نقلا عن العدد اليومى..
«إحنا خارج الزمن» كانت هذه أبرز الكلمات التى تبادرت إلى آذاننا خلال جولتنا عبر مراكز محافظة بنى سويف المختلفة، العديد من المشكلات التى تحدث عنها الأهالى منها ما كانت تراه أعيننا، ومنها ما سمعنا عنها روايات، لكن تجربة التنقل عبر أرجاء بنى سويف كانت معاناة يومية شاركناها بأنفسنا مع مواطنى المحافظة.
رصف الطرق خارج حسابات المحافظة
بمجرد أن تطأ قدمك محافظة بنى سويف، تتجول فى شوارع مدينتها، ستجد أن أغلب الشوارع ممهدة ومرصوفة، يتضح فيها التخطيط العمرانى البارع، وكأنك انتقلت إلى أحد أحياء القاهرة الغنية، وبالطبع هذا ليس غريبا فى ظل تمركز كل المصالح الحكومية ومبانى المحافظة فى مدينة بنى سويف.
لكن إذا فكرت أن تخرج عن إطار بنى سويف نفسها، فتجد أن آلة الزمن تبدأ فى العودة إلى الوراء، لتنحصر أحلامك عن الطرق الممهدة فى ميادين المراكز والتى يتركز فيها المستشفيات العامة ومواقع المجالس المحلية، حيث تختفى الطرق الممهدة بشكل كامل فى القرى، وبالطبع العزب والنجوع رغم أنها الأكثر عددا على مستوى المحافظة.
الحديث عن صعوبة الرصف فى القرى هو الأمر الذى أقنع به المسؤولون المواطنين فى بنى سويف ليرضوا بالأمر الواقع على حال معيشتهم.
لكل مركز «مواصلة»
سيارات أجرة وتاكسى تنقلك إلى كل مكان، يقتصر هذا أيضا على شوارع مدينة بنى سويف، وكأن الحياة تتوقف خارجها، فبمجرد نزولك إلى المراكز تكتشف مأساة البحث عن وسيلة انتقال إلى القرى المختلفة، فبعيدا عن توافر سيارات الأجرة للتنقل بين المراكز، يجد المواطنون هناك صعوبة كبيرة فى إيجاد وسيلة مواصلات آدمية للتنقل إلى القرى، وهو الأمر الذى عالجه الأهالى بطريقتهم.
ففى مركز الوسطى، اختار الأهالى «التروسيكل» ليكون وسيلة التنقل الخاصة بهم، وهو وسيلة منتشرة بين مختلف القرى، بل أصبحت فى الفترة الأخيرة ملجأ للعاطلين عن العمل، كما يقول أيمن، أحد سائقى التروسيكل، فى ظل زيادة أعداد الشباب مقابل عدم وجود فرص عمل وعدم استيعاب الأراضى الزراعية كل الأيدى العاملة.
بالنسبة إلى المواطنين فى الوسطى، يعد التروسيكل من الوسائل ذات التكلفة المنخفضة، ويستطيع أن يحتمل الطرق المتعرجة الواصلة بين القرى وداخلها، ويظل هو الوسيلة الأولى لديهم حتى لو دخل مؤخرا فى منافسة «التوك توك».
فى مركز ناصر، يتخذ المواطنون السيارات نصف النقل كوسيلة رئيسية، عبر تثبيت خشبتين على جوانب السيارة ليجلس عليها المواطنون.
10 دقائق من الانتظار كانت كافية لتشاهد معاناة أحد كبار السن الذى عجز عن الصعود إلى السيارة المرتفعة قبل أن يرفعه أحدهم، تعلق منى، طالبة بالصف الثانى الثانوى، وهى جالسة تستند إلى زميلتها فى رحلة عودتهم إلى القرية «الناس هنا فقيرة ومضطرة تركب أى حاجة عشان تروح مدارسها أو شغلها أو المستشفى، منقدرش على تأجير سيارات خاصة»، فى ببا، 6 قرى تقع على الجانب الشرقى من النيل لا يربطها بالمركز سوى «المعديات»، و«المراكب» النهرية الصغيرة، بينما يربط باقى القرى عربيات «البوكس»، وهى سيارات تشبه السيارات الخاصة بالشرطة لكن المكون الأساسى لهيكلها من الخشب.
يقول سيد، والذى كان ينتظر فى أحد شوارع كفر ناصر للانتقال إلى مركز ببا، «عدد السيارات العاملة بين القرى قليل جدا، ممكن ننتظر ساعة أو أكثر حتى تمر سيارة»، مضيفا «المستعجل هنا بياخد خصوصى أو ياخد حمار».
فى الفشن، كانت المفاجأة، فهنا الوسيلة الرسمية للانتقال هى الحنطور، والذى يصل عدده إلى 300 فى شوارع المركز، ويحصل على ترخيصه ورقمه من مجلس المدينة، الانتقال عبره يتكلف 5 جنيهات، وتجاوزاته تثبت فى محاضر رسمية يدفع سائقه غرامة مادية لإلغائها، يواجه الحنطور منافسة حاليا مع التوك توك، حيث يستطيع الأخير الدخول فى الشوارع الضيقة للقرى وهو ما أنقذ الأهالى فى حالات كتير لم يكن الحنطور يستطيع أن يصل إليها.
بعد المغرب ابحث عن سائق خاص
«ليه الدولة متخصصلناش أتوبيس عام أو سيارات أجرة للنقل بين القرى نبقى ضامنين إنهم يعملوا طوال اليوم، فيه قرى هنا لو اتأخرت عن المغرب مش هتعرف تروحلها».. كلمات قالتها سلمى، الطالبة بالصف الأول الثانوى، أثناء عودتها من المدرسة.
وأشارت «سلمى» إلى ظاهرة تنتشر بين أرجاء المحافظة، وهى توقف أغلب سائقى المواصلات المختلفة بعد المغرب للعودة إلى منازلهم، حيث تقف الحياة فى أغلب القرى التى لا تجد سوى السيارات الخاصة لتوصيلها إلى الأماكن المختلفة، خصوصا إذا كانت الحالة مرضية مثل النقل إلى المستشفى.
رضا.. نفسه يسيب الحنطور
بوجهه الخمرى وابتسامة ممزوجة بـ«الشقا»، يقف رضا فى ميدان الفشن الرئيسى على حنطوره، ينقلك إلى أى مكان تريده داخل المركز، صوته القوى لا يتفق مع ملامحه الطفولية، فهو لم يتعد 15 سنة بعد، يعمل على الحنطور منذ عامين، عقب تركه المدرسة، وقرر أن يساعد أخاه فى الإنفاق على الأسرة من خلال قيادة الحنطور.
لم يجد رضا فى المدرسة تعليما، على حد قوله، فالمدرسون طوال الوقت يطالبونه بالحصول على دروس خصوصية معهم، ما زاد أعباء أسرته المادية التى لم تكن تقوى على تحمل كل هذه المصاريف عقب وفاة الوالد، وأصبح شقيق رضا الأكبر المسؤول عن الإنفاق على الأسرة، يقول «قولت لأمى إن المدرسة فلوس على الفاضى وفى الآخر مبنتعلمش حاجة، أغلب الوقت المدرسين مكانوش بييجوا، قولت لأخويا يعلمنى أسوق الحنطور»، كان «بوتة»، وهو الاسم الذى يطلقه رضا على حصانه، هو الصديق الأول لرضا بمجرد أن بدأ فى العمل على الحنطور، خلال أسبوع كانا قد عقدا صداقة بينهم.
يكسب رضا حوالى 40 إلى 50 جنيها فى اليوم، يصرف منها حوالى 30 جنيها على شراء برسيم لـ «بوتة»، بينما باقى المبلغ مصروف يده.
يقول رضا إنه يحب بوتة لكنه فى الوقت ذاته يتمنى أن يترك قيادة الحنطور ويتجه لأى مهنة أخرى، مضيفا «لو كان فيه مدرسة تعلم الحرف كنت كملت دراسة، لكن حتى المدارس دى هنا مبتعلمش حد، وبعدين معندناش مشاريع فى المركز تحتاج لأيدٍ عاملة عشان لو اتعلمت أضمن إنى أشتغل فيها»، يؤكد رضا أن سائق الحنطور فى الفشن من المهن المعروفة والتى يقدرها الأهالى، قائلاً: «أى بنت تحب إنها تتجوز سائق حنطور، فهو مثل السائقين لكن الفرق أنه مع كائن أجمل وهو الحصان».
مزلقان «الغمراوى».. السلسلة مقطوعة و«السكة الحديد» للعمال: «هاتوها على حسابكم».. عامل المزلقان: «من أول ما مسكت الخدمة السلسلة متغيرتش والناس بيتجاوزوها خصوصاً أنها منطقة تجارية والزحام وقت الظهيرة يصل للذروة»
دون رابط أو فاصل تمر السيارات لتعبر شريط السكك الحديدية، يزاحمها سيدات لم تبد على وجوههم أى نوع من الرهبة للقضبان، أطفال منهكون عائدون من المدرسة، لم تمر لحظات حتى دق جرس مدوٍ، مطلقا إنذاره للقطار القادم، يسرع عامل خمسينى، يشد سلسلة على طرف القضبان، ويجرى على الناحية الأخرى ملوحا بيده لراكبى السيارات، الدراجات، القادمين مشيا، لكى يقفوا فالقطار اقترب على عبور المزلقان.
لم يأبه له أحد، اخترقت إحدى الدراجات الطريق حتى وصلت إلى السلسلة المهترئة فى الناحية الأخرى، رفع راكبها السلسلة متجها إلى الناحية الأخرى، لحقت به باقى الدراجات، حتى الأفراد مروا دون أن يأبهوا، ظل العامل وحيدا إلى جانب سلسلة مقطوعة مفرودة على الأرض دون أن يكون بيده أية حيلة.
وقف بجانبه فرد الحراسة يمسك دفتره للمخالفات لكنه لا يستطيع تدوين أى منها ضد الدراجات التى لم تكن تحمل أرقاما، كان هذا فى وضح النهار، كان السؤال كيف يكون وضع هذا «المزلقان» حينما يحل الليل؟!
مزلقان «الغمراوى»، يربط بين منطقة سوق الجبالى ومنطقة الغمراوى، ويعد من أشهر المزلقانات فى مدينة بنى سويف وأكثرها تسببا فى عملية التكدس والاختناق المرورى فى المنطقة، نظرا لمرور مئات السيارات عبره يوميا.
حتى الآن لم يخرج الحديث عن تطوير مزلقان الغمراوى عن دائرة «الوعود الوهمية»، فكل فترة تزور المزلقان، الذى يقع عليه العديد من الحوادث، لجنة من الوزارة أو السكك الحديدية لتقييم وضعه، لترحل مع وعد جديد بتطوير المزلقان دون جدوى.
رحل القطار، واستمرت السلسلة المقطوعة، وعاد العامل إلى مقعده فى غرفة صغيرة لا تحوى سوى مقعد صغير ونافذة تطل على شريط القطار، ليتضح أن السلسلة على هذا الوضع منذ عدة أشهر وقد أبلغ العمال المسؤولين عن المزلقان هيئة السكك الحديدية بأنها تحتاج إلى تغيير، فكان الرد «هاتوه على حسابكم»، ومنذ ذلك الوقت، ظلت السلسلة على هذه الحال.
«من أول ما مسكت الخدمة السلسلة متغيرتش «قالها شعبان، عامل على مزلقان»، معلقا «حتى لو سليمة، الناس بيتجاوزوها، خصوصا إنها منطقة تجارية، والزحام وقت الظهيرة يصل للذروة»، ويضيف «بيشتمونا لو اعترضنا، وأنا مفيش فى إيدى أى وسيلة أمنعهم، فى المساء ممكن يقتحم المزلقان واحد سكران أو مخدر، المشكلة لو حصله حاجة بيتهموها فيا».
من شهر، اقتحم أحد راكبى الدراجات البخارية ليلا المزلقان، واصطدم بالقطار، وقد أثبتت النيابة العامة أن السلسلة مقطوعة من وقتها، لكن لم يتحرك أحد.
لم تمر ربع ساعة حتى دق الجرس من جديد، فهناك 90 قطارا يمر من هنا يوميا متجهين من القاهرة إلى أسوان، أعاد شعبان نفس المشاهد السابقة، تسائلنا اين العامل الثانى المسؤول عن المزلقان؟، فكانت الإجابة أن أعداد العمال غير كافية لذا يقوم عامل واحد بمسؤولية الفردين فى أغلب مزلقانات بنى سويف، يعمل حوالى 12 ساعة، ويستلم منه عامل آخر باقى اليوم.
يقول شعبان «أنا بسلم فى الصلاة 3 مرات عشان بكون خايف القطر يعدى والزحام موجود على شريط القطار، بكون حاطط إيدى على قلبى لما الطريق يتكدس على شريط القطار والشارع يقف، مش بكون عارف أشد السلسلة ولا أوسع الطريق»، ورغم ذلك إلا أن الهيئة قررت وقف الإضافى إلى راتبه بسبب نزوله الأسبوعى إلى القاهرة لتلقى علاج الإصابة بالفيروس الكبدى الوبائى.
تصل المخالفات اليومية التى يسجلها فرد الأمن فى دفتره، حوالى 3 آلاف مخالفة، وهو رقم قليل على حد قوله، مقارنة بأعداد مقتحمى المزلقان، فهناك مركبات لا تحمل أرقاما.
موضوعات متعلقة..
- بعد تحقيق "اليوم السابع" عن "قرى المجارى".. محافظ بنى سويف: أخذ عينات من المياه لتحليلها.. وطالبت وزير الصحة بتغيير قيادات القطاع بالمحافظة.. وحصر شامل للقرى المحرومة من الصرف الصحى