عادل ميشيل يكتب:وهم الدولة الدينية

السبت، 17 أكتوبر 2009 09:24 م
عادل ميشيل يكتب:وهم الدولة الدينية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى فبراير من عام 1600 أحرق عالم الفلك غيوردانو برونو بعد اتهامه بالهرطقة، أى الخروج عن الدين حسب ماتراه الكنيسة، حصل هذا بأمر من محكمة فاتيكانية مختصة بخروقات قواعد الدين. جنود هذه المحكمة، وهو جهاز يخضع لسلطة رجال الدين، ساقوا غيوردانو من سجنه إلى ساحة الورود فى روما، حيث قيدت يداه وربط بعامود وأشعلت النار بالأخشاب.

غيوردانو نفسه كان قسا، ونشر فى نهاية القرن الخامس عشر عدة كتب عن الفلك، كتب بأن الكون لانهاية له، ولذلك لايمكن أن تكون الأرض مركزا له، فى كونه غير المحدود كان هناك عدد غير محدود من الشموس، وعدد غير محدود من الحضارات. مثل هذه التصورات لم تستطع الكنيسة الكاثوليكية القبول بها أو السكوت عنها. الكنيسة كانت تعتقد أن الأرض هى المركز، والإنسان خلق على شكل الله. غيوردانو لم ينكر وجود الله، إلا أنه كان يقول إن العالم أبدى تماما مثل الله، ومن أجل هذا الاعتقاد قدم حياته ثمنا، رافضا التخلى عن اعتقاده، فى دولة يحكمها رجال الدين، باسم الدين ونيابة عن الله.

محاكمة غيوردانو ما زالت محفوظة فى أرشيف الكنيسة، مع الكثير غيرها من الوثائق عن محاكمات مشابهة التى نفذت على خلفية تفسيرات دينية فى ظل الدفاع عن سلطة الطبقة المسيطرة فى الكنيسة. فى عام 1881 بدأت الكنيسة لأول مرة، تسمح بالوصول إلى الوثائق التى أقدم من عام 1922. والسبب الخوف من اكتشاف علاقة الفاتيكان بالفاشيست الألمان الأمر الذى يقلق الفاتيكان اليوم.
الشرطة الكنسية التى قادت غيوردانو إلى محرقته، كانت تعتبر شرطة المحافظة على القيم، شرطة تنفذ إرادة رجال الكنيسة فى سعيها لفرض تفسيرها الدينى على الآخرين.
هذه الهيئة البوليسية تشكلت عام 1231 وفى ذمتها دماء آلاف الضحايا، ولا تختلف كثيرا عن هيئة المطاوعة فى مملكة آل سعود أو الحرس الثورى فى جمهورية إيران الإسلامية، ومازالت التحقيقات التى انتهت بإعدام آلاف الضحايا الأبرياء محفوظة فى مكتبة الفاتيكان. وتشير الوثائق إلى أن الخوف من حرس الكنيسة كان شديدا وفى كل المستويات. هذه الهيئة البوليسية كانت تملك جهازا قويا من الوشاة أعضاؤه يعتقدون أنهم يدافعون عن إرادة الله. الوثائق تشير إلى أن كل الفضائح كانت تجرى باسم الله، وباسم تطبيق قواعده وتعاليمه.

الأرشيف يحوى أخبار الحرب على الهرطقة والكفار، على الساحرات، على طرق السيطرة على كبار الملوك. كما يحوى وقائع عن القدرة الكبيرة للفاتيكان على السيطرة على عقول المؤمنين، وتسيرهم ضد ملوكهم الأمر الذى كان يجبر الملوك على الخضوع للفاتيكان من أجل المحافظة على مُلكهم. لقد أجبَر البابا جورج السابع، ملك ألمانيا هنريك الرابع على الانصياع عام 1175، إلى درجة اضطرار الملك إلى السفر للفاتيكان من أجل طلب الصفح راكعا.
اليوم يقدم الفاتيكان اعتذاره إلى غيوردانو، باعتبار أن الكنيسة كانت على خطأ وغيوردانو كان على حق. هل يعيد التاريخ نفسه؟
نتابع سعى البعض لبناء دولة دينية، دولة يحكم فيها البشر باسم الله ونيابة عنه، دولة تقوم بفرض التصور الدينى للبعض على الآخرين، عاملة على تسييس الدين، تحت ظل مختلف الشعارات البراقة العامة مثل "الاسلام هو الحل" أو "شرعية لا وضعية" وحتى الادعاء بأن الديمقراطية مستوردة متناسين أن الدولة الدينية هى أيضا مستوردة.

وبالرغم من فشل كافة التجارب الدينية التى قامت فى العصر الحديث مثل دولة مملكة آل سعود والسودان وإيران وأفغانستان، إلا أن الأحزاب الدينية لا تشير إلى هذا الفشل إلا بتعبير أن هذه التجارب ليست إسلامية صحيحة أو أخطأت فى تطبيق الإسلام. رغم أن مشروعهم أيضا يصدر عن رؤية ذاتية للإسلام لا يوجد ما يدل على مصداقيته، أو أنه سينال حظوظا أفضل للنجاح.. هل يستطيع الإسلام أن يكون منبعا كاملا لبناء دولة حديثة؟

حتى الآن ترفض كافة الأحزاب والجماعات السياسية الدينية التى تدعو إلى بناء دولة دينية، طرح برنامج سياسى واقتصادى واجتماعى واضح يعالج المشاكل التى تقف أمامها الدولة الحديثة. يرفضون التكلم عن برامجهم ضد البطالة، عن قوانين العمل، عن التعامل مع الفكر الآخر، عن التعامل مع المواطنين من أتباع الأديان الأخرى.

إن تجارب مملكة آل سعود والسودان وإيران وأفغانستان لا تشير إلى أننا نتعامل مع أشخاص ذوى نضج حضارى، وإنما مع عبدة نص بمفهوم زمنى متحجر لا يرقى إلى مستوى التطور البشرى الحالى. إن الدول الدينية الحالية والقديمة لم تكن موجودة من خلال "قوانين" دينية بحتة وإنما من خلال إيهام مواطنيها بأنها موجودة بهم. فهل حقا توجد دولة دينية؟ وهل حقا توجد قوانين دينية بحتة لإدارة الدولة الحديثة؟
أم أن دولنا الدينية ستكون مجبرة فى القريب العاجل لطلب المعذرة من مواطنيها على انتهاكاتها لحقوق الإنسان وعلى فرضها وجهة نظر أحادية، تماما كما اضطرت أن تفعل سابقتها الدولة المسيحية؟








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة