبراءة لكى يصل إلى حالة من التصالح مع نفسه ومع الآخرين ومع الله.
لم أصادف أو أصادق شخصا مثله من قبل، لقد كان والدى يحسن استقبال ضيوفه وأصدقائه وقاصديه وتلاميذه، يقوم ويفتح الباب على مصراعيه، ويستقبلهم بابتسامته الضخمة التى تبتلعهم وتطمئنهم، وفى ثوان يكون الضحك قد ملأ الدنيا، لقد رأيت خلقا كثيرين يأتون إلى منزلنا كى يغسلوا همومهم وتعبهم وحاجتهم، وبنظرة مستجابية ثاقبة متفحصة ينادى على سوسن أو ينادينى ونميل ناحيته وننصرف لنأخذ من دولابه مبلغا من النقود نضعه فى ظرف أو فى يده، بدون أن يحس الضيف بأى شىء، ويذكر ذلك الكثيرون من تلاميذه وكيف كانوا يقصدون منزلنا، فى أى وقت عندما تعتصرهم العاصمة الخشنة، ليحسوا بالدفء والشبع والانصراف ببعض الطمأنينة والتى تؤكد لهم أن العالم لا يزال جميلا.
المدهش، أن أشد ما كان يؤلمه فى الفترة اأاخيرة قبل رحيله، افتقادنا للخيال، فقد كان يعرف قيمة الكلمة وقيمة الأحلام، قال لى ذات مرة: أن أزمة مصر الآن، ضيق الأفق واندثار الخيال وعدم وضع الأشياء التى تحدث حولنا فى نصابها الصحيح، وكيف قال لى ذات مرة :أن الحل هو النظام، وكيف أن هذا البلد عندما نُظم، فتح الدنيا حتى أبواب الأستانة، وكيف أنجز هذا البلد مشروعا عملاقا مثل السد العالى وكيف عبرنا بتلك الجنود، التى عادت محطمة من النكسة، هكذا كان يرى ما يحدث حولنا، كان يضحك ويقول: أنا يا واد يا محمد- حاربت وحوصرت، وحاربت وانهزمت وحاربت وانتصرت.
أعرف أننى اختلفت معه كثيرا، لكنه كان دائما على صواب، هذا الذى أحس به الآن، لأننى أقوم بكل شىء كان يطلبه منى وكنت أرفضه، أقوم به بنشاط وحماس كأنه يقف يراقبى وينبهنى، وأتساءل: هل الذى أفعله سوف يفرحه أو يزعجه، ولم يزل هو الوحيد القادر على جمع شمل العائلة، وعندما كان ينادى وهو نائم فى غرفته: يا محمد فيه رائحة سجائر، فأضحك، فحتى وهو نائم يعلم ماذا أفعل إذا كنت أذاكر أو أدخن، فما بالكم وهو الآن فى رحلته الأبدية، لكنه يعلم كل شىء، قد يحزن أو يغضب أو يضحك، لكنه من المؤكد يعلم كل شىء، يداهمنى فى منامى وعملى بشكل يربكنى حقا، كان يتمتع بفن اكتشاف الحياة والناس، هذا الفن الذى لا يمتلكه إلا شخص مشدد المطالب إزاء الحياة، هذا الفن الذى تخلقه فقط الرغبة الحارة فى رؤية الناس بسطاء، متجانسين، فذات مرة وكنت صغيرا، عاد من العمل وهو يحمل صورة ضخمة للرئيس جمال عبد الناصر تحت ذراعيه وعلى وجهه ابتسامة المنتصر، وبعد أن كبرت عرفت أن هذه الصورة كانت السبب فى خصم من راتبه وسجنه فى حجرة كان مسجونا فيها قبله الكاتب محمد عبد الحليم عبد الله، معاقبا من طه حسين، ولذلك فإننى مصمم على الاحتفاظ بكل شىء كان يحبه والدى.
بكل المقاييس حتى بمنطق العداء والكراهية، كان والدى رجلاً بسيطاً عظيما، وأعتقد أن ملامحه و تكوينات جسده الضخم لم أجد لها مثيلا يحتذى به، غير الشبه بينه وبين الزعيم جمال عبد الناصر، نفس الابتسامة والنظرة والاستدارة التى يتكون منها الأنف والعيون والخدود والرأس والجسد، إنه الفلاح الصعيدى الذكى اللماح الطيب، كان دائما يؤكد ويلح لى على ضرورة وضع العدو الإسرائيلى تحت منظار المعرفة دون التفريط فى أصول العداء، وكان السؤال ماذا نعرف نحن الأجيال الحالية عن إسرائيل؟ فى حين أن إسرائيل تعرف وتحلل وتمحص كل النتاج العقلى والوجدانى الذى تفرزه مصر بجميع أجيالها.
