منح زولا فنّ المقالة مكانة أساسيّة فى مسيرته الأدبيّة التى جعلت منه رائد المدرسة "الطبيعيّة" فى السّرد وأحد أكبر أعلام الأدب العالمى الحديث. فإلى إبداعه السردى الغزير النافذ، كان زولا ناقداً ومتابعاً لحركة آداب عصره وتحوّلات مجتمعه. ولقد جاء هذا الكتاب مشتملاً على عدد من أفضل مقالاته وأبقاها، موزّعة على ثلاثة أقسام.
يضمّ القسم الأوّل أهمّ ما كتبه زولا فى الممارسة الروائية كما كان يفهمها، وفى آباء الرواية الطبيعيّة الذين يرينا بشغفٍ ونزاهة عاليَين دَينه ودَين الرواية الحديثة لهم، وما اعتور تجاربهم الكبرى من ثغرات وهِنات. هكذا يدرس بإعجابٍ تجربة ستندال، آخذاً عليه مع ذلك طبيعته الذّهنية المفرطة، ويتوقّف مفتوناً أمام عمل بلزاك الضخم، ويتوسّع فى دراسة آثار فلوبير، الذى يعدّه هو أبا السرد الحديث، ويقدّم لنا فلوبير الكاتب والإنسان كما خبرَه وقرأه وتأمّله وعايشه. وأخيراً يعرض ويحلّل التجربة الروائية الفريدة لمُجايلَيه الأخوين غونكور، اللّذين وضعا عملاً مشتركاً كان من التناسق والوحدة والانسجام بحيث يُقرأ كما لو كان عملَ كاتبٍ واحد.
القسم الثانى خصّص لمقاربة زولا لأدب المسرح. وهنا يوقفنا على إخفاق مزدوج. يتمثّل الإخفاق الأوّل فى ما يشكّل فى نظره قصور الكتابة المسرحيّة، والروائية أيضاً إلى حدّ ما، لفيكتور هوغو، إذ يرى زولا أنّ الشّاعر العظيم قد أسرف فى ارتياد فنون أخرى غير الشعر لم يُعرب فيها عن التمكّن ذاته مهما يكن من شهرة أعماله فيها. والإخفاق الثانى يتمثّل فى ما لاحظه من عجز لدى كتّاب مرتبطين بالحركة الطبيعيّة عن اجتراح مسرح طبيعى حقيقى.
أمّا القسم الثالث والأخير فيقدّم عدداً من مقالات الكاتب فى أحوال السياسة والمجتمع وعلاقة الأدب بالصحافة، ما تزال ناطقة وكاشفة حتّى فى أيامنا. يدافع زولا عن حقوق الكتّاب الماديّة وعن علاقة "صحيّة" أو "نظيفة" بين الأدب والمال، ويفضح المحاكمة الزائفة المقامة فى زمنه للأدب الفاحش ولحضور شخصيّة بائعة الهوى فى الأدب، داعياً إلى دراسة الظاهرة فى عمقها السوسيولوجى أو الاجتماعى الحقيقى بدلاً من النحو باللّائمة على الأدباء.
بهذه الشجاعة الفكرية ونصاعة التعبير فرض زولا نفسه واحداً من حُماة الحقيقة والحريّة عبر الكتابة، فأحلّته كتاباته الفكريّة والسجاليّة مكانة معتبرة ضمن سلسلة من المفكّرين والمبدعين المعنيّين بحياة المواطن والإنسان بعامّة، تبدأ بفولتير، وتمرّ بزولا نفسه وبجورج برنانوس، وتُفضى إلى سارتر وفوكو ودولوز ودريدا.
مؤّلف الكتاب إميل زولا (1840-1902) من أساطين الأدب الفرنسى والعالميّ، ويُعدّ الوريث الأعظم لبلزاك وفلوبير. هو رائد المدرسة الطبيعيّة فى الرواية ومُنظِّرها. بدأ النّشر صحافيّاً وناقداً، ثمّ نشر حكايات وقصصاً أعقبتها رواياته الضخمة التى تتقدّمها سلسلة «آل روغون ماكار» برواياتها العشرين، يعرض فيها تحوّلات مختلف أجيال أسرة كبيرة واحدة فى ظلّ العهد الإمبراطورى الثانى بفرنسا (1852-1870)، ومن أشهر أجزائها «جَوف باريس» و«الجشع» و«الوحش البشريّ» و«جرمينال». وإلى شهرته أديباً، نال زولا فى سنيّه الأخيرة شهرة واسعة كاتباً احتجاجيّاً ومدافعاً عن العدالة عبر رسالته «إنّى أتّهم» (مطلع 1898).
المترجم حسين عجّة كاتب وصحفى ومترجم عراقى مقيم فى فرنسا. من ترجماته كتاب "بروست والإشارات" للفيلسوف الفرنسى جيل دولوز، صدر فى منشورات دار "اكتب" للنشر والتوزيع ودار "أدب فنّ" للثقافة والفنون والنشر، القاهرة، 2008، وكتاب "الحبّ الأول وقصص أخرى" لصموئيل بيكيت، متبوعاً بدراسة بعنوان "بيكيت، الرغبة التى لا تموت" للفيلسوف الفرنسى آلان باديو، صدر فى المنشورات ذاتها فى 2008.
موضوعات متعلقة
عمرو الجندى: "مسيا" رواية مختلفة والكاتب الحقيقى هو الأكثر مبيعا
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة