أوجاع الجنوب.. أهالى 10 قرى ببنى سويف يشربون المجارى.. أجسادهم تروى بمياه الصرف الصحى.. وبيوتهم تساقطت بسبب الأزمة.. والمسئولون فقط من لا يعرفون شيئا عن المشكلة

الثلاثاء، 24 مارس 2015 09:25 ص
أوجاع الجنوب.. أهالى 10 قرى ببنى سويف يشربون المجارى.. أجسادهم تروى بمياه الصرف الصحى.. وبيوتهم تساقطت بسبب الأزمة.. والمسئولون فقط من لا يعرفون شيئا عن المشكلة مياه الصرف الصحى
كتبت صفاء عاشور وآية نبيل - تصوير حازم عبد الصمد

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
استيقظت «مريم» على صوت صرخات والدتها وهى تناديها بأن تسرع لجمع أشيائها، لتجد المياه تحيط بها من كل جانب، وتصل إلى كل أركان الغرفة، حينها تذكرت الطفلة أن والدتها تعثرت فى توفير المبلغ المادى لتأجير عربة كسح لشفط مياه الصرف الصحى القابعة أسفل غرفتهم الصغيرة، حتى امتلأ بها «الطرنش» وطفح خارجه، لتجد نفسها مكدسة مع أخوتها فى منزل عمتها، ولا تملك سوى ما استطاعت أن ترتديه من ملابس، بعد أن تركت كتبها وملابسها المدرسية للغرق فى المياه، ولم يبق أمامها سوى أن تنتظر بدء والدتها رحلة جديدة لجمع مبلغ من المال، وتأجير عربة كسح تخلصهم من مياه المجارى التى احتلت مسكنهم الصغير.

فى قرى بنى سويف، «مريم» ليست الوحيدة التى تعيش مثل هذا الموقف، فهناك آلاف الأطفال مثلها ينامون ليلا بحلم مشترك تلخصه الطفلة فى جملة واحدة «نفسى يدخل عندنا صرف صحى وريحة البيت تبقى حلوة ونعيش حياتنا من غير ناموس».
اثناء تسليك إحدى الترع لرى الاراضى - 2015-03 - اليوم السابع

اثناء تسليك إحدى الترع لرى الاراضى



وفى رحلة لـ«اليوم السابع» على مدار 10 قرى، فى مختلف مراكز محافظة بنى سويف من الوسطى شمالا مرورا بناصر وبنى سويف واهناسيا وببا وأخيرا الفشن جنوبا، تكشف فى هذا التحقيق ما آلت إليه قرى المحافظة أو كما يطلق عليه الأهالى «قرى الموت»، من كوارث بسبب عدم توافر الصرف الصحى، والأمراض التى يعانيها الأهالى والأوبئة المستوطنة مثل الفشل الكبدى والكلوى والسرطان، متسائلين عن اللحظة التى سيلتزم فيها المسؤولون تجاههم بتوفير أبسط متطلبات الحياة لحل مشكلتهم مع الصرف الصحى.

20 قرية فقط من أصل 225 قرية فى محافظة بنى سويف تتمتع بشبكة للصرف الصحى، لتحتل بذلك المرتبة الأخيرة بين المحافظات فى التمتع بهذا الحق الانسانى.

فما بين وعود انتخابية لم تنفذ وتصريحات وزارية لم تخرج عن نطاق الإعلام وأسماء المحافظين تعاقبوا، لم تطأ قدم أى منهم يوما أرض هذه القرى، لم يبق أمام المواطنين سوى التعامل مع الأمر بالحكم الذاتى، فبعضهم يلجأ إلى توصيل أنانيب خفية تصرف المياه من المنازل إلى أقرب الترع، حتى وإن كانت خاصة برى الأراضى الزراعية، وآخرون لم يعودوا يطيقوا أن يقفوا فى قائمة الانتظار الطويلة لمجلس المدينة، والتى تخصص عربة واحدة لأكثر من قرية، فلجأوا إلى سيارات الكسح الخاصة، والتى تتسلل ليلا لتلقى بحمولتها فى أقرب نقطة حتى وإن كان ترعة رى زراعية أيضاً.

ولم يعد أمام المواطنين، فى ظل غياب الدولة، إلا أن يتدخلوا بأنفسهم لحل مشاكلهم، فلجأ بعضهم لهدم منازلهم، التى غمرتها مياه المجارى، وإعادة بنائها بـ«البلوك»، وهو نوع من الأحجار البيضاء التى تتصدى لمياه الصرف فترة أطول من الطوب العادى، أما المنازل القديمة والتى تشبعت أرضياتها وجدرانها بالمياه، خصوصا مع ارتفاع مستوى الفقر والبطالة بين أهالى هذه القرى، وعدم قدرتهم على إعادة بنائها، فلم يبق أمامهم، إلا البقاء فيها، آملين فى الله ألا تسقط عليهم وهم نائمون داخلها.
ا?حد الا?طفال يعبر فوق مياه الصرف الصحى التى غرقت فناء منزله و فى خلفيته مدرسة - 2015-03 - اليوم السابع

ا?حد الا?طفال يعبر فوق مياه الصرف الصحى التى غرقت فناء منزله و فى خلفيته مدرسة



ولم يعد أيضاً أمام المواطنين إلا استخدام الحجارة فى تعلية الشوارع، ليستطيعوا العبور إلى منازلهم، وعليهم أيضاً فى حالة انسداد ترع الرى نتيجة تراكم المخلفات، أن يهبوا للنزول فيها بأرجلهم العارية لتسليكها، ولم يعد أمامهم أيضا إلا حمل أجسادهم المريضة وأطفالهم المصابين بالأوبئة، بسبب التلوث، والانتظار أمام المستشفيات، لعلاج من لا يصله الموت مبكرا.

ميدوم.. قرية يعرفها التاريخ ولا يعرفها المسؤولون


«اسمى مريم محمد، 10 سنين، فى 3 ابتدائى، عايزة أقولهم يعملولنا مجارى عشان نعرف نرجع بيتنا أنا وإخواتى وأمى، بقالنا أسبوع قاعدين عند عمتى، أوضتنا غرقانة مياه وفيه ناموس كتير ومش بعرف أنام بليل».. كانت هذه ملخص رسالة مريم التى وجهتها إلينا حينما سألناها عما تريده من أى مسؤول فى المحافظة، وهى جالسة بالقرب من جدها الذى رد على كلماتها بضحكة ساخرة معلقا «خليكى احلمى إحنا بلد مش مذكورة على الخريطة ومحدش بيسأل فينا».

فى مدخل قرية ميدوم التى يقع فيها هرم ميدوم، وهو أقدم الأهرامات المدرجة فى مصر والذى بناه الملك سنفرو الأول، تجلس مريم مع عدد من ذويها خارج المنزل، وهو المشهد الذى تكرر فى مختلف القرى التى توجهنا إليها، والأسباب واضحة، وهى الهرب من مياه الصرف التى تملأ أرجاء المنازل والحشرات التى تحتل الأثاث.

يقول حسين محمود، والذى كان يجلس بجانب مريم «كل سنة نسمع إن القرية دخلت ضمن القرى اللى هيدخلها صرف، ومع كل انتخابات مرشحون يأتون ويعدوننا بالصرف، والكل بيمشى ونبقى فى المجارى».
الموتورات تسحب المياه من الترع الملوثة بمياه الرى لتسقى الاراضى الزراعية - 2015-03 - اليوم السابع

الموتورات تسحب المياه من الترع الملوثة بمياه الرى لتسقى الاراضى الزراعية



ولم يختتم حسين حديثه، حتى أتت إحدى السيدات التى علمت بأننا «صحافة» صارخة «إحنا ناس فلاحين عايشين على الزراعة وتربية البهايم، الأولى بنرويها بمياه المجارى اللى بتترمى فى الترع، والبهايم ماتت بسبب طفح الأرض الدائم، الكل مريض، أطفال وكبار، أنقذونا».

وفى بيتها المكون من دورين، تقطن محفوظة صالح، 56 عاما، مع أولادها وأحفادها، تضرب بيدها فى أحد أعمدة المنزل فتتفتت، وتشير إلى الشقوق التى تضرب الجدران، وتفسر ذلك «الحيطان كلها شربت مياه المجارى، واللى عايشين فى الصحرا حالهم أحسن منا، لكن إحنا ملناش مكان تانى نروحه».

ورغم الفلتر الذى اهتمت «محفوظة» بتركيبه فى مطبخها عقب وفاة زوجها جراء الإصابة بالفشل الكلوى، فإنها لم تسلم من الإصابة هى الأخرى بنفس المرض، المنتشر بين أهالى القرية، مثل معاذ أبو سريع، الذى أوضح أن الخزانات المبنية أسفل البيوت فى القرية لتخزين مياه الصرف قديمة ومتهالكة، وتسرب المياه لتختلط بالمياه الجوفية ومياه الشرب، كاشفا أن عربات الكسح الخاصة تقوم بإلقاء المياه فى الترع الممتدة من «بحر يوسف» والتى تروى الأراضى، و«فى الصيف منسوب البحر بيزيد وبيختلط بمياه الصرف وكل البيوت بتغرق، وأنا قاعد هنا من 1967، وقدمت شكاوى كتير لمجلس مدينة الوسطى، والإجابة كل مرة مبتتغيرش، روح دلوقتى وإن شاء الله هنحلها، ومحدش سائل فينا».

قرية ميدوم واحدة من 3 قرى تخدمها سيارة الكسح التابعة للمجلس المحلى لمدينة الوسطى، فعلى مدار عامين من العمل عليها، يمتلك رجب إمام يوميا قائمة طويلة من البيوت التى تسجل نفسها فى المجلس لكسح مياه الصرف فيها، بـ 20 جنيه للنقلة الواحدة، بينما ترتفع سيارات الكسح الخاصة من 40 إلى 50 جنيها، وهو الأمر الذى لا يتحمله عدد كبير من الأهالى، يقول رجب «فيه ناس ممكن تظل أسبوعا حتى يأتى الدور عليها، وغالبا فى هذه الفترة تترك منزلها وتتنقل إلى أقاربها، دى حتى المدارس والمستشفيات والمؤسسات بتدخل فى قائمة الانتظار، لكن بمبلغ أقل لا يتعدى 15 جنيها».
القمامة والصرف تغطى مياه رى الاراضى الزراعية- 2015-03 - اليوم السابع

القمامة والصرف تغطى مياه رى الاراضى الزراعية



يشير أحد الشباب إلى منزل تم بناؤه مؤخرا، ويقول «الناس اللى كانوا ساكنين فيه على أد حالهم، لكن الحيطان تشربت المياه وبدأت فى التساقط، فجمع الأهالى من بعضهم أموالا لتأجير غرفة لهم فى بيت آخر، وقمنا بهدم البيت القديم وإعادة بنائه، خوفا من أن يقع فوق دماغهم والحكومة مش سائلة فينا».

أهالى «العطفة»: نرمى مياه الصرف فين يعنى إلا فى الترعة


«اسمى عوض الله محمد، عندى 65 سنة، طول عمرى بشتغل بكتفى، عامل تراحيل، معرفتش أحوش فلوس، اللى جاى كان على أد اللى رايح، أهم فلوس جمعتها اشتريت أرض البيت اللى قاعد فيه حاليا مع زوجتى وبنتى وابنى قبل أن يتوفى فى حادث، كنت معتمد على أنه اللى هيصرف علينا بعد ما كبرت وبقيت مقدرش اشتغل تانى، البيت كل يوم يتملى مياه مجارى، يوم أعرف اجيب العربية تكسحه وآخر ميكونش معايا فلوس، فنخرج أنا وبنتى ومراتى خارج المنزل طول اليوم، وفى المساء بنحاول ننام كلنا ع السرير الوحيد اللى فى الأوضة، أنا فى الأيام العادية بنام على الأرض عشان السرير صغير، أنا مش عارف أعمل إيه لو البيت وقع، حيطانه مليانة تشققات، ومعنديش حد اشتكيله إلا ربنا»، هذه كلمات الرجل المسن وشكواه التى لم يسمعها أى مسؤول، لأن قرية «العطفة» لم يزرها أى مسؤول أصلا.

هنا العطفة، القرية المنسية، التى لم يطأ أرضها أى موظف حكومى، على حد قول أهلها، ولا ينتمى إليها نائب مجلس الشعب ولا أى شخص مهم، لذا أمام الترعة الممتدة من بحر يوسف لرى الأراضى، تشاهد نساء القرية يغسلن صحونهن وغسيلهن، وفى نفس المياه يغتسل أهالى القرية والحيوانات التى يربونها، ولا مانع من إلقاء مياه الصرف فيها أيضاً، وتبرر السيدة أمنية ذلك «أومال نرميها فين، ما هو يا إما نرميها فى الترعة يا نغرق بيها فى البيت، إحنا مش عايشين».

يعلم «عبده ياسين»، أن المياه التى تصل إلى أرضه مختلطة بمياه الصرف الصحى، لكن ما بيده حيلة يقول «الأرياف معدومة، مفيش أى إمكانيات، أغلب الناس عاطلة عن العمل، والمياه الملوثة أثرت على إنتاج الأراضى، وعربية الكسح بتاخد 50 جنيه فى النقلة، فالناس بترمى فى الترعة هتعمل إيه».
ترعة المياه التى تروى الاارضى فى كفر ناصر مركز ببا- 2015-03 - اليوم السابع

ترعة المياه التى تروى الاارضى فى كفر ناصر مركز ببا



يقول الحج عبده الذى يزرع البطاطس والقمح، والتى تباع فى القرية وخارجها، وحين علم بإصابته بفيروس سى ترك الأرض لابنه، «لو المسؤول شايف إن الصرف مشكلة يحلوها، طيب ما هما بيصرفوا من الناحية التانية علينا فى المرض وعلى الزرع والبهايم اللى بتموت، الأولى يمنعو أسبابه».
كل مبانى قرية العطفة، مهددة بالسقوط، بسبب الصرف، والتى ستكون كارثة كبرى على أهالى القرية الذين لا يمتلك أغلبهم إلا مأواهم، محمود سعيد، أحد أبناء القرية، يقول «من سنتين قدمنا شكوى لمجلس المدينة لكى يدرجوا القرية ضمن القرى التى ستخصص لها المحافظة أموالا لإنشاء شبكة صرف صحى، قالولنا مفيش فلوس».

الميمون: بطاطس بطعم المجارى


«اسمى ربيع البطشى، فلاح، عندى فدان ونص بزرعهم بطاطس، المياه لا تصل إلى الأراضى بسبب انسداد الترع، كل الأهالى بيرموا مياه الصرف والمخلفات فى الترع اللى بنروى بيها، اتكلمنا واشتكينا ونبهناهم ولا حياة لمن تنادى، الأرض مبقتش تجيب المحصول اللى كانت بتجيبه زمان، فاغلب الفلاحين بقوا يردموها ويبنوا عليها، وهو ما رفع سعر إيجار الأرض الزراعية لـ9 آلاف جنيه فى العام، الفلاح هيجيب منين ويصرف إزاى، مفيش حاجة فى البلد بقت تفرح، والفلاحين أكتر فئة متكلمتش عن حقوقها، كلنا عارفين إننا بنروى مياه مجارى ومع ذلك بنطلع الصبح نروح الأرض وييجى المغرب نقعد فى بيتنا».

ما بين مركزى الوسطى وناصر تقع قرية الميمون، أكبر القرى من حيث المساحة وعدد السكان، ورغم ذلك لا تتمتع بالصرف الصحى، عدا الجهة الغربية منها، والتى وصل إليها الصرف الصحى ضمن أحد مشروعات التابعة للحكومة بالتعاون مع الجمعيات الأهلية.
عربة الكسح الخاصة بمجلس المدينة- 2015-03 - اليوم السابع

عربة الكسح الخاصة بمجلس المدينة



على الجهة الشرقية تتصدر مشكلة الصرف الصحى والمخلفات، مثلها مثل باقى القرى، يقول أحد أصحاب الأراضى الزراعية، طلب عدم ذكر اسمه، أن محصوله العام الماضى فسد بسبب المياه، وهو ما اضطره لبيعه مبكرا حتى لا يتحول الأمر إلى «خراب بيوت» على حد وصفه.

أصبحت حواف الترع المكان البديل، للقمامة، والتى تصل إلى باطن الترع نفسها التى تنسد مساراتها مع الوقت، ومن ثم تنخفض نسبة المياه التى تصل الأراضى الزراعية، هذا بالاضافة لمياه الصرف التى تلقى فى الترع، تفاديا لامتلاء الطرنشات وغرق المنازل.

أحد أصحاب المحال فى قرية الميمون والذى يسكن فيها منذ 20 عاما أوضح أنه سمع من 10 سنوات تقريبا أن القرية سيدخل إليها الصرف الصحى وفى كل عام يقرأ تصريحات المسؤولين فى المحافظة أو مجلس المدينة، كلما واجههم الإعلام بمشكلة الصرف الصحى فى المحافظة بأن القرية ستدخل ضمن الصرف، وينتهى العام، ولا تبقى إلا الرائحة الكريهة فى المنزل.

نزلة المشارقة: هما المسؤولين بياكلوا من المجارى مثلنا؟!!


«اسمى أم أحمد، عايشة هنا بقالى كتير، من يوم ما اتولدت وريحة الصرف مفارقتنيش، ولما اتجوزت بنينا البيت أعلى من الأرض عشان المياه متوصلوش، لكنها ضربت فى أساساته، أنا جالى فشل كلوى خلاص، لكن اللى خايفة عليهم أحفادى وفى الوقت نفسه هنروح فين، دى مشكلة كل القرى اللى حوالينا، مبشوفش حد من المسؤولين بيزور القرية ومفيش خدمات بيقدموها غير الكهرباء ومياه الشرب، حتى الأخيرة بتقطع».
غسيل الصحون فى الترعة لتقليل مياه الصرف الصحى فى المنزل- 2015-03 - اليوم السابع

غسيل الصحون فى الترعة لتقليل مياه الصرف الصحى فى المنزل



على طريق غير ممهد يمتلئ بالحفر، ترتبط مدينة اهناسيا بقرية نزلة المشارقة، طوال الطريق لا يغيب عن ناظرك الأراضى الزراعية التى تمتد عن يمينك ويسارك، على امتداد إحدى الترع الممتدة من الإبراهيمية لرى هذه الأراضى، والتى يغطيها القاذورات والنباتات الشيطانية والتى تحول مياهها على اللون الأسود، يقول سعيد صاحب التروسيكل الذى كان يقلنا إلى القرية، إن «ورد النيل» ينتشر فى الترع لعدم تطهير وزارة الرى لها، بالإضافة للصرف الصحى الذى يتم التخلص منه فيها.

حينما وصلنا إلى القرية، كان الجميع خارج المنازل، أطفالا وكبارا، فالأرض ما زالت مبللة بالمياه، ولم يمر على خروج سيارة الكسح منها سوى لحظات، وما شاهدناه فى سابقتها يتكرر، فالجدران مبللة والأساسات تتآكل نتيجة المياه، والأمراض منتشرة.

عبدالناصر محمد، أحد سكان القرية، عامل نظافة، راتبه لا يزيد على 300 جنيه شهريا، يسأل «مرتبى هصرفهم على عربيات الكسح ولا على عيالى مين أولى؟، ده إحنا بنتكوم فى الأوضة لما المياه بتعلى، أوضة النوم متختلفش عن دورة المياه، الاتنين غرقانين مجارى وناموس».

«أنقذونا» كانت هذه صيحة إحدى السيدات التى جاءت مسرعة ظنا منها أننا تابعون لأى من الجهات المسؤولة، وقبل أن تكتشف هويتنا الصحفية، ظلت تحكى عن حفيدها الصغير الذى امتلأ جسده بالحساسية غريبة الشكل بسبب زحفه على الأرض المشبعة بمياه الصرف الصحى، وبنبرة أعلى اشتكت من أن طيورها ماتت بسبب غرق الشقة بالمياه، قائلة «الحيوانات مقدرتش تصمد قدام التلوث اللى إحنا عايشين فيه».

أحد أهالى القرية أوضح أن المقاولين قدروا تكلفة إدخال الصرف الصحى إلى القرية مقابل 6 ملايين جنيه، قائلا «بيقولولنا مينفعش الصرف يدخل القرية لأن مواسير المياه تسير فى الشوارع، وإحنا مش عارفين نروح فين عشان نتأكد من المعلومة دى اللى لو صحيحة فهل ده معناه إننا هنفضل طول حياتنا عايشين فى المجارى؟».

تضيف سيدة أخرى «كل أسبوع ننزح المياه وبمجرد ما عربة الكسح تمشى نفرش الحصيرة نلاقى المياه طالعة تانى، فيه عربيات أهالى بقت شغالة بتاخد فلوس أقل وبترمى فى الترعة اللى بناكل ونشرب منها»، يرد عليها أحدهم «عشان المسؤولين يعرفوا إنهم بياكلوا من مياه صرف»، تنهره السيدة قائلة «مسؤولين إيه، هما دول بياكلوا من أرضنا، دول بيجيبوا الأكل من بره».

سدمنت الجبل.. الصرف لا يصل إلا لقرى «نواب مجلس الشعب»


«محمود حامد، 22 سنة، إحنا فى محافظة ميتة، بس»، هذا ما يقوله أحد شباب قرية سدمنت الجبل التابعة لمركز إهانسيا، والذين فضلوا الصمت، فالحديث عن مشكلاتهم من صرف صحى وعدم وجود مقالب للمخلفات، ناقشوه على مدار سنوات دون أن يكون هناك أى تقدم، وعند البدء فى تخصيص أراض للخريجين للاستصلاح الزراعى على بعد حوالى 5 كيلو من القرية، عكف العمال على توصيل الصرف الصحى إلى الأراض الجديدة، بينما سقطت من حساباتهم سدمنت الجبل، وما زالت، كما يقول «محمود».
الحل لدى عدد من أهالى القرية، وهو الحل الذى سمعناه أيضاً فى القرى الأخرى، أن يخرج نائب مجلس شعب من قريتهم، فعلى حد قولهم، كل النواب الذين أتوا من قبل على القرية يسعى كل منهم إلى خدمة بلده وإدخال الخدمات الرئيسية فيها، بغض النظر عن واجباته البرلمانية الأخرى.

يوضح «محمود» أن عقب الثورة بدأ عدد من الأهالى فى الحديث عن هذه المشكلة لكنهم ما لبثوا أن عادوا إلى الصمت من جديد، حينما لم يجدوا أى جدوى لذلك.

فلاحو بهبشين الغربية: الدود والناموس بياكل جتتنا


«سيد قرنى، 60 عاما، عندى فدان ونصف، بقالنا يومين مش واصلهم قطرة مياه واحدة، إمبارح جبت جرار كان فيه نخلة سدة الترعة، النهاردة جيت بنفسى أسلكها، عندنا أمراض الدنيا بسبب المياه الملوثة اللى بنروى فيها، ومحدش سائل فينا، بنكلم مهندسة الرى اللى هنا وكل مرة تقولنا معنديش إمكانيات، بنسمع فى التليفزيون إن الوزارة بتبعت كراكات لتطهير ترع رى الأراضى، إحنا هنا مشوفناش أى حاجة».

فى قرية بهبشين التابعة لمركز ناصر اكتملت فكرة الحكم الذاتى، فمن جانب قام بعض المواطنين بتوصيل مواسير صرف من منازلهم إلى ترعة رى الأراضى (نمرة 4 من ترعة على حافظ)، بسبب عدم دخول الصرف إلى منازلهم.

الترعة تروى حوالى 513 فدانا من قرية بهبشين، وفقا لسيد صلاح، رئيس الوحدة الزراعية بالقرية، الذى أوضح أن القمح والبنجر والبصل والطماطم أهم المحاصيل الزراعية للقرية، والتى انخفض إنتاجها إلى 70% بسبب عدم وصول المياه إلى الأراضى بسبب انسدادها الدائم، مضيفا «حتى اللى بتوصل بتكون ملوثة، وقدمنا شكاوى كتير، قولنالهم «حافظ» اتقفلت من الزبالة، و«ديروط» محتاجة تتطهر، لكن محدش رد علينا».

على حواف ترعة 4 الخارجة من ترعة على حافظ الرئيسية، يجلس الأهالى الذين يشتكون من الأمراض التى أصابتهم، تقول إلهام «الدود والناموس يملأ المنزل، الاطفال مش بيعرفوا يناموا وكل يوم اروح بيهم للدكتور يقولى ابعدى عن مصدر التلوث، طيب هنروح فين»، ويتدخل محمود شعبان زكى فى الحديث قائلا «إحنا عندنا 3 آلاف مريض بالفشل الكلوى، يعنى الفلاح اللى بيزرع ويأكل مصر لم ينوبه إلا المرض».

جنيدى زكى، يملك 5 فدادين، يزرعها بطاطس، اكتشف من أسبوع أن الأرض بارت، قائلا «مش عايزة تاخد الكيماوى، برويها بمياه صرف صحى أعمل إيه، مين هيصرف على عيالى، عملنا شكاوى كتير فى الرى، الموظف بييجى 5 دقايق ويمشى ويقولنا اعملوا محاضر، قدمنا فى بنى سويف ومركز ناصر، ومفيش فايدة».

محمود سيد، 21 سنة، يملك مع أخيه فدانا ونصف، يقول إن الإيراد الذى يحصل عليه لا يتجاوز 4 آلاف جنيه سنويا، مقابل العمل 8 ساعات يوميا، مضيفا «البلد مفيهاش شغل، أنا معايا دبلوم زراعى، وملقتش شغل تانى جمب زراعة أرضنا إلا إنى أشتغل فى البناء كعامل».

من بعيد رأينا مجموعة من العمال الجالسين على الأرض، أشار إليهم محمود وقال إن هؤلاء العمال من المفترض إنهم يحصلوا على المقاسات لإدخال الصرف الصحى فى قريتهم، إلا أن الحقيقة إنهم على هذه الحال منذ سنة دون أى تغيير فى المنطقة، يعلق قائلا «بيسكتونا ويوهمونا إنهم هيدخلوا صرف عشان نسكت».

فى ذلك الوقت كان سيد قرنى ومحمود قد بدآ فى الغوص فى الترعة لتسليكها بأنفسهم، يبعدوا القمامة عن فوهة الترعة وأجساد الحيوانات الميتة، وسط المياه السوداء ورائحتها التى لا تطاق.

يروى «أبو محمد» أن أحد الفلاحين نزل إلى الترعة ذات مرة لتسلكها، ولم يحتمل الرائحة فأصيب بسكتة قلبية وتوفى، ويضيف «إحنا اتخرب بيتنا، أنا رحت بنفسى للمهندسة فى الرى، قالتلى ولا عندنا أى إمكانيات ولا أى حاجة خالص، رحنا الوزارة ورحنا كل حتة ومعدش سأل فينا».

فلاحو غياضة الشرقية: عندنا نيل بس معندناش صرف!!


يلجأ أهالى الغياضة الشرقية كغيرهم لإلقاء الصرف والقمامة فى المصارف المائية، الفارق هذه المرة أن أقرب المصارف المائية لهم هو النيل بنفسه، يقول الحاج عبدالفتاح، عضو المجلس المحلى السابق فى القرية، إن قريته ضمن 6 قرى تخصص لها المحافظة 250 ألف جنيه فقط سنويا، وهى إمكانيات ضعيفة جدا لا تستطيع أن تسد حاجات القرية، والتى تقف على رأسها ادخال الصرف الصحى.

ويضيف «إحنا موعودين بإنشاء محطة الصرف من 2005، وكل عام تأخير نسمع إن مفيش إمكانيات، والقرية مبيوصلهاش أى خدمات أخرى وكأننا مش موجودين على الخريطة من الأساس».

وكالعادة، البيوت فى البلد التابعة لمركز ببا، توشك أن تنهد على قاطنيها، بمجرد أن تتشبع بالكامل بمياه الصرف، والأمراض الكبدية تنتشر بنسبة 40% فى القرية، و30% من المحصول يموت سنويا ولا يستفيد منه الفلاح.

كفر ناصر.. الفيروس صديق الفلاح


«اسمى محروس على ماهر، فلاح، أنا عارف إنى كل يوم بدوس برجلى فى مياه ملوثة وفى أى ثانية ممكن يجيلى أى فيروس زى بقية الفلاحين فى البلد، لكن هعمل إيه، أقعد عاطل فى البيت؟».

ويلتمس «محروس» العذر للأهالى لإلقائهم مياه الصرف فى الترع «المشكلة أن مفيش مكان يتحط فيه الزبالة والصرف، بيرموا فى الترعة غصب عنهم، هيودوه فين، الرى عشان يسكتنا أرسل للقرية جرارات، عملت لمدة أسبوع واحد ثم رحلت، المياه تصل ضعيفة جدا، بدلا من أن اسقى لمدة ساعة وأعود إلى المنزل أظل يوما بالكامل فى انتظار المياه».

محمد سيد، صاحب أرض، يقول «المفروض إن مسؤولى الرى يأتوا لتنظيف الترع بشكل دورى، ده مبيحصلش، الموظف يقول إنه خارج مراقبة وهو بيكون روح بيته».

من جانبه يوضح رجب محمد سيد، محامى، أنه تم تحديد مكان لإقامة محطة صرف فى الكفر الذى يصل تعداد السكان فيه إلى 18 ألف نسمة، إلا أنها تحولت الآن إلى أرض مهجورة بسبب عدم اهتمام المسؤولين ببنائها.

ويعتمد أهالى الكفر فى رى أراضيهم التى تشتهر بـ«الكرنب والفلفل والذرة والملوخية» على ترعة الإبراهيمية، وكالعادة، الترعة مغطاة بالمخلفات والحيوانات النافقة ومياه الصرف الصحى.

منشية عمرو.. الحياة على بِركَة صرف الصحى


«عبدالمنعم»، محاسب فى شركة الكهرباء، بعد الثورة قولت الوضع هيختلف، والمسؤولين هيبدأوا يتعاملوا مع مشاكلنا بجدية، بدأت فى جمع توقيعات من أهالى البلد، عشان يتأكدوا إنه مطلب شعبى، خاطبناهم بحاجتنا لصرف صحى، نفسنا نحس إننا بنى آدمين، قدمنا الطلب إلى رئيس مجلس المدينة والمحافظة وشركة المياه والصرف الصحى ومجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية، ومن وقتها محدش عبرنا».

منشأة عمرو، أو كما يقول الأهالى «منشية»، أو «الغابة» وهو الاسم الذى لا يعرفه إلا السكان القدامى للقرية، لأنها تقع فى جزء منخفض عن باقى القرى حولها، وهو ما يجعلها مكان تجمع كل مياه الصرف المتسربة إلى الأرض فيها.

فى منشية عمرو، الأرض قاحلة، والبيوت لا تستطيع أن تدخلها من رائحتها الكريهة، الأمر الذى وصل لدرجة أن الأهالى أنفسهم حينما سألناهم عن أهم مشاكلهم لم يتحدثوا عن الصرف إلا فى النهاية، يفسر ذلك عبدالمنعم قائلا «الناس ارتضوا بالأمر الواقع».

آخر رد وصل إلى عبدالمنعم أن مشروع الصرف الصحى لن يدخل القرية قبل 2017، وهو ما يعلق عليه «مفيش حد مقدر الكارثة اللى إحنا فيها، القرية لأن منسوبها أقل من القرى المحيطة، تعوم تقريبا على بركة من مياه الصرف الصحى، أحد العاملين فى إدارة الأزمات حينما زار القرية أخبرنا أن كل البيوت مهددة بالسقوط إذا لم يكن هناك حل فورى لهذه الأزمة».
- 2015-03 - اليوم السابع


موضوعات متعلقة..


- اوجاع الجنوب .... من هنا مر الفقر فترك الوجع على أبواب بيوت قرى بنى سويف .. منازل «منشأة عمرو».. هجرتها الأحلام وسكنتها وإتاوات محاضر المحليات .. الأهالى أرزقية «يعملون يوما وعشرة لا»








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة