نقلا عن العدد اليومى
فندت د. إيمان الطيب، أستاذ التلمود والعهد القديم بجامعة أسيوط، مزاعم بعض المثقفين والمفكرين العرب، ومن بينهم د. يوسف زيدان، والذين قالوا إن الحرم القدسى ليس مكانه مدينة القدس مع الزعم أن هذا المكان خاص باليهود، وهو الذى كان يوجد به هيكلهم المزعوم والمعروف فى المصادر اليهودية بهيكل سليمان.
وأكدت «الطيب» أنه لم يرد مطلقا فى توراة موسى بأسفارها الخمسة أية إشارة إلى ما يسمى بالهيكل، حيث كانت الطقوس الدينية فى زمن موسى تؤدى فيما يسمى خيمة الاجتماع وهى خيمة يقيمها بنو إسرائيل حيث يرتحلون.
وأضافت الطيب لـ«اليوم السابع» أن أول إشارة وردت فى العهد القديم جاءت فى أسفار الأنبياء تحت اسم بيت الرب، وذلك فى سفر الملوك الأول، الإصحاح السادس، الفقرة الثانية، حيث أشار إلى قيام نبى الله سليمان بتشييد بيت للرب.
وتابعت الطيب: لم يذكر السفر مطلقاً أين كان مكان هذا البيت أو فى أى مدينة شيده سليمان على الرغم أن السفر أسهب فى تصويره ووصفه، وذكر السفر أن سليمان قد استعان فى بناء هذا البيت ببناءين مصريين وفينيقيين، بعد أن جمع كل شيوخ بنى إسرائيل والكهنة فى أورشليم لتصعيد تابوت الرب من مدينة داود صهيون.
وتابعت الطيب أنه يُفهم من ذلك أن سليمان كان مقر حكمه آنذاك فى أورشليم، وأن التابوت كان فى مدينة داود صهيون، وأن التابوت سينقل لمدينة ثالثة فيها بيت الرب.
وأوضحت الطيب أن النص حدد جبل بيت الرب أنه فى يهوذا وأورشليم أى فى جنوب فلسطين ولم يذكر أنه كان يقع داخل أورشليم تحديداً أو فى أيه مدينة أخرى من مدن الجنوب.
المؤرخ اليونانى الذى ازدهرت شهرته فى القرن الأول قبل الميلاد، ذكر فى موسوعته مكتبة التاريخ أنه كان يرى أورشليم من أعلى مكان فى مدينة القدس!! وهذا يعنى أن أورشليم كانت مدينة والقدس مدينة أخرى تقع على مرأى منها، وأنهما مسميان جغرافيان مختلفان.
وبناء على وجهة النظر هذه، فعلى المفكرين العرب أصحاب المغالطات التاريخية إذا أرادوا أن يبحثوا عن مكان هيكل اليهود الحقيقى، إن كان موجودا بالأصل، أن يبحثوا بعيدا عن القدس لأنها بناء على ما سبق ليست أورشليم بدلا من أن ينكروا وجود الحرم القدسى فى هذه البقع المباركة.
ولعل وجهة النظر هذه تفسر لنا عدم وجود آثار يهودية داخل مدينة القدس على الإطلاق رغم عمل حفائر أثرية فى كل مكان بها حتى تحت المسجد الأقصى نفسه.
وما يؤكد وجهة النظر هذه أيضاً ما ورد فى المصادر الرومانية وحتى اليهودية التى تذكر أن الأمبراطور الرومانى هادريان قد قام بتدمير أورشليم، وهو السبب الذى من أجله أقيم قوس نصر فى روما تخليداً لهذا النصر، وتقول المصادر، إنه قد سوى المدينة بالأرض ودمرها تدميراً تاماً وهجر اليهود منها فيما يعرف بالخراب الثانى للهيكل فى المصادر اليهودية.
ولكن المصادر نفسها تذكر أنه فى الوقت نفسه قد غير اسم مدينة القدس إلى إيليا، وحملت هذا الاسم طيلة العصر الرومانى والبيزنطى، والسؤال الذى يطرح نفسه هنا أنه إذا كان هادريان قد دمر أورشليم وسواها بالأرض أى لم يصبح هناك مدينة يغير اسمها إلى إيليا بعد ذلك، فهل القدس هى إيليا؟ وهل هى غير مدينة أورشليم؟ نعم.. بناء على كل الشواهد السابقة نجد أن إيليا هى مدينة القدس بعد أن تغير اسمها، وهى غير مدينة أورشليم التى دمرها هادريان عام 70 ميلادية، وربما كان فيها الهيكل المزعوم.
ولعل ما يؤكد ذلك هو ما ذكره الفقيه اليهودى موسى بن ميمون المولود فى قرطبة عام 1135 ميلادية وتوفى فى القاهرة عام 1204 ميلادية والذى تلقى علمه على يد ثلاثة من فقهاء المسلمين فجاء فقهه متأثرا بالفقه الإسلامى.
ويقول الرجل فى تعليقه على الهيكل المزعوم فى مقدمة كتابه «تثنية الشريعة»: إن أوصاف الهيكل التى وردت فى سفر الملوك جاءت بناء على ما جاء به الروح القدس، واعتمد فى ذلك على ما جاء فى سفر أخبار الأيام الأول 28: 19 «قد أفهمنى الرب كل ذلك بالكتابة بيده.
ويضيف ابن ميمون أن عزرا الكاتب عندما أعاد بناء الهيكل والمعروف فى المصادر اليهودية بالهيكل الثانى بعد العودة من السبى أو التهجير البابلى عام 538 ق. م اتبع نفس أوصاف هيكل سليمان.
ويتابع ابن ميمون أن هيرودس الملك الأدومى الذى تدعى المصادر اليهودية تهوده والذى كان يحكم جزءا من فلسطين فى فترة ميلاد السيد المسيح، هدم الهيكل وأعاد بناءه من جديد، واستند ابن ميمون فى ذلك إلى ما جاء فى الجمارا- وهى شروح على متن التلمود باللغة الآرامية الباب الأخير من كتاب العقوبات، الفصل الرابع وجه الصفحة، أن الذى لم ير الهيكل الذى بناه هيرودس لم يشهد الجمال فى فن العمارة آنذاك!!
وتابعت الطيب: هناك وجهة نظر أخرى حول مكان الهيكل وأوصافه، وتعتمد وجهة النظر هذه على ما ورد فى التلمود، الشريعة الشفهية لليهود، حيث ورد فى باب عقود الزواج، الفصل الأول، التشريع العاشر أن كهنة الهيكل فى الفترة ما بين القرن الثانى قبل الميلاد وحتى خراب الهيكل فى عام 70 ميلادية كانوا يقومون بطقوس الخدمة اليومية فى الهيكل، وكانوا مقسمين إلى 24 عائلة كهنوتية تخدم كل منها أسبوعا بالتناوب على مدار السنة، وأن كل هؤلاء الكهنة أو معظمهم كانوا يسكنون فى مدينة تصفورى، كما وردت فى التلمود، وذلك كما بينت الجمارا حتى يكونوا قريبين من الهيكل.
ومدينة تصفورى هذه هى مدينة صفورية الآن والتى تقع فى أقصى شمال فلسطين كما هو مبين فى الخريطة، على بعد 6 كيلو مترات شمال غرب الناصرة، وتقع فى قلب الجليل الأعلى على ارتفاع 250 كيلو مترا فوق سطح البحر، وتبلغ مساحتها 55378 دونما.
وهذه المدينة كانت فى الأصل قرية كنعانية تسمى حناتون وكانت ضمن مجموعة قرى كنعانية أخرى مجاورة لها وهى رمانة وسخنين والمشهد وعيلوط وأطلق عليها جميعا اليهود فى التلمود تصفورى وهى تحريف للكلمة الآرامية التى تعنى الصباح أو الطائر وعرفها البيزنطيون باسم سيفرورس Sepphoris، وبها موقع أثرى مهم هو كنيسة القديسة حنا وهى تقوم على منزل آل عمران، مما يرجح أن هذه المدينة كانت بالفعل سكنى الكهنة كما ورد فى التلمود.
والسؤال هنا: كيف يكون سكنى الكهنة فى أقصى الشمال والهيكل المزعوم فى القدس فى الجنوب، حيث تقول الجمارا: كان الكهنة يسنكون تصفورى ليكونوا بجوار الهيكل؟
هذا من حيث المكان، أما من حيث وصف الهيكل الذى جاء فى متن التلمود فى باب المقاييس وباب الغفران فإنه بناء على نفس الدراسة وبالمقارنة بالمعابد المصرية القديمة تبين أنه على ما يبدو أن هذا الهيكل المزعوم أيا كان مكانه هو أحد المعابد المصرية القديمة التى بنتها السلطات المصرية فى عهد الفراعنة لإحدى حامياتها العسكرية المصرية فى فلسطين.
وكانت الإمبراطورية المصرية فى معظم الفترات التاريخية تبسط نفوذها على منطقة الشام وفلسطين وتقيم حاميات عسكرية فيها وتقيم لهم أماكن للعبادة حتى يتسنى لهم ممارسة الطقوس- وعلى ما يبدو من البحث والدراسة والمقارنات أن جماعة اليهود فى فلسطين قد استغلت أحد هذه المعابد بعد رحيل الحامية العسكرية المصرية منها، وأقاموا فيه الطقوس ونسبوه لأنفسهم كما تعودوا مدعين أنه هو الهيكل المزعوم.