إذا صح القول إن الحب يتجاوز المنطق وحسابات العقل فهل يصح القول أيضا بأن "الحب أعمى"؟!..هذا هو سؤال المثقف ورجل الشارع معا، وفى الآونة الأخيرة سعى مثقفون للإجابة عن هذا السؤال بصيغ متعددة.
ففى قصته الجديدة "الحب أعمى" يتناول الكاتب ويليام بويد قصة حب مابين عازف بيانو اسكتلندى ومغنية أوبرا روسية ويحاول أن يجيب عن سؤال :"هل الحب أعمى؟" عبر الخيال الإبداعى لهذا الكاتب الاسكتلندى الذى يبلغ من العمر نحو 66 عاما.
واتخذ هذا العمل الإبداعى فى القصة الـ 15 لويليام بويد طابعا تاريخيا رومانسيا عبر رحلة مابين اسكتلندا وفرنسا وروسيا، حيث يستدعى سيد القصة القصيرة فى العالم أنطون تشيخوف ليدلى بدلوه فى هذه القضية، وهو الذى أحب بدوره مغنية أوبرا تدعى "لايكا" ولايغيب طيفها أبدا عن المبدع الكبير كما تثير قصة "الحب أعمى" أسئلة عن العلاقة بين الحياة والفن والعلاقة بين الصدق والأداء وما إذا كانت الحياة الدنيا فى حقيقتها "لعبة حظ"؟
وإذا كان ويليام بويد يذهب فى قصته "الحب أعمى" إلى أن "نبضات الحب فى القلب قد تغير مسارات الحياة والتاريخ وبصور كثيرا ما تتناقض مع المنطق أو العقل" فإن رجل الشارع فى كل مكان كثيرا ما يرى وقائع يردد معها مقولة "الحب أعمى".
وأحد الرموز التاريخية للثقافة العربية وهو الجاحظ قال منذ مئات الأعوام "إن العاشق كثيرا ما يعشق غير النهاية فى الجمال ولا الغاية فى الكمال ولا الموصوف بالبراعة والرشاقة ثم إذا سئل عن حجته فى ذلك لم تقم له حجة" !.
ولعل سؤال "هل الحب أعمى؟" ينسحب بصورة أو أخرى على الكاتب الأمريكى الراحل جون شتاينبيك صاحب رواية "عناقيد الغضب" والذى يعد من مبدعى القرن العشرين فيما حمل بقسوة على زوجته جوين كونجر بعد طلاقهما حتى أنه كشف عن أنه استوحى شخصيتها لتكون شخصية من الشخصيات الشريرة فى روايته "شرق عدن" التى صدرت عام 1952 وفى المقابل وصفته زوجته جوين فى مذكراتها بأنه كان "ساديا وزير نساء".
والحقيقة أن جوين كونجر لم تنشر هذه المذكرات، فظلت مجهولة لفترة طويلة، إلى أن اكتشفت مؤخرا فى ويلز لتجد طريقها بسرعة فى عالم النشر وتصدر ككتاب جديد يكشف أسرارا فى حياة هذا الكاتب الأمريكى النوبلى الذى ولد فى السابع والعشرين من فبراير عام 1902 وقضى فى العشرين من ديسمبر عام 1968، وتزوج من قبل من كارول هينينج، والتى عرفت بدعمها لزوجها وهو يكتب أعماله الروائية الأولى مثل "شقة تورتيلا".
وسؤال :"هل الحب أعمى" موجه بالضرورة لجوين كونجر الزوجة الثانية لصاحب "شتاء الأحزان" و"مراعى الفردوس" و"المهر الأحمر" و"شرق عدن" والتى قضت فى عام 1975، فيما صدرت مذكراتها التى بقت طويلا طى الكتمان فى كتاب جديد بعنوان :"حياتى مع جون شتاينبيك".
فالقارئ لهذا الكتاب الجديد يجد اتهامات خطيرة لجون شتاينبيك ومن ثم فلابد أن يتساءل عن السبب الذى دفع جوين كونجر للارتباط برجل وصفته بأنها جعلها عبدة من العبيد وأن تستمر معه كزوجة فيما كان قد التقاها لأول مرة فى عام 1938 وهى تعمل كمغنية فى ناد ليلى لكنه سيجد الإجابة عندما قررت جوين الانفصال عن زوجها الكاتب الكبير وعرفت أن "الحب أعمى أحيانا".
وتقول جوين كونجر إن جون شتاينبيك قلما كان يلتفت لها أو لابنيهما وفى حالة تعرضهم لأى متاعب تستدعى تدخله كان يتهمها بأنها "تعكر صفو تفكيره وعمله ككاتب بينما كان يدلل جرذا أطلق عليه اسم بورجيس" مضيفة أن تصرفاته أفضت "فى لحظة من اللحظات لموت الحب ومن ثم كان قرارها بالانفصال والطلاق".
وناشر الكتاب الجديد لم ير فى هذه المذكرات نوعا من الإساءة العمدية لتاريخ وسمعة كاتب كبير بقدر ما اعتبرها "محاولة للبحث عن معنى العدالة فى الحب" معيدا للأذهان أن جون شتاينبيك تزوج للمرة الثالثة من فتاة تدعى إيلين كانت قد نشرت أيضا كتابا عن حياتها مع صاحب "فى مغيب القمر" و"كأس من ذهب".
وليس كل المبدعين على أى حال مثل جون شتاينبيك، فالفنان الأسبانى الكبير سلفادور دالى، الذى ولد فى الحادى عشر من مايو عام 1904 وقضى فى الثالث والعشرين من يناير عام 1989، قال عن زوجته وحبيبته جالا :"لولا جالا لما كنت شيئا" بل إنه كان يوقع على بعض لوحاته باسمهما معا.
فعندما اختارت الحسناء الروسية جالا شابا أسبانيا معدما يجوب شوارع باريس فى أواخر عشرينيات القرن العشرين
واسمه "سلفادور دالى" همهم البعض "الحب أعمى" وهم يتحدثون عن هذه الروسية الحسناء التى هام بها الشاعر الفرنسى الكبير بول ايلوار حبا وقال فيها "أحبك لأجل كل الأزمان التى لم أعشها..أحبك لأجل رائحة البحر والخبز الساخن..أحبك لأجل الثلوج التى تذوب والبراعم الأولى..أحبك لأجل الحب".
لكن جالا أجابت على الهمهمات والتساؤلات وهى تفضل شابا معدما على شاعر كبير قائلة "لا..إن هذا الشاب عبقرى" وبعد سنوات سيتبين أن جالا كانت على حق فيما بات سلفادور دالى أحد أعظم وأشهر وأغنى الفنانين عبر التاريخ الإنسانى.
أما أمير شعراء فرنسا لويس أراجون الذى وقع فى حب روسية جميلة أخرى تدعى "السا" وكان قد التقاها لأول مرة فى مقهى باريسى، فقد تحولت قصة حبهما إلى واحدة من أشهر قصص الحب فى النصف الأول من القرن العشرين، فيما استوحى هذا الشاعر الكبير الذى ولد فى الثالث من أكتوبر عام 1897 وقضى فى نهاية عام 1982 عنوان أسطورة العشق العربى "مجنون ليلى" لديوانه الشهير فى العشق الغربى "مجنون السا".
ومن الذى ينسى أن أحد أشهر الكتاب والمفكرين فى الثقافة الغربية وهو جان جاك روسو غير مذهبه بعد أن وقع فى غرام الفاتنة "دو فارين" معتبرا أن "مذهبا تعتنقه حورية بهذا الجمال لابد وأن يقوده إلى الفردوس".
ومن طرائف الحب الأعمى ما فعله الفيلسوف الألمانى نيتشه الذى كان قد خرج من تجربة حب فاشلة مع فتاة تدعى سالومى عندما شعر بالحب الجارف لإحدى الجميلات دون أن يعلم أى شىء آخر عن معطيات حياتها، فإذا به يكلف أحد الأشخاص بأن يبلغها برغبته فى الزواج منها وكان هذا الشخص بالتحديد هو زوجها.
والغريب أن سالومى التى أحبها نيتشه من قبل لم تكن جميلة بالمقاييس المتعارف عليها، ومع ذلك فقد هام بها حبا وقد ذكرت أن هذا الفيلسوف الكبير والمفكر والشاعر المبدع طلب منها الزواج ثلاث مرات لكنها رفضت.
وفى كتاب "رسائل حنة أرندت ومارتين هيدجر"، يكشف النقاب عن أسرار الحب لأحد أكبر الفلاسفة فى الغرب، وهو هيدجر صاحب كتاب "الوجود والزمان"، وقد يشعر البعض بالدهشة حيال فيلسوف مثل هيدجر عرف بشخصيته القوية وإرادته الحديدية بينما يقرأ فى مثل هذا الكتاب أنه "كان يبكى فى حضرة الحب"..هل هو "الحب الأعمى"؟.
وقد تبرز مقولة "الحب أعمى" على وقع ما قاله الكاتب المصرى أنيس منصور الذى ولد فى الثامن عشر من أغسطس عام 1924 وقضى فى الحادى والعشرين من أكتوبر عام 2011 "شىء غريب.. كل معشوقات الفلاسفة دميمات أو لسن جميلات ابتداء من أستاذ الجميع سقراط وأرسطو".
ويضيف أنيس منصور "حتى سالومى التى أحبها وانهار أمامها الفيلسوف نيتشه وعالم النفس فرويد والشاعر ريلكة لم تكن جميلة وإن كانت جذابة".. فهؤلاء الفلاسفة والمبدعون الكبار كما يقول عنهم أنيس منصور "ليس لديهم وقت للتفكير.. وفى لحظات الضعف يهيمون بهذا النوع من النساء".
ومن الطريف أن يردد البعض "أهل الحب صحيح مجانين" على وزن "أهل الحب صحيح مساكين" التى غنتها كوكب
الشرق أم كلثوم فى رائعة "سيرة الحب" التى كتب كلماتها الشاعر مرسى جميل عزيز، وهم يرون بعض ظواهر وتجليات الحب كقيام المحبين بحفر الحروف الأولى من أسمائهم على أقفال يلقون بمفاتيحها فى أنهار كالنيل فى القاهرة والسين فى باريس والتيمز فى لندن وبحيرة البندقية فى إيطاليا.
وإذ يذهب البعض الى أن المشاعر تتغير و"الحب يذبل بسرعة كالورود الجميلة ويتحول إلى أطلال" فأن الكاتب والأديب
الراحل إحسان عبد القدوس رأى أن "الحب الأول يبقى ولكن ومقفول عليه بالمفتاح".
وهكذا فإن هؤلاء المحبين الذين ابتدعوا ظاهرة "إقفال العشاق" على جسور الأنهار والبحيرات يسعون فى المقابل لتخليد قصص حبهم مهما بدت أحيانا خارج حسابات العقل ودواعى المنطق وكأن لسان حالهم يردد: "عيون المها بين الرصافة والجسر..جلبن الهوى من حيث ادرى ولا أدرى".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة