نعم.. فعلى الرغم من محاولات الحفاظ على هذه الكنوز العلمية من قبل الدولة وتأمينها، إلا أن ظاهرة مافيا سرقة المخطوطات وبيعها تستشرى بقوة على مرأى ومسمع من الجميع، وإذا استمرت هذه الظاهرة ستبكى مصر على ضياع تاريخها وموروثها الثقافى، وبعد ذلك ستصرخ وتستنزف جهودها وأموالها لتشكيل لجان من أجل استردادها، إن تمكنت من ذلك من الأساس.
بداية، يتم التواصل مع أعضاء هذه المافيا، بالاتصال التليفونى أو عبر الإنترنت، بهدف رؤية المخطوطات والتفاوض على سعرها، وينتهى الأمر ببيعها أو تهريبها خارج الوطن بحوالى 100 ألف دولار للمخطوط الواحد، هذا ما كشف عنه تحقيق "اليوم السابع" بعد التواصل مع بعض التجار الذين يقومون ببيع المخطوطات والكتب الأثرية.
اختفاء 21 مخطوطا نادرا من دار الكتب بالزقازيق
كما يكشف الدكتور عمرو عبدالعزيز منير، المؤرخ وأستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة جنوب الوادى، وعضو لجنة الفنون والتراث بالمجلس الأعلى للثقافة، عن اختفاء ما يقرب من 21 مخطوطا نادرا من دار الكتب بالزقازيق، مشيرا إلى أن هناك مافيا تضم تجارا مصريين تقوم بسرقة المخطوطات النادرة لبيعها إلى بعض الدول الخارجية مثل قطر.
وأوضح الخبير فى تاريخ العصور الوسطى لـ"اليوم السابع" أن دار الكتب بالزقازيق كان يحوى حوالى 233 مخطوطا بحسب مقال نُشره المفهرس عبدالرحمن عبدالتواب بمجلة معهد المخطوطات العربية فى عام 1957، إلا أن هذا العدد انخفض إلى 212 مخطوطا، علما بأن العدد الأخير تم نقله إلى القاهرة العام الماضى، متسائلا أين الـ21 مخطوط الآخرين؟
وأضاف منير أن المخطوطات كانت تحمل أرقاما من 2753 إلى 2986، مما يضع الكثير من علامات الاستفهام حول حقيقة عدد المخطوطات التى سلمتها دار الكتب بالزقازيق إلى لجنة الفحص والاستلام، مطالبا المسئولين فى دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، بضرورة البحث فى دفاترهم لمعرفة مكان تلك المخطوطات "المختفية".
تهريب المخطوطات لقطر واليونان
وأكد عضو لجنة الفنون والتراث فى المجلس الأعلى للثقافة، أن هناك تجارا يقومون بسرقة الكتب النادرة والمخطوطات الأثرية لبيعها إلى الدول الأخرى، وعلى رأسها قطر، قائلا: "هناك مافيا للمخطوطات كما فى الآثار"، مستشهدا بمحاولات تهريب بعض المخطوطات الأثرية من مطار القاهرة إلى اليونان فى أكتوبر 2011، كما أنه رأى مخطوطات مصرية نادرة عند زيارته لقطر فى وقت سابق.
وحمل منير مسئولية إهمال المخطوطات الأثرية على رؤساء المحليات ووزارة الثقافة، مضيفا: "مستعدون لتشكيل لجنة متخصصة لاسترداد المخطوطات والكتب المسروقة، ويمكننا رفع دعوى قضية لاستردادها"، مشيرًا إلى أنه من الصعب حصر جميع المخطوطات المسروقة، لافتًا إلى أنه رأى فى قطر مخطوطات عمرها 1000 عام، متسائلا "ما هو تاريخ الدوحة حتى يكون عندها مخطوطات قديمة جدا كهذه؟"، معربا عن اندهاشه وتعجبه من وجود مقابر وآثار مصرية بالمتحف الفنى الإسلامى فى قطر.
سرقة الطبعات الأولى لكتب نادرة
وأشار الخبير فى تاريخ العصور الوسطى إلى سرقة الطبعات الأولى من بعض الكتب الأثرية، قائلا: "على سبيل المثال سُرق كتاب نادر من دار الكتب بالزقازيق كان يتضمن ألبوم صور أسرة أحد سلاطين الدولة العثمانية".
وتابع "هناك تجار متعاونين مع قطر، ويتراوح سعر المخطوط النادر جدا ما بين الـ 50 ألف دولار، و100 ألف دولار"، مشيرا فى الوقت نفسه إلى سرقة خرائط أثرية ونادرة جدا توضح حدود مصر من مكتبة المعهد الدينى الأثرى بالزقازيق الذى تعلم فيه الشيخ محمد متولى الشعراوى- رحمه الله، موضحا أن هذه الخرائط تم سرقتها واستبدالها بأخرى مزيفة، وتم فتح تحقيق داخلى بالمعهد لمعرفة الجناة".
كتب نادرة سُرقت بالفعل
ومن أبرز الكتب التى سرقت، كتاب الخطط المقريزية بأجزائه الأربعة طبعة مطبعة النيل بمصر 1326هـ، وكتاب الكواكب السيارة فى ترتيب الزيارة فى القرافتين الكبرى والصغرى طبعة المطبعة الأميرية بمصر 1325هـ، 1907م، الطبعة الحجرية الأولى من كتاب أقوم المسالك فى معرفة أحوال الممالك، تأليف السيد خير الدين التونسى فى طبعته الأولى بمطبعة الدولة بحاضرة تونس المحمية 1284هـ، الطبعة الأولى لكتاب لمحة عامة إلى مصر تأليف كلوت بك مطبعة أبى الهول بجوار دار الكتب الخديوية، كتاب حسن المحاضرة للسيوطى 1907م، الطبعة الأولى من كتاب النيــــل فى عهد الفراعنة والعرب 1920م، تاريخ الكنيسة ليوسابيوس القيصرى 1887م، وكتاب أبدع ما كان فى صور سلاطين آل عثمان اعتنى بجمعها وطبعها سليم أفندى فارس مدير الجوائب 1900، بحسب ما قاله استاذ التاريخ.
وأكد منير أن تجار المافيا على علاقة ببعض الموظفين بهيئة دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة لتهريب المخطوطات النادرة خارج البلاد، لافتا إلى أن هناك تاجرا كان يعرض مخطوطا يهوديا للبيع بحوالى 20 ألف دولار على الأقل، وآخرين يعرضون مخطوطات تاريخية نادرة جدا بآلاف الدولارات.
مغامرة "اليوم السابع" مع مافيا المخطوطات
واتبع أعضاء المافيا وسيلة جديدة لاستقطاب العملاء الذين يريدون شراء المخطوطات النادرة والكتب الأثرية، حيث خصص معظم التجار صفحات لهم عبر موقع التواصل الاجتماعى "فيس بوك"، موضحين فيها طريقة التواصل معهم وأرقام تليفوناتهم، بجانب ترويج تلك المخطوطات والكتب المسروقة لبيعها وتهريبها على مرأى ومسمع من الجميع، ومن ثم توصل "اليوم السابع" إلى "سوق إلكترونى" للمخطوطات والكتب القديمة والنادرة عبر موقع "الفيس بوك"، وتحدثنا مع أحد تجار المافيا الذى كان يعرض مُصحفا أثريا للبيع، يعود تاريخه إلى عام 1058، ومكتوب بخط اليد منذ 377 سنة هجرية.
ولمعرفة المزيد من التفاصيل حول المصحف وهبته وأهميته التاريخية، اختلق "اليوم السابع" قصة بأننا نريد معرفة بعض المعلومات عن المصحف لشرائه وتهريبها خارج البلاد، وبدأنا بالفعل فى الحديث عبر مع التاجر - الذى ادعى أن اسمه "محمد" - وأكد أن المصحف يُقدر بنحو 50 ألف دولار، وقد عُرض على عدد من الشيوخ والكتاب المصريين واللبنانيين، وقُدر بأكثر من ذلك.
التفاوض مع التاجر لإتمام عملية البيع
ويضيف: "لو عايز تتفرج على المصحف نتفق على مكان فى القاهرة تشوفه ونبيعه بالمبلغ ده" فحاولنا خفض المبلغ إلى 35 ألف دولار لإتمام الصفقة، فقال: "صاحبه متمسك بالسعر ده، وممكن نحاول معاه ونقص منه 7 أو 8 آلاف دولار، مش أكتر من كدة"، وعندما أكدنا على ضرورة خفض السعر إلى أكثر من ذلك، قال "على فكرة تم تقييمه والله بأكثر من ذلك، من قبل شيوخ كتابين بمصر ولبنان وأكثر من بلد عربى، ولكن مش فاكر أسمائهم حاليا".
المصحف الأثرى كتبه مصطفى بن ذو الفقار يوم 10 جمادى الأول عام 1058 هجريا، وهناك فواصل بين الآيات مع برواز المصحف والحواشى وأسماء السور من ماء الذهب، ويصل عدد صفحاته إلى نحو 750 صفحة ووزنه 1.160 كيلو جرام، أما طوله فيبلغ نحو 23 سم، وارتفاعه 5 سم، وعرضه 14.5 سم، كما أن الآيات فيه ليست مرقمة، ويوجد بعض السور بأسماء مختلفة مثل سورة المسد أسمها سورة لهب، وقد تم عمل الوقف من الأمير حسن جاويش كتخدا وهو أمير عثمانى كان يحكم مصر آنذاك، بحسب قول التاجر.
وانتهى حديثنا مع التاجر على موافقته بلقائنا فى منطقة 6 أكتوبر لإتمام الصفقة حال موافقتنا على السعر الذى يريده، زاعما أن التاجر الكبير الذى يعمل معه يُدعى خالد، سيرفض خفض السعر عن 42 ألف دولار.
تاجر مخطوطات
أما تاجر المخطوطات النادرة والكتب الأثرية "م..ق" والمعروف بشغفه وحبه الشديد لهذا النشاط فى محافظة الجيزة، والذى ورثه عن أبيه، فإنه يعرض أطلس نادر بمبلغ 40 ألف دولار، حيث يعود تاريخه إلى عام 1218 هجريا، وقد طُبع فى إحدى مطابع الدولة العثمانية، ويضم مجموعة كبيرة من الخرائط القديمة، ويمتلك الكثير من المخطوطات النادرة ويروج لها دون خوف من أجهزة الدولة.
كذلك، يملك هذا التاجر، كتاب المحمل والحجج النادر، الجزء الأول، للمؤلف يوسف أحمد مفتش الآثار العربية سابقا، والذى يعود تاريخه إلى عام 1356 ه - 1937 م، ويضم مجموعة صورة نادرة لزعماء وملوك مصر خلال تلك الحقبة الزمنية، وعرضه للبيع بنحو 1000 دولار.
أسعار المخطوطات النادرة المهربة
ويوضح تاجر المخطوطات النادرة "م..ق" لـ"اليوم السابع"، أن سعر المخطوطات النادرة لديه يتراوح ما بين الألف دولار إلى 100 ألف دولار، مبينا أن إحدى أوائل طبعات المطبعة الأميرية ببولاق فى عهد محمد على باشا، يبلغ سعر نحو 1200 دولار، فى حين أنه يملك مخطوط مملوكى يضم 6 مجلدات سعره يصل إلى مئة ألف دولار.
