لقد كان من النادر جداً، حتى مطلع القرن العشرين، أن يقوم أى مصرى أو حتى عربى بتأريخ رحلة الحج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة عبر كتاب مطبوع أو بشكل مرئى عبر الصور الفوتوغرافية. ولذلك، فإن مذكرات محمد على أفندى السعودى، وملاحظاته المكتوبة، التى تم اكتشافها مؤخراً، بالإضافة إلى الصور الفوتوغرافية المصاحبة لها، جعلت منه شاهدًا استثنائيا على رحلة الحج إلى مكة.
واليوم، ونحن نعيش شعائر الحج، يأتى كتاب "مصور فى الحج.. رحلات محمد على أفندى السعودى" (1904 – 1908) من تأليف فريد قيومجى كجيل وروبرت غراهام، ونقله إلى اللغة العربية الدكتورى سرى خريس، وحرره الدكتور أحمد خريس، والصادر عن مشروع كلمة للترجمة، التابع لهيئة أبوظبى للسياحة والثقافة، فى طبعته الأولى لعام 2012، ليذكرنا بالعديد من التفاصيل التى مر عليها 10 أعوام بعد الـ100 على هذه الرحلات.
كان السعودى مسئولا ذى رتبة وسطى فى "الحقانية" أو وزارة العدل، وقام بمرافية القوافل المصرية الرسمية المتجهة إلى مكة لأداء فريضة الحج فى شتاء عام 1904، والشتاء الذى امتد بين عامى 1907 – 1908. لقد سافر السعودى إلى مكة فى الفترة التى شهد فيها الشرق الأوسط تغييرا عظيما، فلقد ضعفت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، على نحو سريع، على تركيا، التى كانت على وشك أن تقوض النظام الحاكم السابق.
ولد السعودى فى القاهرة عام 1865، وكان يمثل طبقة المتعلمين التى ظهرت ضمن الطبقة الوسطى فى مصر، ووقعت تحت التأثير الثقافى والاجتماعى والتكنولوجى والأوروبى، بالإضافة إلى التيارات الجديدة التى أفرزها الفكر القومى والإصلاحى فى مصر.
وعلى الرغم من سعى الإمبراطورية البريطانية آنذاك إلى ضمان الاستقرار السياسى فى مصر، فإنها سمحت بقدر من الجدل الفكرى ولاسيما بين المعارضين للحكم العثمانى من أمثال جمال الدين الأفغانى. أعجب السعودى بأفكار الأفغانى السياسية ومبدأ الإصلاح الدينى الذى نادى به المعلم الشيخ محمد عبده الذى قام بمصادقته.
وهكذا تمكن السعودى محمد الجمع بين أفكار المسلم الورع ومشاهدات المفكر الواعى المثقف، وفضلا عن ذلك، كان السعودى مطلعا على تقليد الأوائل من العلماء الرحالة الأوروبيين أمثال السير ريتشارد بورتن (1821 - 1890)، وهو مستكشف ومستشرق عسكرى ومترجم إنجليزى، اشتهر من خلال ترجمته لكتاب "ألف ليلة وليلة" وكان بورتن من الأشخاص غير المسلمين الذين حجوا إلى مكة والمدينة عام 1855.
كما تأثر السعودى أيضًا بجون لويس بوركهاردت (1784 - 1817)، وهو رحالة ومستشرق سويسرى، كان الدين الإسلامى مثيرا بالنسبة إليه، وبخاصة عندما ذاع صيت الدولة السعودية الأولى عام 1745،ن عندما أعلنت عدم شرعية خلافة آل عثمان، رافق بوركهاردت الحجاج الأفارقة إلى الشرق متنكرا بشخصية رجل مسلم ألبانى اسمه الحاج إبراهيم، واشتهر بوركهاردت بإعادة استكشاف آثار مدينة البتراء.
لقد كان محمد على أفندى السعودى مولعا بالدراسة لدرجة أنه اقتنى ترجمة مكتوبة بخط اليد لكتاب بوركهاردت "رحلات فى شبه الجزيرة العربية". ويشبه اهتمامه الصارم بالتفاصيل، اهتمام العالم المصلح الذى جمع بين وعى جاد للغاية وحس عميق بالعدالة الاجتماعية.
من الواضح أن السعودى كان شديد الافتنان بفن التصوير الفوتوغرافى والحكايات التى روجت لها تلك الصور الفوتوغرافية. ففى إحدى المراحل، وبعد أن قام بتصوير جبل النور، وهو الجبل الذى يحتوى على كهف حراء، والذى ظهر فيه جبريل عليه السلام أمام ناظرى النبى محمد صلى الله عليه وسلم، ونزل عليه الوحى، قال السعودى: "آمل أن تترك هذه الصور الفوتوغرافية أثرا بارزا لا يمكن نسيانه".
مع تغير الطبيعة المادية للحج ذاته، بسبب الطريق البحرى الممتد من السويس حتى جدة، الذى جعل وصول الحجاج إلى الأراضى المقدسة أسرع وأسهل مما شجع المزيد من الأشخاص على الخروج إلى الحج. تضاعف عدد حجاج القوافل المصرية فى الفترة الواقعة بين رحل الحج الأولى التى قام بها السعودى، ورحلته الثانية التى اصطحب فيها والدته.
فى رحلة الحج الثانية للسعودى، عين مصور رسمى مرافق لعلى بهجت بيك، أول عالم آثار مصرى مسلم، ليقوم بتصوير النصب التذكارية والآثار القديمة فى الحجاز، وقد أسهمت علاقة السعودى بعلى بهجت فى توثيق صلة الأول بالسياسيين المصريين دعاة التطور والتغيير.
كان التصوير الفوتوغرافى عملاً خطيراً للغاية، وينطوى على مجازفة كبيرة، ويعزا ذلك إلى شعور المسلمين، بالارتياب وخشية الكثير منهم أن تسرق صورهم. ويصف السعودى فى كتابه العديد من الحوادث التى اتهمه فيها رجال القبائل أنه قام بسرقة روح شخص ما، وتسبب فى موته لقيامه بتصويره، وعرضته مهنته إلى اتهامه بأنه جاسوس يعمل لصالح الحكام فى الدولة العثمانية أو لخدمة المصالح الإمبريالية للبريطانيين.
وفى كتابه، يتحدث السعودى بإسهاب، دون أن يشعر بالحرج، عن الظروف المروعة التى يعيشها الحاج، فى مفكرته التى استخدمها لإعداد محاضرة ألقاها بعد عودته من رحلة الحج الأولى، ويقول: "لقد انقضى ثلاثة عشر قرنا ولم يستغل المسلمون الفرصة لإعداد نظام شامل من شأنه تسهيل السفر لأداء فريضة الحج".
لقد حرص السعودى خلال رحلته إلى الحج على تسجيل التواريخ حسب التقويم الهجرى والميلادى بدقة متناهية، كما استخدم كاميرا من نوع ستيريو – بالموس إيكا، وهى الكاميرا ذاتها التى تطورت عنها كاميرا ليكا الألمانية الصنع.
ويضم الكتاب مجموعة من الصور الفوتوغرافية النادرة التى تعكس الثقافة الإسلامية والمفاهيم الاجتماعية التى ارتبطت بشعيرة الحج كما عاشها السعودي. يصف السعودى عبر هذه الصور تغير الطبيعة المادية للحج ذاته، وذلك بسبب الطريق البحرى الممتد من السويس حتى جدّة والذى جعل وصول الحجاج المصريين إلى الأراضى المقدسة أسرع وأسهل مما شجع المزيد من الأشخاص على الخروج إلى الحج. لذلك تضاعف عدد الحجاج فى القوافل المصرية فى الفترة الواقعة بين رحلة الحج الأولى التى قام بها السعودي، ورحلته الثانية التى اصطحب فيها والدته معه.
يناقش الكتاب أيضاً كيف باتت وسائل مكافحة الأمراض أكثر صرامة وكيف سعت السلطات البريطانية إلى منع انتشار الكوليرا ناحية الغرب بسبب الحجاج المسلمين القادمين من الهند وخاصة بعد ظهور نوع جديد من البكتيريا المسبّبة للكوليرا فى عام 1905 فى إحدى محطات المحمل الواقعة فى الطور (Al-Tor) على ساحل سيناء، حيث اكتشف وجودها مجموعة من الأطباء الذين قاموا بفحص الحجاج العائدين من الأراضى المقدسة.
ولقد نتج عن وصف السعودى لرحلاته أربعة مجلدات من يومياته التى وصل عدد صفحاتها إلى مئتين وخمسين صفحة فولسكاب (ورق كبير القطع) خطها بخط مصقول جميل، بالإضافة إلى العديد من الملاحظات. ولقد كتب معظمها بقلم الرصاص بينما كان على ظهر الجمل مسافراً وقد جلس على الشاكداف وهو نوع خاص من المقاعد المخصصة للحجاج المسافرين على ظهر الجمال ويتكون من إطار خشبى ثُبّت فوقه مقعد مُبطّن افترش ظهر الجمل.
مؤلفا الكتاب: فريد قيومجي، وهو باحث متخصص فى أدب الرحلات المتعلق بالشرق الأوسط، وما يحويه من وثائق تاريخية، ووصف لرواسم حجرية، وصور فوتوغرافية تعود إلى القرن التاسع عشر على وجه الخصوص.
أما روبرت غراهام، فهو صحافى مستقل يعيش اليوم فى باريس وجنوب إسبانيا. منح فى عام 2004 وسام الفروسية الشرفية برتبة ضابط الإمبراطورية البريطانية (OBE: Officer of British Empire) لما قدمه من خدمات جمة للصحافة والإعلام.
ومترجمة الكتاب الدكتور سرى خريس، الأستاذ المشارك فى النقد والأدب الإنجليزي، حصلت على درجة الدكتوراه من الجامعة الأردنية عام 2001، وتعمل حالياً فى قسم اللغة الإنجليزية فى جامعة العلوم التطبيقية الخاصة فى عمان- الأردن. تنصب اهتماماتها على الدراسات النسوية والأدب العالمي. من أعمالها المترجمة: الإسلام والاستشراق فى العصر الرومانسى: مواجهات مع الشرق لمحمد شرف الدين، والمؤلف لأندرو بينيت، وتسلق أشجار المانغا لمادور جافري، وجميعها صادرة عن مشروع "كلمة" للترجمة- هيئة أبوظبى للسياحة والثقافة.