أبتسم وأنا أتذكره وهو يطاردنى أو يلاعبنى أو يسبنى، أمام قاعة سيد درويش أو أسفل نفق الهرم أو فى مدخل مدينة سقارة أو على بسطة السلم أو داخل دورة المياه أو فى دار الأوبرا كى أذاكر دروسى أو حتى لا يعلو صوتى فى المنزل.
كان والدى ابن بلد، وعندما أنتظره على رصيف محطة قطار الجيزة، أحمل عنه الحقائب، ويقول لي: هل سنذهب للمنزل بدون شيء، و هو مرهق من السفر، فيقول:انتظرنى، فيخترق حوارى الجيزة المزدحمة مستعينا بالرب أن يسهل له أموره، ليخرج محملا بالفاكهة والحلويات وأشياء كثيرة كانت تسعدنا فى المنزل، كان لديه القدرة على التفكير فى كل شىء، وفى أى وقت.
لم أعى أننى أحبه بهذا الشكل، هل أحبه قدر البحر والسموات و الأرض والحبوب والفراشات والورود ودقات القلب والنبض والشمس و الأنهار والطيور والخير والرمال والجبال؟ أعلن أننى أحببته أكثر من ذلك، فقد أصبح لى هواء جديد أتنفسه و عين أرى بها و عقل أفكر به، وقلب ينبض نبضات حقيقية، أعلن أننى غارق فى والدى مستجاب.
علمنى والدى أن الحكمة لا تلقن، بل تكتسب، لذلك فقد اكتسب حكمته من العمل والأصدقاء والناس والسفر والخروج للآفاق والرؤية الثاقبة للأشخاص والجماد والشمس والهواء وهذا ما جعله يعبر عنهم أصدق تعبير، لقد ذهبت إلى ديروط الشريف بعد رحيله، لأجدها ولأول مرة قد عرفته أو تتحدث عنه بكل هذا الحب والوضوح والحماس واليقين، أطلب منكم أن تدخلوا ديروط الشريف الآن، ادخلوها تحت لفح الشمس أو فى منتصف الليل، تسللوا إليها أو اقتحموها، ستجدون فى كل مبنى و حارة و شارع، وفى وسعاية السويقة، تحت كل لسان، فى مجال البصر، وتحت طبلة كل أذن، وسط نيران الفرن وأسفل محفة الخبيز، وفى عمق ماجور به يدان تعجنان، فى جداول وقنوات وترع ديروط، فى مذبح الكنيسة وأعتاب الدير المحرق ودير درنكة، وأسفل منبر جامع الأمير سنان و فوق مأذنة مسجد القرية الكبير، فى فوهات المقابر وفى السوق وعلى حافة المزارع وفى قلوب الغيطان، ستجدهم يتحدث عن مستجاب، يتحدثون عن مؤرخهم وحكيمهم.
ولأننى أضيق بمن ينصحنى أو يعظنى أو يوجهنى، فأنا الآن أجلس أعمل منظرة لكى ينصحنى ويعظنى ويوجهنى، رائق الجوانح مستمتعا بالتعليمات والتنبيهات، بل إننى خائف من التقصير فى الفعل، فيغضب ويثور على و يقرر عدم زيارتى أو توجيهى، لا تعلمون كيف أننى فى أشد الاحتياج إليه، بل إننى أقوم بأشياء غريبة بالفعل، بعد أن نقلت كل أشيائه، إلى (جحر) بمدينة السادس من أكتوبر مكونا "دوار آل مستجاب " إننى أترك جميع مداخل الجحر من أبواب وشرفات ونوافذ مفتوحة، وأقوم دائما بترتيب وتنظيف مقتنياته وكتبه، حتى لا يأتى ويجد شيئا متسخا أو يأتى فيجدنى لم انته من الذى طلبه منى، لم أعد أهمل أشيائى أو أتركها لشخص آخر يقوم بترتيبها – ماذا فعل بى والدى؟ لماذا يراقبى أنا بالذات دون أخوتى؟ لماذا جعلنى أحمل صولجانه وأرث عرشه وأحمى ثروته المكونة من جحرين أحدهما فى ديروط الشريف والآخر فى مدينة أكتوبر ومكتبة ضخمة وحزمة أقلام سليمة و بك أب وأسطوانات لبتهوفن ومحمد فوزى ودستوفسكى وعبد الوهاب موزارت وبنتان وولد وأم، ومجموعة من الأحفاد فى زيادة دائمة، الجميع فى عمله وعالمه – لماذا كل هذه الأحلام والأحمال و الآمال على كتفى أنا؟ و لماذا اسمى محمد محمد مستجاب ؟لماذا – لماذا؟.
ومنتظرا أن يداهمنى والدى، بحكمته فى ذكرى رحيله للإجابة عن كل شىء فى عقلى وقلبى ومستقبلى.