هذه الأعمال الفنية الراقية قدمها مرضى قرروا تحدى مرضهم ونظرة المجتمع المقيتة لهم، فسخروا كل طاقاتهم وانفعالاتهم لتخرج لنا لوحات فنية تمتاز بالجودة، بل ربما يكون الاستعداد الخاص لمن نطلق عليهم لقب «المجانين»، أعلى من أقرانهم، حيث تكون لهم رؤية فنية مختلفة وثاقبة ووجة نظر خاصة تميزهم عن البشر العاديين.
أثناء عرض مسرحية عفريت لكل مواطن
فى العباسية ستجد مريضة ترسم لوحة لتنشيط السياحة فى مصر، وتجد مريضة أخرى – رفضت التسجيل معها لظروف عائلتها – ترسم لوحة تعبيرية عن تظاهرات ثورة 30 يونيو التى نادت بعزل الرئيس السابق محمد مرسى وكتبت فيها «الشعب يريد» وتطالب بإعدام الرئيس الأسبق، وتتعجب من روعة الأعمال اليدوية من سجاد وأركت صممها مريض آخر من نزلاء «السرايا الصفراء»، فى السطور الآتية نتعرف على فنانين ومبدعين من نوع خاص، دفعت بعضهم الظروف للإصابة بأمراض نفسية، ولكنهم أبَوا إلا أن يمتازوا عن أقرانهم.
«عفريت لكل مواطن».. حين يبدع المرضى النفسيون على خشبة المسرح
للمسرح وجود خاص داخل المستشفى، حيث يشارك عدد من المرضى فى تقديم عروض مسرحية، بعضها عرض فى مسارح الدولة وفى أماكن ثقافية مهمة، مثل دار الأوبرا ومعرض الكتاب، وآخرها مسرحية «عفريت لكل مواطن» التى قدمها المرضى النفسيون بمشاركة عدد آخر من الفنانين، وتناقش النظرة السلبية للمجتمع تجاه المريض النفسى، وتعرض مشاكلهم.
ويوجد داخل المستشفى، مسرحان، يستغلهما المرضى فى عمل البروفات، وتقديم مواهبهم الغنائية والتمثيلية، التى تخفف من شعورهم بالابتعاد عن المجتمع، والشعور بأنهم «منبوذون»، حتى وصل الأمر ببعضهم لرفض الخروج من المستشفى.
مريضة ترسم لوحة تطالب بإعدام مرسى
«جمال» عشق ابنة الجيران وتزوجها فأصابته بالاكتئاب وتوجه للمسرح والغناء
يفخر «جمال» بكونه مريضا نفسيا، ويحتفظ بممارسة هواياته المفضلة داخل المستشفى، حيث يعشق الفنون التشكيلية ويحب الغناء، ويظل المسرح مجال تميزه.
فبعدما دفعه شبابه وتطلعه لحياة كريمة له ولأسرته، للسفر خارج الوطن، بحثا عن فرصة عمل توفر له شكل المعيشة التى طالما يحلم بها فى مقتبل العمر، حيث إنه فترة الثمانينيات، ولى قبلته نحو السعودية بعد أشهر قليلة من زواجه ابنة الجيران التى أحبها لدرجة الجنون، ومضى يسعى فى بلاد الله الحرام، يجنى ريالات ويبعث بها لزوجته، ظنا منه أن التى أحبها وعشقها وتزوجها لتصبح شريكة حياته، ستصون كده وتعبه إلى أن يعود إليها ثانية.
ولم يك يدرِ «جمال.إ» (57 سنة)، مبيض المحارة، أن زوجته التى عشقها وتزوجها وأنجب منها طفلته، واغترب عن الوطن لأجلها، ستخون أمانته وتهين والدته فى غيابه، فبعد 8 سنوات غربة، اشترى لوالدته حلقا، فغارت منها زوجته وتشاجرت معها، وحدثت مشاكل بينهم، وطلبت الطلاق، وبالفعل طلقتها، وتزوج من أخرى تعيش معه إلى الآن وأنجبت منه ابنين.
ومنذ أن طلق زوجته الأولى، بدأ جمال يصاب بنوبات اكتئاب، بعدما شعر أنها نصبت عليه، واستولت على «تعبه وشقاه»، قائلا «منها لله هى السبب فى اللى حصلى، حتى أهلها عملت لديهم فى شقة «نقاشة»، نصبوا عليا ولم يعطونى أجرتى»، ومن يومها أصبح «جمال» نزيل مستشفى العباسية للصحة النفسية، ثم خرج وبدأ يتردد عليها كل عام مدة قصيرة، خاصة بعد أن تضاعف لديه المرض، وأصيب بانهيار عصبى، ويخشى العمل مع الآخرين خوفا ألا يعطوه حقه وأجره.
أحمد يشير إلى جدارية رسمها أمام مبنى التأهيل
«أحمد» فنان تشكيلى أصبح مريضا نفسيا بسبب مادة «الأحياء» فى الثانوية العامة
يعشق النزيل «أحمد.م» الفن التشكيلى، خاصة الرسم، الذى برع فيه بعدما ورثه عن خاله منذ صغره، وهو ما تجلى فى مشاركته فى رسم جدارية «الكتاب» المعروضة أمام مركز التأهيل بمستشفى العباسية، التى أنجزها- على حد قوله - فى ثلاثة أيام بمساعدة المشرف الخاص به.
وعن أسباب مرضه يقول «أحمد» أنه أصيب بالاكتئاب فى فترة المراهقة بعد الثانوية العامة، لافتا إلى أنه التحق بتخصص «علمى علوم» فى الثانوية، فوجد أن مادة الأحياء صعبة فحول لـ«علمى رياضة»، ثم تبين له أن الكليات التى يؤهل إليها العلمى رياضة لا يحبها، فحاول العودة مرة أخرى لـ«علمى علوم»، لكن مدير المدرسة رفض واستمر فى «علمى رياضة»، فحصل على مجموع 51%، لأنه كان يكره الرياضيات، و«كان مثله الأعلى العالم أحمد زويل لذلك كان يرغب فى الالتحاق بكلية العلوم ليكون مثله»، وبعد تخرجه من الثانوية العامة التحق بمعهد فنى صناعى ولم يستوعب المواد، فترك المعهد، ودخل فى مرحلة الاكتئاب، وتزوج فى عام 2009 وانفصل عن زوجته بعد عام من الزواج، بعد أن علمت بمرضه ولم تستطع التعايش معه.
وبعدما اشتد المرض على «أحمد»، أدخله والده لمستشفى العباسية، وبعد بدء تحسنه سمحت له المستشفى بإجازات لمدة يومين فى الأسبوع يزور فيها والده، ويمارس هوايته المفضلة «الرسم»، متمنيا أن يتعامل معه المجتمع كإنسان طبيعى، خاصة بعد أن أقر الأطباء بتماثله للشفاء، وأكدوا له إمكانية خروجه خلال أيام، غير أنه يرفض الخروج قائلاً: «أنا مبسوط فى المستشفى وأمارس هوايتى فيها وهنا زى بره».
"هالة" و"أمل".. الشفاء من المرض النفسى بـ«إبرة التريكو»
تحولت هواية «هالة.أ» فى أعمال التطريز والتريكو، ونسيج السجاد اليدوى، منذ كانت تشارك فى أعمال التدبير المنزلى خلال فترتى دراستها بالثانوية العامة، إلى «حرفة» تتكسب منها مبلغا بسيطا، بعدما تعاقدت معها مستشفى العباسية للصحة النفسية، لتعمل خلال فترة تلقيها العلاج، مقابل أجر شهرى 120 جنيها تستغله فى شراء بعض احتياجاتها مثل «شاى وسكر».
لوحة لبابا نويل بمناسبة رأس السنة
وتؤكد «هالة»، أن حبها للفن جعلها لا تتمنى شيئا، إلا أن تكمل دراستها بمعهد الخدمة الاجتماعية بعد شفائها. وعن سبب مرضها، قالت إنها أصيبت بانفصام ذهانى قبيل الزواج، وبعد زواجها أنجبت طفلة، لكنها مرضت وتوفيت فزادت حالتها النفسية، سوءا، ودخلت للمستشفى، ولم يزرها زوجها نهائيا، وعلمت بعد ذلك من إخوتها إنه طلقها، قائلة: «عنده حق فأنا مريضة وأخفيت عنه مرضى قبل الزواج وأتمنى له حياة سعيدة».
ينطبق نفس الأمر على «أمل.إ»، المريضة داخل قسم العلاج بالعمل، حيث تهوى أعمال التطريز والسجاد اليدوى، والمفارش، مؤكدة أنها نزيلة فى المستشفى منذ 3 سنوات، وأهلها أحضروها بعد أن مرضت نفسيا، وتعلمت داخل المستشفى، ويتم عرض أعمالها الفنية داخل معارض المستشفى، وهى سعيدة بذلك.
«محمد».. فنان أركت «محترف» لا يريد الخروج من المستشفى
فضل «محمد.خ» (37 سنة) أن يمارس هواية فن الأركت، الذى درسه فى مدرسة الزخرفية الثانوية، حيث يستمتع بممارسته بإشراف القائمين على ورشة الأركت داخل مستشفى العباسية.
يقول «محمد»، إنه كان يعمل فى الأساس نقاشا، وارتبط بأكثر من فتاة وكان ينفصل عنهن، بعد مدة قصيرة من فترة الخطوبة، وبعد وفاة والديه أصبت بحالة نفسية، لحزنه الشديد عليهما، فذهب لأكثر من مستشفى منذ عام 2005، ثم أتى منذ عام واستقر فى مستشفى العباسية ووجد راحته فيها، حتى أن الأعمال الفنية التى ينتجها تعرضها الإدارة فى معارض كتشجيع له.
مريضة ترفع مشغولاتها
«نفسى أخرج من هنا على المدافن ثم إلى الجنة علشان أرتاح»، هذا ما أجاب به «محمد» عن سؤاله عن أمنيته حال تماثله للشفاء والخروج من المستشفى، قال «محمد» إنه لا يرغب فى شىء، ولا يرغب فى خروجه من المستشفى بالأساس، لأنه كلما خرج «تنتكس» حالته، وتتحول للأسوأ لأن المجتمع المحيط به بمنطقة سكنه خارج المستشفى، ينظر إليه كإنسان غريب عنه، لذلك يفضل عدم الاختلاط بالناس.
فى هذا يؤكد «سعيد عبده»، موظف فى قسم العلاج بالعمل بمستشفى العباسية للصحة النفسية والمسؤول عن ورشة الأركت، إنه يراعى فى تعامله مع المرضى النفسيين حالتهم الصحية، قائلاً: «إنه يجب التعامل معهم كأطفال صغار ونحتاج إلى مزيد من الصبر معهم، وأنه يسعى دائما إلى تشجيع المرضى حتى لو لم ينتجوا شيئا فى البداية».
وأشار سعيد عبده إلى أن كل المرضى يمكن أن يتعلموا مهنة وفنا من الفنون، حسب درجة مرضهم، وحينما يأتى مريض لقسم العلاج بالعمل نرى مؤهلاته ودراساته ومهنته السابقة، وبناء على كل ذلك نحدد له أفضل عمل يمكن أن يقوم به.
«ياسر» عاشق عبدالحليم حافظ أدخله «الحب» مستشفى العباسية
يقول «ياسر. ص» 47 سنة، مريض نفسى ويتردد على المستشفى على فترات، بعد أن تعافى من المرض إلى حد ما، إنه يحب الغناء ويشارك فى العروض والمسابقات الفنية على مستوى المستشفيات، كما أن لديه موهبة أخرى وهى لعب المصارعة وحصل على بطولات كثيرة.
وعن سبب مرضه يقول «ياسر»، إنه كان يحب ابنة الجيران حبا كثيرًا، لكن أهلها رفضوا تزويجها له، وبعد محاولات كثيرة منه، تقدموا ببلاغ ضده فى قسم الشرطة وحكم عليه بشهر مع إيقاف التنفيذ لأنهم ادعوا محاولته الاعتداء على ابنتهم، ثم اتفق أهله وأهلها على إدخاله مستشفى العباسية للصحة النفسية فى التسعينيات.
يضيف «ياسر» أنه كونه عاملا فى شركة مياه، لا يخالط الناس فى الشارع، ويفضل الذهاب إلى المستشفى لممارسة هوايته الغناء، قائلاً إنه يعشق العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ والفنان حسن الأسمر وهانى شاكر.
طبيب نفسى: الفنون تعالج المرضى النفسيين والسينما «تشوه» صورتهم
من جانبه يؤكد الدكتور حسام صبرى، الطبيب بقسم التأهيل النفسى فى مستشفى العباسية للصحة النفسية، أن الفنون تساعدهم فى علاج المرضى، داعيا فئات المجتمع أن تصحح الصورة الذهنية التى شوهها التليفزيون والسينما عن المرضى النفسيين، ووقف وصفهم بـ«الجنون»، مؤكدا أنه «على العكس فالمريض النفسى يميل إلى الهدوء والطيبة ولا يميل للعدوانية والعنف كما يعتقد الكثير.
لوحة لتنشيط السياجة
ونفى الطبيب بقسم التأهيل النفسى صحة ما يعتقده البعض من أن «المعالج» يتعامل بعنف وقسوة ويعذب المرضى، مثلما يظهر فى الأفلام، قائلاً: «حتى القميص الذى يرتديه المريض فى الأفلام بالعكس لا وجود له فى قطاع الطب النفسى».
ويوضح «صبرى» إن قسم التأهيل النفسى بالمستشفى الغرض منه التأهيل النفسى للمريض، وتنمية القدرات والمهارات الخاصة وتعزيز الثقة فى نفسه، فمثلا فى مجال الرسم، يشترك عدد من المرضى معا فى تنفيذ عمل فنى واحد، وبالتالى تنمو لديهم روح العمل الجماعى والاندماج مع من حولهم، كما أن اختيار الموضوع الذى نرسمه، يحفز لدى المريض دافع التفكير العقلى، وكذلك اختيار الأدوات والألوان، حيث نُعَوِّد المريض على الحفاظ على أدوات الرسم واللوحات، مما ينمى لديه الاهتمام بمقتنياته، ثم بعد ذلك نطور من أداء المبدعين، ويمكن أن نتعاقد معهم فى المستشفى بمقابل مادى يتقاضونه شهريا على أعمالهم».
ويشير طبيب قسم التأهيل النفسى، إلى «أن البعض يعتقدون أن المريض النفسى لا يشفى أبدا من مرضه، ويتعاملون معه بحذر، لكن المريض النفسى يمكن علاجه وإدماجه مرة أخرى فى المجتمع، فمثلاً: «جون فوربس ناش وهو رياضى أمريكى الذى كان مهتم بنظرية الألعاب والهندسة التفاضلية، كان مصاباً بمرض نفسى هو الفصام، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يكون عبقريًا ويحصل على جائزة نوبل».
عدد الردود 0
بواسطة:
مصرى
انشاء معهد قومى للصحة النفسيةوالمخ والاعصاب ومستشفى بكل محافظة او قسم بالمستشفيات العامة
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد
فعلا
بتوع سرايا صفرا
عدد الردود 0
بواسطة:
خالددد
الله يسامحكم