نقلا عن اليومى..
من الحقائق المنسية عن السينما المصرية أنها لم تقترب من شريحة المثقفين إلا قليلا، وقليلا جدًا، ويبدو أن ذلك يعود إلى عدة أمور أهمها أن عدد المثقفين شحيح للغاية فى مصر بالنسبة للكثافة السكانية العالية، ليس الآن فحسب وإنما بامتداد التاريخ، الأمر الذى جعل التعرض لمشكلات المثقفين ليس مضمون النتائج على مستوى الربح، لأنها قضايا لا تشغل الغالبية العظمى من رواد السينما، كذلك يعد المثقف الحقيقى نموذجًا حيًا للمعارض السياسى الصلب، فغاية المثقف الجاد تحقيق العدل الاجتماعى وتعزيز حرية الفرد، وهى أمور خطيرة لا تطيقها السينما المصرية المعروف عنها ميلها الشديد للمحافظة والتقاليد وتجنب غضب السلطات.
لكن قبل التعرض لصورة المثقف فى السينما علينا أولا أن نحدد المفهوم الدقيق للمثقف حتى يمكن لنا الاطمئنان إلى النتائج التى نصل إليها بشأنه مع الشاشة البيضاء.
هل يعد الشاعر أو الروائى أو المطرب أو الموسيقى أو الرسام أو الصحفى ضمن قافلة المثقفين؟ أم يقتصر مفهوم المثقف–كما يذهب المفكر الإيطالى جرامشي–على الرجل الذى امتلك منهجًا علميًا حديثا يعاونه على فهم الواقع وملابساته، ويعمل على تغيير هذا الواقع إلى الأفضل مستعينا بهذا المنهج العلمى؟
عل أية حال.. سنتناول هنا بعض الأفلام التى كان بطلها كاتبا، بغض النظر عن نوعية كتاباته.
الرباط المقدس
يبدو أن إبداعات توفيق الحكيم هى الأكثر اهتماما بمشكلات «المثقف»، وها هو المخرج محمود ذو الفقار يحقق فيلم (الرباط المقدس) المأخوذ عن رواية للحكيم، ورغم أن المخرج حشد للفيلم نجومًا كبارًا أمثال صباح وعماد حمدى وصلاح ذو الفقار وعبدالسلام النابلسى وعمر الحريرى.. فإن الفيلم لم يكن على المستوى المطلوب، ولاح فيه عماد حمدى/ راهب الفكر كقديس يعيش فى برج عاج، وأغلب الظن أن الجمهور انصرف عن الفيلم وقت عرضه فى سبتمبر 1960، لأنه لم يكن يشتبك مع أجواء مصر فى ذلك الوقت، حيث كان البلد يفور بأحداث ووقائع سياسية واجتماعية بالغة الخطورة!
لم ييأس محمود ذو الفقار– فيما أظن– من عدم نجاح فيلمه الأول عن «المثقف»، إذ عاد مرة أخرى وحقق قصة رائد الصحافة محمد التابعى (عدو المرأة) فى فيلم عرض فى أبريل من عام 1963، وأسند الأدوار الرئيسية لكل من رشدى أباظة ونادية لطفى وليلى طاهر وعبدالمنعم إبراهيم.
هل حقق الفيلم النجاح المأمول رغم عنوانه المثير؟ لا أظن، لأنه كان خارج السياق الاجتماعى السياسى السائد فى ذلك الوقت، فضلا عن أن أفلام محمود ذوالفقار تتسم دومًا بالإيقاع البطىء بعكس شقيقه عز الدين ذو الفقار.
الفيلم يعرض كثيرًا فى الفضائيات الآن، ويتناول حياة كاتب شهير يكره المرأة ويحتقرها، لكن نادية لطفى تفتعل حيلة لتدخل فى حياته وتبدلها تبديلا.
بين الأطلال
ليوسف السباعى نصيب مع «المثقف»، وها هو عز الدين ذو الفقار يترجم روايته (بين الأطلال) إلى أطياف وظلال تروح وتجىء على الشاشة فى فيلم يعرض عام 1959، والعجيب أن الفيلم حقق نجاحا كبيرا رغم أن قصته تكاد تخاصم الواقع السياسى الاجتماعى الذى تدور الملايين فى فلكه. فالبطل هنا عماد حمدى «روائى» متزوج من ابنة عمه المريضة، لكنه يقع فى عشق فاتن حمامة «منى»، والقدر يتدخل ليفترق الحبيبان وتتزوج منى رجلا آخر، ثم تهجره لتذهب للإقامة مع «الروائى» عندما تعلم أنه أصيب فى حادث.
لا ريب فى أن الإفراط فى الميلودراما ضد أى فن حقيقى ومنطقى، ومع ذلك فقد نجح (بين الأطلال) نجاحًا كبيرًا.. ربما للأداء الساحر لفاتن حمامة، فضلا عن حساسية عز الدين ذو الفقار.. هذا المخرج الرقيق الذى يصنع لنا سبيكة فنية ساحرة قوامها الضوء والظل والموسيقى واللغة.
كمال عبدالجواد
أظن أن شخصية المثقف المهزوم كمال عبدالجواد فى ثلاثية نجيب محفوظ هى الأشهر فى تاريخ الأدب العربى، وحين أنجزها حسن الإمام للسينما لعب نور الشريف الدور بذكاء وحصافة فى فيلمى (قصر الشوق/ 1967)، و(السكرية/ 1973)، وهكذا لاحت صورة المثقف فى هذين الفيلمين بائسة الحال.. متواضعة التأثير.. سلبية الفعل.
صحيح أن الفيلمين رغم جماهيريتهما لم يعرضا لنا كوامن النفس البشرية لدى المثقف كما فعلت الروايتان، إلا أن بعضا من الأجواء النفسية المنسحقة للمثقف قد لاحت فى الأداء الرهيف للنجم نور الشريف خاصة فى (السكرية).
أسوأ صورة
لم تقدم السينما المصرية المثقف بصورة أسوأ مما شاهدناه فى فيلم (ثرثرة فوق النيل/ 1971) للمخرج حسين كمال. الفيلم مأخوذ عن الرواية الشهيرة لنجيب محفوظ، وقد صدرت فى عام 1966، وتحتشد بانتقادات حادة لنظام عبدالناصر تتلخص فى أنه أبعد المثقفين عن تحمل أعباء إدارة الدولة، الأمر الذى دفعهم إلى السخرية من الوطن والزمن والناس ومضوا يدخنون الحشيش ويمارسون الجنس!
جرأة الرواية وتعمقها فى النفس البشرية غابت كثيرًا عن الفيلم، ومع ذلك فالفيلم حقق نجاحا مهمًا نظرًا لأجواء «الحشيش» السائدة وبراعة النجوم فى تقمص أدوارهم، وقد سمعت أحمد رمزى مرة يعلن أنه لعب أهم أدواره فى هذا الفيلم.
العش الهادئ
مرة أخرى تعود السينما إلى عالم توفيق الحكيم المنشغل الأبدى بأزمة المثقف، وهكذا يقدم المخرج عاطف سالم على تحقيق فيلم (العش الهادئ/ 1976) الذى لعب بطولته محمود ياسين وبرلنتى عبدالحميد، وفيه نشاهد كاتبا سينمائيا يرفض الرضوخ لمتطلبات السينما الهابطة، لكن زوجته تضغط عليه للقبول بأى شىء للحصول على أموال تكفى مصاريف البيت بعد أن أنجبا ابنا، ويبدو أن الفيلم لم يحقق النجاح المتوقع نظرًا لعوامل كثيرة لعل أبرزها الأداء المتواضع لبرلنتى عبدالحميد التى عادت إلى الشاشة بعد طول غياب، وكانت فى حالة أنثوية تخاصم الذوق السائد فى سبعينيات القرن الماضى.
طه حسين
يتعجب المرء عندما يراجع تاريخ السينما المصرية حين يكتشف أنها لم تقدم سيرة ذاتية لأى مثقف مصرى باستثناء طه حسين فقط، رغم أن المصريين حظوا بعدد مهم من المثقفين البارزين بامتداد القرنين الأخيرين، مثل رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده وأحمد شوقى وحافظ إبراهيم وسلامة موسى والعقاد وتوفيق الحكيم ويحيى حقى ونجيب محفوظ وغيرهم.
أجل.. التفتت السينما إلى طه حسين فقط من بين كل المثقفين المصريين، حيث حقق المخرج عاطف سالم فيلما يتناول سيرته الذاتية عرض فى 1979 تحت اسم (قاهر الظلام)، وقد لعب الأدوار الرئيسية محمود ياسين وحمدى أحمد والممثلة الفرنسية يولند فوليو.
باختصار.. حال المثقف على الشاشة مثل حاله فى الواقع.. قليل الحيلة.. متواضع التأثير!
"عطر الأحباب" بمناسبة معرض الكتاب فى دورته السادسة والأربعين..المثقف فى السينما المصرية.. قليل الحيلة.. متواضع التأثير!..ثرثرة فوق النيل.. أسوأ صورة ظهر بها المثقف على الشاشة
الجمعة، 06 فبراير 2015 11:48 ص
فيلم عدو امرتة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة