تمر اليوم ذكرى رحيل صاحب نوبل نجيب محفوظ (1911 – 2006) صاحب الأدب الرفيع والإبداع الوفير، ولقى نجيب محفوظ احتفاءً نقدياً مبكراً، ومن ذلك ما قدمه الشاعر والفنان المسرحى الشهير نجيب سرور (1932 – 1978) والذى قدم دراسة مبكرة فى ثلاثية محفوظ الشهيرة (بين القصرين – قصر الشوق – السكرية).
ويقول الكاتب اللبنانى محمد دكروب، إن نجيب سرور بدأ عام 1958 دراسته حول الثلاثية وهو في موسكو ليرسلها تباعاً إلى دكروب الذى كان يصدر مجلة «الثقافة الوطنية» التقدمية في بيروت فينشرها تباعاً على حلقات، ثم توقفت المجلة عن الصدور وضاعت بقية الفصول ونسي دكروب الأمر كما سهى عنه سرور نفسه، ثم بعد ثلاثين عاماً فيما كان دكروب فى مصر مجتمعاً إلى بعض أصدقاء سرور جاء ذكر نصّ سرور المحفوظى، وسُئل الناقد اللبناني قبل أن يَسأل هو، عما إذا كان يعرف شيئاً عن فصول لكتاب لسرور عن محفوظ نُشرت قبل ثلاثين سنة. وهكذا التقى نصفا الكتاب ليصدر بتقديم من دكروب ويشكّل مفاجأة أدهشت الأوساط الأدبية,
وفي الكتاب يقول نجيب سرور، "مهمتنا صعبة" بل غاية فى الصعوبة، فالرواية "بين القصرين" والروائى هو "نجيب محفوظ" فلتدخل إلى ما بين القصرين إلى عالم نجيب محفوظ، هذا العالم الرحب الشامل العميق الكبير المزدحم بمشاكل الفن ومشاكل الحياة، ولنعد أنفسنا للرحلة، فهي رحلة طويلة مع قلب يحتضن التاريخ.
ويذكر نجيب سرور إلى أن أحداث الرواية تدور في أثناء الحرب العالمية الأولى وتبدأ بالتحديد في 9 أكتوبر 1917، ويمكن تحديد الخطوط الرئيسة لتلك الفترة كما يلي، بأنها فترة نشوء البرجوازية المصرية في الريف وفي المدن، وإن البرجوازية المصرية هي يومها الطبقة النامية "التقدمية" التي كانت تتولى قيادة الحركة الوطنية، وأخيرًا أن المجتمع المصري كان ولا يزال مجتمعًا إقطاعيًّا؛ لأن الطبقة البرجوازية "التجار" والرأسمالية لم تكن قد سيطرت بعد على البناء الاجتماعي وإنما كانت تكافح في سبيل السيطرة عليه.
وفي هذا السياق نرى ملامح المجتمع الكبير في هذه الأسرة، فالأسرة تنظيم اجتماعي ينعكس عليه طابع التنظيمات الاجتماعية في مجتمع معين وفي فترة تاريخية معينة، ولهذا فنحن ننظر إلى المجتمع المصري من خلال اسم السيد أحمد عبد الجواد؛ لأنها صورة مصغرة مكثفة لهذا الواقع الكبير الصارخ بالتناقض وبالمعاناة.
ويؤكد المؤلف أن مفتاح الرواية هو أزمة المرأة من خلال شخصية "أمينة".. هي أزمة المرأة في المجتمع الإقطاعي. إن أمينة كائن بلا كينونة وبلا إرادة وبلا ذاتية، كائن مضغوط مقهور مطعون مسلوب الوجود مغلوب على أمره لا يتمتع بحق من حقوق الإنسان.
ويستخلص المؤلف بعض الدلالات التي توضح أن العلاقة بين السيد أحمد وأمينة هي علاقة على الترتيب بين "ذات" و"شيء"، علاقة غير متجانسة وغير متكافئة وغير إنسانية، قوامها الاستبداد المطلق في طرف والخضوع المطلق في الطرف الآخر تمامًا كعقد الإذعان على حد المصطلح القانوني، وهذا ينعكس على علاقة السيد أحمد بأبنائه فهي أيضًا علاقة ذات بأشياء. وأول بادرة تطل منها على الفتاتين "خديجة، وعائشة" تؤكد لنا أنهما تعيشان مأساة الأم، مأساة الشيئية على وجود المرأة في المجتمع الإقطاعي.
ولكن الملاحظ أن محفوظ يهاجم السيد أحمد في حدود الجزء الذي يتحمله من المسئولية عن الأزمة، أي الجزء الإرادي، باعتباره إرادة لها قدر من حرية إزاء النظام، وبصفته فردًا كان يمكنه أن يكون على كل حال أفضل مما هو لو شاء. والملاحظ أيضًا أنه يدافع عن السيد أحمد في حدود ما لا يتحمله من المسئولية عن الأزمة، أي الجزء اللا إرادي باعتباره إرادة مضغوطة هي الأخرى تروح تحت وطأة الجبرية الاجتماعية، جبرية الإطار الإقطاعي.
ويرى الكتاب أن نجيب محفوظ لم يحمّل السيد أحمد كل المسئولية، بل اتجه بالجزء الأكبر منها إلى الإطار الاجتماعي، فأصبحت القضية قضية نظام برمته لا قضية إرادة منفردة، وهذا مكسب كبير دون شك نسجله لكائننا بكل إعجاب.
وتعجب نجيب سرور من النقاد لعدم انتباههم إلى الكوميديا "الواضحة والبارزة جدا" في ثلاثية محفوظ مبديا دهشته من أن خط الكوميديا "فات كل نقادنا" رغم كون الكوميديا طابع أصيل للمزاج المصري الذي لا تستوقفه الا النكتة الصارخة غير المعتادة.
ثلاثية نجيب محفوظ