استوقفتنى كلمات من أحد القراء تعليقًا على مقالة الأسبوع الماضى تقول: "نعم العطاء جميل، والكل الآن مطالب بالعطاء لأجل الوطن؛ لأن الوطن الآن محتاج منا جميعًا أن نعطى ونقدم التضحيات لرفعته؛ ليصبح وطنًا يليق بشعبه الكريم ويُعِيد مجده العريق" استوقفتنى الكلمات ووجدتُ نفسى أتحدث عن وطننا ومحبتنا له؛ تلك المحبة التى نحملها فى أعماقنا منذ نعومة أظفارنا.
إن الوطن يعنى الانتماء؛ فنحن نولَد على أرض الوطن فيحتضننا: بأفراحنا، وابتساماتنا، وأحلامنا، وآلامنا، ودموعنا نولَد وفى العمق العميق من قلوبنا محبة متأصلة تجاه بلادنا.
وقد يظن البعض فى أوقات الضيق أن هٰذه المحبة تختفى، إلا أن هٰذا لا يعبِّر عن الحقيقة؛ التى عرَفها واختبرها بالأخص كل من غاب عن مِصر فكل متغرب بعيد عن لا يزال يحمل وهو فى أرض غربته ذكريات وطن عاش فيه؛ بتقاليده وإن اختلف مع بعضها، وأشخاصًا عرَفهم وعاش معهم يبحث عن أشباههم فى مجتمعه الجديد! بل إنه ما يزال يتحدث لغته ويعلِّمها لأطفاله فى أرض غربته. إن محبة مِصر الوطن وانتماءنا إليه لا يُنتزعان من القلوب.
ومِصر ليست كأى وطن أو بلد من بُلدان العالم؛ إنها البلد الذى ذكر الكتاب عنه أنه يُشبه جنة الله: ".. كجنة الرب، كأرض مِصر"، وهى أرض الحكمة التى علَّمت العالم، ومازال علماؤها حتى اليوم يحاولون اكتشاف أسرارها وهى البلد التى بارك الله شعبها: "مباركٌ شعبى مِصر"، إنها بلد الأمن والسلام التى لجأ إليها عديد من رجال الله، فزارها إبراهيم خليل الله، ويعقوب وأبناؤه، ويوسُف الصدِّيق، ووُلد فيها موسى النبى كليم الله وتربى وتأدب بكل حكمتها. كذٰلك استقبلت مِصر العائلة المقدسة وهى هاربة من وجه هيرودُس الملك إليها.
كثيرا ما مرت ببُلدان العالم كبوات، وبقوة شعوبها وإصرارها وتحديها قامت من كبوتها لتنطلق فى أدوار ريادية وسْط دول العالم ومِصر التى مر بها كبوات صعبة على مر تاريخها العظيم نهض بها شعبها العظيم الأصيل المحب لترابها. فشعبها منذ عمق تاريخه وهو يواجه من هكسوس إلى تتار فبطالمة وكذا وكذا حتى حرر أرضها فى 1973 لقد واجه شعبها كل عدو حاول النَّيل منها أو اغتصاب أرضها على مر الأزمان.
وبلادنا مِصر تحتاجنا الآن وفى هذه الأيام خاصة أن نقدم إليها كل دعم ممكن لدينا، وأنا لا أقصِد هنا الدعم المادى فقط وهو ضرورى بلا شك ولكنْ ما أعنيه هو دعم شعب لوطنه بالإيجابية والتفاعل.
فإيجابية الشعب أن يدعم وطنه بالعمل الجاد الأمين والمخلص الذى به ترتقى الشعوب والأمم فلكى يتقدم وطن ويعلو، لا بد أن يكون الدافع إلى الرُّقى قلوب أحبت هٰذا الوطن، وعمِلت وأخلصت وتفانت من أجله بالجُهد والفكر والعمل.
أيضًا تدعم الشعوب أوطانها بالتفاعل إزاء ما يمر بها من أحداث؛ من خلال التكاتف بين أفرادها، والتشارك والتوحد على هدف واحد ألا وهو البناء، وقد شهِدت مِصر فى عديد من المواقف والأزمات التى مرت بها عبر تاريخها أيادى شعبها تتحد معًا وتعمل لأجل الوطن ورفعته فلم يعُد لدينا الوقت للاختلاف أو العداء، وإنما الوقت لنخُطّ معًا حاضرًا يرسُم لنا مستقبلًا يُعلى من شأن بلادنا، ويُعِيدها إلى دورها الرائد وسْط دول العالم قاطبة.
إن بلادنا تستحق منا أن نرتفع جميعًا بصلواتنا إلى الله لكى يحفظها مصونة، سالمة، حاملة الخير والبركات للعالم كله، وأذكر دائمًا كلمات مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث عن مِصر: "إن مِصر ليست وطنًا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا". وعن الحياة ما زلنا نُبحر ...
* الأسقف العام ورئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
مقال رائع كالعاده بالفعل مصر ليست وطنا نعيش فيه بل وطن يعيش فينا - ما اجمل هذه العباره
بدون