نواصل إلقاء الضوء على كتب المثقف الكبير أحمد أمين (1886-1954) والذى يعد واحدا من أبرز من مثقفى مصر، ونتوقف اليوم مع كتاب "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية".
يقول أحمد أمين فى مقدمة الكتاب: فى نحو سنة ١٩٣٨ طُلب منى أن أكتب سلسلة مقالات فى مجلة الإذاعة فاحترت فى اختيار موضوع تتعاقب مقالاته، وبعد ذلك هدانى تفكيرى إلى أن أكتب سلسلة مقالات فى العادات والتقاليد المصرية بعنوان دائرة المعارف المصرية أرتبها حسب حروف الهجاء، فبدأت بحرف الألف، وبدأت من حرف الألف بالإبرة أذكر على الأخص عقائد المصريين فيها والأمثال التى قيلت فيها، واستمررت على ذلك نحو أربع عشرة مقالة ولما يَنْتَهِ حرف الألف، ثم شاء القدر أن أُختار عميدًا لكلية الآداب سنة ١٩٣٩ فنصحنى بعضهم ألا أستمر فى هذه المقالات؛ لأنها تتنافى مع جلال العمادة، مع أنها كانت فى اعتقادى أجل من عميد.
ومضت السنون وتركت العمادة، وأخيرًا فى نحو سنة ١٩٤٨ سألنى سائل: هل كتبت فى مجموع مقالاتك هذه شيئًا عن أبى على وأم على وما معناهما؟ فأجبته، وهاجنى ذلك إلى أن أُتِمَّ ما بدأت فأخذت أجمع الماضى وأكمله، واستغرق منى ذلك نحو أربع سنين، ورأيت صعوبات كثيرة فى هذا الموضوع فلم أكن أعتمد إلا على الذاكرة غالبًا، وساعدنى أنى تربيت فى حارة بلدية تكثُر فيها العادات والتقاليد، وقد منحنى الله ذاكرة طيبة حفظت ما كان يجرى أمامها حتى مع التقدم فى السن، فأخذت أستذكر ما مضى، وكلما ذكرت عادة أو كلمة قيَّدتها من غير ترتيب حتى إذا تمَّت اجتهدت فى ترتيبها، وعرفت إذ ذاك فضل الخليل بن أحمد لما بدأ يجمع معجمه "العين" لا عن مثال يحتذيه وسلك فى ذلك مسلكًا دقيقًا بوضع الكلمة حسب مخارج الحروف وحذف المهمل منها، ولكنى لم أفعل ذلك بل اكتفيت بتقييد ما أذكره.
ثم رأيت أن كلمة "دار المعارف" كلمة فخمة لا تتناسب وهذا الكتاب، فتواضعت وسميته "قاموس العادات والتقاليد المصرية".
وأخيرًا كنت أجلس مع صديقى الأستاذ توفيق الحكيم فقص على أن مستشرقًا فرنسيًّا أراد أن يترجم كتاب "يوميات نائب فى الأرياف" فوقف عند ترجمة كلمة "كوز ذرة" وتساءل: ما معنى كلمة "كوز" هنا ثم ترجمها بكلمة "كوب من الذرة" وبذلك انحرف عن المعنى الأصلى، فلفت ذلك نظرى إلى أن هؤلاء المستشرقين وأمثالهم فى حاجة إلى شرح التعابير الشعبية، فأخذت أجمع هذه التعابير وأشرحها ولكنى وجدتها كثيرة جدًّا تحتاج إلى سنين فى جمعها فاكتفيت منها بعرض نماذج وتركت لمن يأتى بعدى حصرها والبحث فى إرجاعها إلى أصلها الذى أخذت منه، ثم رتبتها على حروف المعجم واضطررت من أجل جمعها إلى مطالعة فى كتب كثيرة شعبية، هذا إلى ما وعته الذاكرة.
وفى الحق أنى أعتقد أن المؤرخين قد قصروا فأهملوا الجوانب الشعبية عند كتابتهم التاريخ اعتزازًا بأرستقراطيتهم، مع أن الأدب الشعبى — فى نواحٍ كثيرة — لا يقل شأنًا عن اللغة الفصحى وأدبها، سواء من حيث فنها أو من حيث دلالتها على حالة الشعوب.
لم أستقصِ العادات والتقاليد المصرية فى جميع عصورها؛ لأن هذا عمل شاقٌّ طويل، بل اكتفيت بها فى العصر الحديث الذى عاصرته أو سبقنى بقليل.
وقد أقدمت عليه وأنا وَجِلٌ؛ لأنه موضوع جديد أظن أنى لم أُسبق إليه، والجديد عادةً غريبٌ، وأنا أعتقد أنه فتحُ بابٍ يكمله من يأتى بعدي، وقد دعانى إلى تأليفه ما رأيت من عادات وتقاليد وتعابير كانت حية فى زمنها ثم أخذت تندثر حتى إن أولادى قَلَّ أن يعرفوا منها شيئًا، فالمؤرخ فى حاجة شديدة إلى تدوينها والانتفاع بها.