"ضهر حمارتى أوسع من الفلا"
"اللى يضرب على الطار أصله مسلوب"
هذان مثلان شعبيان مصريان أولهما يعكس رحابة عالم مجتمع الغجر وفلسفته فى الحياة، فى كثرة تنقلاتهم، وعدم استقرارهم فى مكان، فظهْرُ الحمار و"الخُرْج" هما الثابت الوحيد فى عالمهم؛ حيث التنقل والترحال من مكان إلى مكان بحثا عن لقمة عيشهم، التى يجدونها بالتسول بما يملكون من فنون تارة، أو بالعمل بمهن متدنية من وجهة نظر المجتمع كالحدادة أو الحواة وقراءة الودع مثلا. ويعكس المثل الثانى نظرة اجتماعية متدنية من الجماعات الإثنية غير الغجرية تجاه الغجر. ذلك إلى الدرجة التى تقرن كل من يضرب على آلة "الطار" بأنه غجري؛ ولذا وجب على أبناء العائلات ممن ينتمون إلى عائلات عريقة اجتماعيا ألا يستخدمون مثل هذه الآلة الإيقاعية أو غيرها مما يقرنهم بالغجر، ذوى الأصول غير العريقة فى المجتمع. إنها تلك النظرة التهميشية للغجر، والتى تقلل من دورهم الاجتماعى والثقافى.
"الغجر"، "النَّوَر"، "الحلب"، "المساليب"، "الغرابوة"، وغيرها من المفردات، أو المترادفات- وإن كان بين بعضها ثمة اختلافات- جميعها تشير إلى جماعة إثنية عرفتها معظم المجتمعات الإنسانية، ولعبت فيها دورا مهما لا يتناسب- بالطبع- مع الصورة الذهنية التى طُبعت وترسخت عنها، للدرجة التى صار معها التعبير الشعبى المصرى "إنت غجري" أو "حلبي" مادة للسب والتقليل من شأن الشخص الموجه إليه. على العكس من ذلك من يتأمل الدور المحورى الذى لعبه الغجر فى الحياة الثقافية الإنسانية عامة، أو المصرية خاصة. ولكن على نحو ما يعيش الغجر على هامش المجتمع، تأتى ثقافتهم وفنونهم لتعيش على هامش الثقافة الرسمية. ولنترك قليلا أسباب تسمية الحلب بهذا الاسم، سواء صحت رواية نسبتهم إلى حلب سوريا، أو سبب تسمية الغرابوة بهذا الاسم، التى ربما تعودـ على نحو ما يذكر كرم الأبنودى ـ إلى أنهم أتوا فى البداية من شمال غرب أفريقيا، وأن من أهم الأشياء التى يحافظون عليها ويميزهم، هذا الوشم الصغير على الشفة السفلى من الفم، فهم يَشِمُون كل مولود لهم بهذا الوشم حتى الآن، بل بغض النظر عن مدى صدق رواية تسمية الغجر أنفسهم بهذا الاسم؛ إذ تذهب إلى اشتقاق كلمة Gypsy من كلمة Egypt وذلك بعد أن ظهرت هذه الجماعات- بسحنتها وهيئتها ولغتها وأعرافها المغايرة- فى غرب أوربا ووسطها فى منتصف القرن الرابع عشر الميلادي- بحسب قول عبادة كحيلة- فعندما سألوهم عن المكان الذى أتوا منه فأجابوا مصر. ولقد توقفت "Suzan Slyomovics" عند هذه المصطلحات، وما بينها من اختلافات، فى كتابها "Merchant of Art"؛ حيث أشارت إلى أنه يمكن التعرف على هؤلاء الغجر من خلال أسمائهم ومهنهم. فمعظمهم يعمل فى مهن الحدادة أو سن السكاكين أو قص شعر الحمير.
سنترك كل هذا قليلا الآن؛ لنؤكد أهمية الدور الذى لعبه الغجر فى المحافظة على الموروثات الشعبية المصرية، والتى يأتى على رأسها "السيرة الهلالية" والأغانى الشعبية "الصييته" والرقص "الغوازي"، بكل ما تضفيه أداءاتهم من بهجة ومتعة على الحياة الاجتماعية المصرية. فلقد ارتبطت السيرة الهلالية فى روايتها ـ على نحو غنائى مصحوب بفرقة موسيقية- بالغجر، ولولا الغجر لضاعت هذه السيرة الهلالية كما ضاع غيرها من تراث مصر الفني، ولفقدت مصر جزءا مهما من هويتها الثقافية. فالغجر قد تخصصوا فى رواية السيرة الهلالية على نحو احترافي، واعتبروها "لقمة عيش"، أو مصدر رزق لهم، يعيشون عليه.
فكلمة "شاعر" عندما تُطلق فى الصعيد ينصرف الذهن مباشرة إلى ذلك الشخص الذى يقوم برواية الهلالية بمصاحبة فرقة موسيقية، وفى الغالب يصنفه المجتمع على أنه من "الغجر". وخير شاهد على ذلك أنه نظرا إلى اعتماد الفرقة الموسيقية الهلالية قديما على آلة "الطار" فى أداء الهلالية وغنائها، فقد انتشر المثل الشعبى القائل: "اللى يضرب ع الطار أصله مسلوب"، وهو ما يؤكد حقيقة الارتباط بين الغجر والهلالية. ولكن بالرغم من هذا الدور المهم الذى لعبه الغجر، بل بالرغم من تمسك العائلات فى الصعيد بأهمية حفظ الهلالية، وبأهمية روايتها فى نطاق أسرى أو عائلي، فإنهم يقفون بقوة ضد من يرغب من أبنائهم فى أن يصبح شاعرا محترفا، يتكسب من غنائه بالهلالية؛ ذلك لأن المجتمع سيصنفه – عندئذ – على أنه "غجري"، وهو ما سيجلب العار على العائلة كلها؛ لذا تقرر العائلة التخلى عن هذا الشخص وطرده، حال إصراره على أن يكون شاعرا. وبسبب أن الهلالية قد أصبحت مصدر رزق بالنسبة إلى هؤلاء الشعراء/ الغجر، فإنهم قد تمسكوا برواية الهلالية، وحرصوا على أن تظل مستمرة فى المجتمع المصري، تعبر عنه وعن قضاياه المعاصرة، فغيروا فى مضمونها على النحو الذى يتماشى وطبيعة المجتمع المصرى الحديث؛ وذلك حتى يظل لها صلة بالجمهور، فيحرصون على دعوة هؤلاء الشعراء لإحياء مناسباتهم الاجتماعية والدينية، مثل الأفراح والختان والموالد. والأمر نفسه نستطيع أن نلحظه بوضوح مع فنون شعبية أخرى ارتبطت بالغجر، وارتبط الغجر بها. فالغجر هم يضفون على الحياة نوعا من البهجة والمتعة على المناسبات الاجتماعية كالأفراح والدينية كالموالد.
أود ان أختم حديثى بتلك التفرقة التى يعرفها الناس فى جنوب مصر وشماله بين قسمين من الغجر، "الموَّاوية"، الذين يجيدون فن الغناء والأداء الحركي، و"الكشَّاكين" ممن يعملون حواة أو حدادين أو فى ضرب الرمل والودع. وربما يكون النوع الثانى هو الذى دفع المجتمع المصرى إلى تهميش الغجر والتقليل من شأنهم بسبب تدنى وضع هذه المهن التى يمتهنونها، والتى يلحق بعضها إيذاء بالأهالي. ولكن ربما يكون هناك سبب آخر يتمثل فى هذا العالم المغلق الذى يحيط الغجر أنفسهم به؛ حيث خصوصية اللغة وخصوصية العادات والتقاليد(لدرجة أن الغجرى لا يتزوج إلا غجرية)، الأمر الذى جعل البعض يصفهم بأنهم ظاهرة تشبه الظاهرة اليهودية من حيث الانغلاق على الذات، والاختصاص بنمط واحد من المهن ومن حيث الشعور بالاضطهاد، ومن حيث نظرتهم إلى من سواهم، فأحيانا يؤكدون هويتهم، وأحيانا يتنصلون منها ولا يعلنونها بحسب السياق. غير أن الذين شابهوا بين الغجر واليهود أغفلوا مسألة مهمة تتمثل فى توظيف اليهود كل ما سبق توظيفا سياسيا؛ بهدف الحصول على مكاسب سياسية فتحقق لهم ما أرادوا، فى حين أن هذا لم يحدث مع الغجر، وانحصر دورهم فى المجال الاجتماعى والثقافي؛ لذا ظل التهميش حليفا لهم ولثقافتهم، وقاموا بقولبتهم فى قالب إقصائى ينتقص منهم.
موضوعات متعلقة..
"التاريخ الشعبى لمصر فى فترة الحكم الناصرى" لـ"خالد أبو الليل" عن "هيئة الكتاب"
عدد الردود 0
بواسطة:
د. عمرو عبد العزيز منير
مقال يبحث في المسكوت عنه