مجلات وكتب نادرة معروضة للبيع
كما يملك عدد شهر يوليو 1954 لمجلة من اندر النوادر المنتدى الفلسطينية طبعة يافا الاميرة فوزية، إضافة إلى نسخة أصلية من كتاب النجوم الزاهرة فى ملوك مصر و القاهره طبعة أوروبا باريز، والذى ألفه المؤرخ ابن تغرى بردى (813 هـ - 874 هـ)، حيث بدأ فى كتابه بذكر فتح مصر على يد جيش المسلمين بقيادة الصحابى عمرو بن العاص، ثم بدأ بذكر ملوك مصر قبل الإسلام، ثم عقب بمن تولى خلافة مصر بعد الإسلام، ذاكرا أهم الأحداث التى وقعت فى خلافته.
ولم يكتف تاجر المخطوطات "م..ق" بالترويج لمخطوطاته وسط أهالى منطقته، وإنما نشر العديد من الكتب والمخطوطات الأثرية والموارد النادر عبر موقع التواصل الاجتماعى "فيسبوك"، لعرضها للبيع مثل الطبعة الأولى من إعجاز القرآن للإمام القاضى أبى بكر محمد بن الطيب الباقلانى المتوفى عام 103 ه - 1013 م، إضافة إلى صورة أصلية تجمع أعضاء "الوفد" مع النحاس باشا، علاوة على مجلة جمركية صدرت فى عام 1969 فى بغداد ويبلغ سعرها 150 جنيها، فضلا عن كتاب الميزان للشعرانى طبعة بولاق عام 1275، وهو عبارة عن 3 أجزاء فى مجلد قطع كبير.
كما وجد لديه نسخة من جريدة مصرية بالإنجليزية يعود تاريخها إلى عام 1947، إضافة إلى مزامير داود طبعة روما 1744م الذى يُعد من أندر الكتب، كذلك ألبوم صور فوتوغرافية أصلى خاص بالرئيس الراحل محمد نجيب.
كواليس تجارة المخطوطات
وعن المعايير التى من خلالها يتم تحديد سعر المخطوطات بين التجار والمشترين، يقول التاجر إن السعر يُحدد وفقا لأربعة عوامل، أولها تاريخ المخطوط وعمره الزمنى، فكلما كان قديما ونادرا زاد سعره، إضافة إلى نوعية الورق والمؤلف، ونضيف إلى ذلك جودة الطباعة فى حالة الكتب النادرة.
كذلك، يملك ذلك التاجر نسخة أصلية من دلائل الخيرات التى تعد مخطوطة نادرة من تأليف أبو عبد الله محمد بن سليمان، إضافة إلى نسخة من العيون اليواقظ فى الأمثال والمواعظ طبعة الكاستلية فى عام 1287 ه، فضلا عن طبعة أزهرية لمجلد الكامل فى اللغة والأدب المبرد الجزء الأول، كما أن لديه مجلد يضم 5 أعداد نادرة لمجلة المصور عن الزواج الملكى يعود تاريخها ليوليو 1937 عندما كان سعرها 5 قروش، ويبيعه الآن بـ600 دولار، علاوة على نسخة أصيلة من كتاب البهجة التوفيقية فى تاريخ مؤسس العائلة الخديوية طبعة بولاق 1308 هجرى تأليف محمد بك فريد، بجانب مخطوط رثاء بخط يد أحمد أبو العز الأحمدى سنة 1171 هجرى، كما عرض قميص مملوكى نادر للبيع بـ5 الآف دولار، إضافة إلى مصاحف مذهبة، وأختام تاريخية، ومخطوطات انقرضت أو كادت مثل مخطوط فى علم الحرف نسخة لم تٌطبع.
وفى نهاية حديثنا مع التاجر، وعند سؤاله عن كيفية جلب المخطوطات والكتب النادرة من دار الكتب بالقاهرة، قال: "صعب تجيب مخطوطات نادرة من هيئة دار الكتب لو دى مش مهنتك"، مشيرا إلى أن بعض تجار المخطوطات يقومون بتهريبها وبيعها خارج البلاد.
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد محمود
تحقيق مفيد ومهم
عدد الردود 0
بواسطة:
نور
رائع