رغم اختلاف الزمان والمكان، ورغم انهيار الاتحاد السوفيتى منذ ربع قرن مضى، ورغم اختلاف مصر وروسيا الآن محليًا وإقليميًا ودوليًا عما كانتا عليه فى الحقبة السوفيتية، فإن هناك قواسم مشتركة بين التقارب المصرى - السوفيتى السابق، وبين التقارب المصرى - الروسى الحالى فى عهد السيسى وبوتين، وربما من أهم هذه القواسم الولايات المتحدة الأمريكية التى كانت عدوًا للاتحاد السوفيتى ولمصر عبدالناصر، والآن يتأجج العداء بين موسكو وواشنطن مع تطورات الأزمة الأوكرانية، ويصل إلى مستوى من التصريحات العدائية أعلى مما كان عليه فى زمن الحرب الباردة بين المعسكرين، بينما العلاقات بين القاهرة وواشنطن لا يمكن الجزم بأنها أفضل مما كانت عليه، خاصة مع موقف واشنطن الداعم علنًا لجماعة الإخوان الإرهابية، واحتضانها لأعضائها وممثليها.
منذ ثورة 25 يناير عام 2011 حتى الآن، والاستدعاء الشعبى المصرى لروسيا لم يتوقف، هذا الاستدعاء النابع، ليس فقط من حالة العداء والكراهية للولايات المتحدة وسياستها، لكنه نابع أيضًا من إحساس شعبى عام بمصداقية، وحُسن نية الروس فى تعاملهم مع الآخرين، وهذه أمور ليست سهلة ولا بسيطة، بل لها معايير وأبعاد كثيرة تتكرس وتترسخ فى وجدان الشعوب بمرور السنين، وكما يتذكر الشعب المصرى أنه على مدى أربعة عقود من التقارب مع أمريكا لم يستفد من هذا التقارب شيئًا يُذكر، بل على العكس تضرر كثيرًا واستفاد أعداؤه، فإن الشعب المصرى لم ينسَ أيضًا ما قدمه الروس له من سد عالٍ، وقلاع صناعية حديثة، وجيش قوى مسلح بأحدث السلاح، وأشياء كثيرة، وتقريبًا دون مقابل يستحق الذكر.
عندما خرج الاستدعاء الشعبى المصرى لروسيا، وتزايد فى الشارع المصرى، ووصل لوسائل الإعلام، لم تكن موسكو آنذاك جاهزة ومستعدة للتعامل مع هذا الاستدعاء، بل كانت إلى حد ما مقيدة الحركة، وحتى محدودة التصريحات تجاه الأحداث فى مصر، الأمر الذى دفع الشارع المصرى إلى اختلاق تصريحات منسوبة لرئاسة النظام الروسى لم تصدر فى الواقع، ولم يعترض بوتين ولا الكرملين ولا الخارجية الروسية على هذه التصريحات التى نسبها البعض لبوتين ونظامه حول مصر، ربما لأنها كانت كلها إيجابية، وتعكس بالفعل ما يريد النظام فى روسيا التصريح به لولا الحرج وخشية الصدام، ففى الوقت الذى تصاعدت فيه الأحداث فى مصر اشتعلت فيه الحرب الأهلية فى سوريا، وفى التوقيت نفسه بدأت تظهر فى الأفق بوادر حل أزمة النووى الإيرانى، ومع تركيز الجهد الروسى على الملفين الإيرانى والسورى لم تكن باستطاعة موسكو الاستجابة للاستدعاء القادم من مصر بالقدر والشكل الذى يتوقعه ويريده الشارع المصرى، لأن هذا كان يعنى بالضرورة الصدام مع واشنطن، والسعى لإفشال التحرك الروسى على جميع الأصعدة والملفات، خاصة أن موسكو تعى جيدًا مدى أهمية مصر بالنسبة لواشنطن من جميع النواحى.
بغض النظر عن الحديث فى وسائل الإعلام عن المجالات التى ستتطرق إليها مباحثات الطرفين المصرى والروسى، سعيًا لتوقيع اتفاقات تعاون بينهما حولها، فإن زيارة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين لمصر الآن بالتحديد لها دلالات ومعانٍ وأبعاد كثيرة، حيث إن تحركات الرئيس بوتين خارج روسيا الآن أصبحت مرصودة بشكل كبير من جهات عديدة، وبالتحديد من واشنطن التى تتعامل مع هذه التحركات بحذر وتربص شديدين، خاصة أن كل زيارة خارجية لبوتين لدولة ما الآن باتت لا تخلو من صدمة ما لواشنطن وحلفائها، وهذا ما حدث فى زيارتى بوتين لكل من تركيا والهند فى ديسمبر الماضى، حيث تم الاتفاق على خط الغاز الروسى لتركيا كبديل لخط السيل الجنوبى الذى أفشلته واشنطن، وأحدث الاتفاق الروسى - التركى صدمة كبيرة لواشنطن والأوروبيين الذين سيضطرون للخضوع للخط التركى كبديل للخط الأوكرانى، وفى الهند كانت صدمة واشنطن باعتراف نيودلهى بضم القرم لروسيا، وتوقيع 25 اتفاقًا بين البلدين فى أثناء الزيارة.
ترى ماذا يحمل بوتين فى جعبته لمصر؟
ذكرت وسائل الإعلام على لسان العديد من الشخصيات الروسية والمصرية الكثير من مجالات التعاون والاتفاقيات التى سيتم التفاهم حولها، والتوصل إليها خلال زيارة بوتين لمصر، وقال رئيس المجلس الاجتماعى الروسى للشؤون الدولية، سيرجى ماركوف، إن الزيارة ستشهد عددًا من الاتفاقيات المهمة لكلا الدولتين فى مجالات التعاون العسكرى، والتقنى، والاقتصادى، والاستثمار، والسياحة، فضلًا على إقامة عدد من المشاريع الروسية على الأراضى المصرية، وتوقع «ماركوف» فى تصريحات خاصة لوكالة «سبوتنيك» الروسية أن يناقش الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى مع بوتين اتفاقية إنشاء منطقة للتجارة الحرة بين البلدين، وتوريد المنتجات الزراعية المصرية إلى موسكو، كالخضروات والفاكهة، فضلًا على بحث توريد عدد من المنتجات الروسية إلى مصر، وإمكانية توقيع مصر اتفاقية للتجارة الحرة مع الاتحاد الاقتصادى الأوراسى الذى يضم كلًا من روسيا، وبيلاروسيا، وكازاخستان، وأرمينيا.
مساعد الرئيس الروسى بوتين للشؤون الخارجية، يورى أوشاكوف، تطرق فى حديثه للصحفيين فى موسكو الأربعاء الماضى إلى طبيعة العلاقات الثنائية بين الرئيسين السيسى وبوتين، قائلًا: «إن الرئيسين بوتين والسيسى لديهما علاقات شخصية جيدة، وبينهما كيمياء عالية للغاية»، على حد وصفه، كما تطرق «أوشاكوف» إلى قضايا وملفات ستكون محل بحث ونقاش خلال الزيارة، حيث قال إن ملف مكافحة الإرهاب و«داعش» سيتصدر محادثات الرئيسين السيسى وبوتين، واقتصاديًا قال «أوشاكوف» إن بلاده «لا تزال تعتزم المشاركة فى مناقصة لبناء محطة للطاقة النووية فى مصر»، كاشفًا النقاب عن أن «هناك دراسة عملية أعدت فى هذا الإطار»، مبرزًا أن روسيا تقترح أن يتم إنشاء بنية أساسية شاملة روسية الصنع تشيد على أساسها محطة طاقة نووية روسية كبيرة فى مصر. وأكد «أوشاكوف» أن العلاقات بين القاهرة وموسكو تتطور بشكل سريع فى هذا الاتجاه، لاسيما بعد الانتهاء من إنشاء نظام فضائى للاستشعار عن بُعد لمصلحة مصر، تحت اسم «E-Star» فى ديسمبر من العام الماضى.
مجالات التعاون بين مصر وروسيا كثيرة ومتعددة، منها ما هو معلن وجارٍ التنسيق والعمل عليه، ومنها ما هو محل نقاش ومباحثات بين الطرفين، ومنها أيضًا مازال مغلقًا وغير مطروح على طاولات البحث لأسباب تحتاج لنقاشات وحوارات صريحة بين الطرفين، حيث يرى بعض المحللين والمراقبين أن العلاقات بين مصر وروسيا فى ظل الظروف الراهنة تحتاج إلى ما يشبه التطبيع، والمقصود هنا ليس التطبيع بمفاهيم الصراع العربى - الإسرائيلى، بل المقصود هو إعادة مناخ الثقة بين الطرفين، هذا المناخ الذى انعدم واختفى مع طرد الرئيس الأسبق السادات الخبراء السوفيت قبل حرب أكتوبر 1973، والآن رغم تأييد روسيا الكامل لمصر وثوراتها، واستعدادها لتقديم الدعم والمساعدة لها، فإنها لا تستطيع أن تحدد حجم ما يمكن أن تعطيه لمصر، خاصة فى المجالات العسكرية والاستراتيجية، إلا بعد أن تعرف مدى استعداد القاهرة لبناء علاقات جديدة وقوية مع موسكو، خاصة بعد أكثر من ثلاثة عقود مع واشنطن.
روسيا لن تتردد فى التعاون مع مصر فى جميع المجالات المطروحة للبحث والنقاش بين الجانبين، لكن هناك أشياء مهمة كثيرة تحتاجها مصر من روسيا، وربما لا تستطيع موسكو تقديمها لأسباب كثيرة، ربما يكون من أهمها عامل الثقة، إذ إن هناك فى روسيا الآن «لوبيات» سياسية كثيرة، وبعضها يرفض التقارب الروسى - العربى، خاصة المصرى، وهؤلاء الذين يرفضون الموقف الروسى فى سوريا لا يترددون فى التشكيك فى جدوى التعاون مع مصر التى «لم تخرج من عباءة واشنطن حتى الآن»، حسب قولهم، والبعض يطالب بالتعامل مع مصر بحدود، خاصة فى المجال العسكرى، متحججين بأن العقيدة العسكرية المصرية التى تراكمت على مدى العقود الثلاثة الماضية تختلف كثيرًا، إن لم تتناقض مع العقيدة العسكرية الروسية.
بغض النظر عن كل هذه الآراء والمواقف والاتجاهات، فإن الآمال كبيرة على أن العلاقات المصرية - الروسية ستنطلق إلى أفاق أعلى مما يتوقع الكثيرون، وأن هذه العلاقات ستقوم على مبدأ المصالح المتبادلة والمنفعة المشتركة، وأن متغيرات الظروف الدولية وموازين القوى الجديدة على الساحة العالمية ستفرض مناخ الثقة اللازم لنمو هذه العلاقات، هذا المناخ الذى يحتاجه كل من الطرفين، خاصة أن مصر بحاجة لأشياء من روسيا أكثر حيوية وأهمية وإلحاحًا فى الظروف الراهنة من الكثير من الأشياء المطروحة فى وسائل الإعلام، وعلى طاولات المباحثات، وربما من أهم ما تحتاجه مصر الآن من روسيا «التعاون الاستخباراتى» فى ظل الهجمات الإرهابية الشرسة على الحدود الشرقية المصرية، ولدى روسيا الكثير فى هذا المجال الذى ثبت فعالية تعاونها فيه مع سوريا. ولدى روسيا أيضًا خبرات واسعة فى التعامل مع التنظيمات الإرهابية المتطرفة، وهى أول دولة صدر فيها حكم قضائى عام 2003 يعتبر جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة